إلى الوالدة في أول إضحى بعد رحيلها، وإلى كل الوالدات اللائي ودعن الحياة الدنيا، دون أن يكون أبناؤهن من المودعين، بحكم القهر، (وأعتذر لمن قد تنغص عليه هذه الخاطرة فرحة العيد)... لا أملك يا أمي من وطني غير ممر ضيق في الأثير، كي أطل عليه من بعيد... هو أثير الله، غير أنهم وضعوا عليه اليد وامتلكوه، ثم باعوه لنا وراقبوه.. من هناك أطلّ على وطني خفيفا محتشما، أبحث عنك... أتشمم رائحتك الزكية العطرة.. كان صوتك يأتيني عبر السلك نديا وطريا، مؤمنا، فيخفف من وجعي، ويسكن من ألمي، ويهدئ من روعي... من قال إني كبرت يا أمي؟... تحيا طفولتي فيَّ كلما ذكرتك أو تذكرتك.. في هذا العيد وككل عيد، اتصلت أتقفى آثارك.. لكن دون جدوى... ذهب الصوت العميق، الصادق بلا حدود.. الحاضر الغائب في كل مكالماتي مع أصول الأسرة و فروعها.. تقلبت بين الأصوات.. كانت غائبة بحضورها، إلا صوتك، فكان حاضرا بغيابه... كان الكل غائبا إلّاك.... عطشي يا أمي لم يُروَ ولا أظنه يروى، ولذلك أنا الآن أرويه لأحبابي علِّي أخفف شيئا من الظمإ... بتّ يا أماه على عطشي في العيد... صوت أختي، بنت بطنك يا أمي، كأن جمرات تحرقني... نبراتها تنسفني... تحز القلب بسكين وتبذر شوكا في حلقي... سلمت عليها، قلت سلام رائحة من أمي، قالت: أهلا ظلا من أمي، وبكت فبكيت..... ألست قد قلت: إني طفل يا أمي؟ كان الأمل أراك، بعد العسر يا أمي أراك، بعد العشر في المنفى أراك.. لكن العصر لئيم، وأملي فيه عقيم، لم يبق إلا وجع فيَّ مقيم... هذا زمن الوجع، لا يأتي إلاّ بالوجع... لم يبق إلا جسد منك مدفون، في جزء من وطن مغبون.. أتدرين يا والدتي؟.. كل حنان بعدك وإن أبدى الصدق يرائي... كل حبّ بعدك لم ينفذ بين كسائي ليرقد في أحشائي... كنت أود أُقبّل جسر الجنّة بين يديك، في قدميك.. لكن الظلم القابع في وطني، وفي كل الأرجاء، حولني إلى أشلاء، حين ألملم شِلوا، أفقد آخر في الأثناء.. جزء بالسجن تبقَّى، وآخر في المنفى، والباقي في ركن ناءٍ.. أعرف يا أم أنك لم تضمري شرا، لم تعرفي شرا، لم تفهمي كيف يصول الذئب نهارا بين القطعان، والناس تصفق للذئب وتأكل مما ترك السبع، ومع ذلك تلهج بالحمد، وتشد السيف أكثر في الغمد، والذئب يعزز بندا بالبند، ويغتال عقلنا في المهد.. إذن فالعيد يا والدتي قد جاءني بالوجع، الجرح الغائر تحرك بالوجع، الصوت القادم قبلا يثبت فيَّ حبا، طهرا، أملا، هذي المرة لم يأت... لكن عزائي، أنك عند الربّ الأكرم، فهلاّ مددت يديك سلاما؟ هلاّ أراك وإن كان مناما؟؟!!