مدينة " الكاف "، هي إحدى المدن التونسية الصاحية في ذاكرة الزمن المر، والمحفورة بين ثنايا التربة الملوّنة بوجوه المزارعين، وجباه الفلاحين، وسواعد الكادحين، وعرق الشغالين، والغائصة في عمق التاريخ، والمستيقظة من ركام الوجع الوطني، والآتية من شظايا الثورة والثوّار، حيث تخبأ بين جدرانها، بين حاراتها، بين جبالها، بين غاباتها، بين هضابها، بين وديانها، بين مرتفعاتها، بين بلداتها المتناثرة على الحدود الجزائرية عناوين ومواقع وآثار الاصطفاف والانحياز للثورة الجزائرية. حيث كانت هذه المدينة المحلقة فوق هامات الجبال كانت زمن الاستعمار الفرنسي إحدى القلاع الخلفية، والحصون الطليقة لاستراحة المجاهدين الجزائريين، من أجل ترميم الجراح واستعادة الأنفاس. كانت هذه المدينة المنحازة للتحرر والانعتاق الحضن الدافئ للجرحى والمرضى، والمصابين بالقنابل والرصاص، وجسرا لعبور اللاجئين، وممرّا للأغذية والدواء والذخيرة.. فلم تكن هذه المدينة تعترف بالحزن الإقليمي، والمصير الإقليمي، ولم تتوار خلف الأبواب الموصدة، ولم تتلحف الصمت، بل انخرطت ميدانيا دون استئذان ودون طلب رسمي في نجدة الأشقاء، ذلك لأن أهالي وأناس ومواطنون هذه المدينة المعطاء، آمنوا ويؤمنون أن الوجع واحد، والجرح واحد، والمصير واحد، والطموح واحد، والأمل واحد، والمحتل قبح وجهه واحد، فخيّروا الفعل بدل الانسحاب واللامبالاة، ممّا أجّج غضب فرنسا، فانقضّت بطائراتها الحربية تقتصّ ثأرا من تضامن هذه المدينة، ونجدتها لثورة الجيران أبناء التاريخ المشترك، والانتماء المشترك، والواقع المشترك، لتنهمر قنابل الحقد يوم 8 فيفري 1958 على سوق شعبية للمواشي والأغنام، يرتادها تونسيون وجزائريون في بلدة " ساقية سيدي يوسف " التابعة لمحافظة الكاف، فتتطاير أجساد مواطنين عزّل أبرياء قطعا متناثرة متكوّمة في كل مكان، وتدفقت الدماء انهارا تروي أرضا عطشى للحرية والانعتاق، امتزج فيها الدم التونسي بالدم الجزائري، وتطاير اللحم البريء وتناثرت الأجساد، وبذلك تدفع هذه المدينة من لحمها من حزنها ثمنا باهظا، وذنبها أنها وقفت في نفس خندق الأحرار، ورفضت ذل المحتل وقهر الاستعمار.. " الكاف " مدينة تتحدّى مخالب الاستبداد رغم أن مدينة الكاف مدينة السهول والحقول والبراري والجبال والغابات والأشجار والحبوب والأراضي الشاسعة، وثراء التربة وخصوبة التراب، والثروة الحيوانية والإنتاج الزراعي الغزير الذي يساهم بقسط كبير في تغذية أنحاء البلاد التونسية، إلا أنها كبقية مناطق الشمال الغربي بقيت على رصيف الصبر وعلى ضفاف الترقب في أسفل الخريطة، تعاني الاختزال والاحتقار واللامبالاة. وظل التمييز الجهوي قدرها وقدر أبنائها جيلا بعد جيل، حتى جاء الانقلاب الطبي، وجاء معه صانع " صندوق 26/ 26 "، الذي كثيرا ما امتدحه الساكتون عن الحق، حتى كدنا نعتقد إغماءة أو بلاهة،أن هذا الصندوق الأسود منحة من السماء، ورمزا للخلق والإبداع، وإحدى ركائز شرعية الدولة المعدنية.. وعرفت المدينة مع هذا العهد الحديد أسوأ أعوام القهر والاستبداد الأمني، حتى كانت سنة 1991 فكانت مدينة " الكاف " فريسة للتسلط البوليسي بكل مشتقاته، وشهدت المدينة وبلداتها حملات غبراء لونتها الاعتقالات العشوائية، صاحبتها حصص التعذيب الذي تجاوز حدود الواقع والخيال، بمساندة سلطة جهوية هي عبارة عن خلية أمنية لا تختلف عن فرق التفتيش والبحث والإرشاد. ومن جديد تدفع هذه المدينة الجريحة ثمنا باهظا، وذنبها مرّة أخرى أنها مجاورة للجزائر التي في تلك الفترة نجحت فيها " الجبهة الإسلامية للإنقاذ "، وحققت فوزا كاسحا، ممّا جعل الأمن التونسي يستنفر في هجوم استباقي مخافة تسرّب " العدوى " ليلقى القبض على كل من يشتمّ منه رائحة التشبث بالهوية والتمسّك بالقيم والانتماء، وسرعان ما سدّت المنافذ، ولنا أن نلاحظ أن اللاجئين السياسيين الموزعين في دول العالم من منطقة " الكاف " عددهم قليلا جدا مقارنة بالجهات الأخرى، ذلك لأن هذه المدينة كانت أولى المناطق التي ارتكز عليها الرجم الأمني دون رحمة ودون استراحة. ممّا لم يترك الوقت والمكان والفرصة لكي يتمكن البعض من مغادرة البلاد، فقد تشابهت العهود على هذه المدينة التي ظل الغضب غليانا متأجّجا في الصدور، ينتظر ساعة التصريح الميداني، ليكون هذا الغضب بحجم سنوات الغصّة، وبلون سنوات الضيم والهوان، ولنا أن نسأل ونتساءل لمن شاهد على أحد الفضائيات ذلك المواطن من مدينة الكاف، الذي يلبس قبّعة ونظارات سوداء، ذاك المبحوث عنه منذ سنة 1990، والذي ظل 21 سنة مختبئا في مستودع، وأنا أحد الشهود الأحياء الذين سئلت عنه في فترة الاعتقال أواخر سنة 1991، ذاك هو المختفي طيلة كل هذه المدة، " سمير بن عليّة " الذي آثر الاختفاء والاختباء في ظروف منهكة، وفي وضعية مأساوية، بدلا من السجن والاعتقال لأن التعذيب والقهر والتوحّش البوليسي يفوق كل تصوير وكلام.. لتدفع هذه المدينة الجريحة فاتورة عالية عبر المئات من المواطنين من مختلف الأعمار والطبقات، ممّن ابتلعتهم السجون والمعتقلات، ومخافر التفتيش ومحاكم الحيف والجور، أيام سنوات الرعب وسنوات القهر، وسنوات الرفس، وسنوات الجدب، ونذكر منهم المهندس " التومي المنصوري " الذي تعرّض لأبشع أنواع التعذيب والجلد والحرمان، فكان نموذجا في الشجاعة والصبر وتحمل الأذى، وعدم التأوّه والانكسار، " ومختار النموشي " الذي كان أول من ابتكر إضراب الجوع، والذي رغم جسده النحيف كان في صلابة الجبال، والتلميذ " نوفل بولعابة " الذي قاسى عشرات السنوات في سجون ومعتقلات جمهورية الاستقلال، والقاضي الأول ذاك الإطار السامي " صالح بن عبد الله " الذي لم يكتفوا بسجنه كل تلك السنوات الطوال، بل لما أطلق سراحه حوصر في قوته، فاضطر إلى النزول للأسواق وعلى كتفه صندوق خضار، لبيع البصل والبطاطا والبحث عن ربع رغيف حلال، ومع ذلك كان عرضة للاستجواب والمحاضر والاعتداء، كما نتذكر " عمر قرايدي " ومعاناته ابتداء من رحلة التيه وتسليمه من الجزائر إلى مقرات وزارة الداخلية الغبراء، وسنوات الملح الذي قضاها وراء القضبان، وصولا إلى انضمامه إلى قلعة حرية وإنصاف حيث بقي واققا رافضا الزحف والانحناء، دون أن ننسى ما قدمته هذه المدينة من شهداء خصّبوا تربة هذه الأرض المعطاء، أمثال " المهندس أحمد العمري "، والتلميذ " الطيب الخماسي " وزكرياء بوعلاق"، "وجلال الجبالي"، "وخالد اليعقوبي" وغيرهم... وآخرون ممّن لفظتهم سجون القهر وهم أشباه أموات في انتظار تذكرة مرور إلى العدالة الإلهية ومنهم: - زهير الكلاعي - جمال العياري - علي الحيدري - والعديد ممّن تبرّعوا بدمائهم بأجسادهم بأرزاقهم بمناصبهم، من أجل أن تكون لنا عزة وكرامة، من أجل الحفر في الجدران العازلة، كي يبزغ فجر الثورة المبشرة بشعاع الشمس..
نجيب حسني - عمر الواني - الامجد الباجي - أيها الواقفون دون انحناء لم تكن مدينة الكاف طيلة السنوات العجاف عقيمة، ولا كانت كما أرادوها ملقحة ضد الخصوبة، بل رغم محاولات التهشيم، رغم محاولات التحطيم إلا أن هذه المدينة المتربعة في وجدان التاريخ، بقيت أرضا قادرة على العطاء، ولم تبخل بإنجاب الأحرار والشرفاء، الذين وقفوا سدّا منيعا ضد رياح السموم، وضد هبوب عواصف التجمد والقنوط. ليكون المحامي " نجيب حسني " أحد الأبناء الأوفياء، الذي ظل شامخا في وجه الطغيان طوال أعوام الرماد، لم ينحن ولم يتخلّ عن الفعل والنضال، حتى أنه تحوّل إلى أرقا مزمنا في رأس دولة الجور والاستغلال، وبات تعبيرة من تعبيرات الرفض وعدم الاستكانة والانصياع، ممّا أثار خفافيش الظلام، الذين دبّروا له مكيدة ثمنها السجن والتعذيب ثلاث سنوات، ويعود من جديد إلى ساحة الميدان، ليواصل ويتواصل مع الأهالي، ومع مدينة لم يبخل بالدفاع مجانا عن أبنائها في أحلك فترات محاكم الحيف والجور والاستبداد، ليظل جزء من تاريخ مدينة تأوّهت كثيرا تحت أحذية جمهورية الاستغلال. كما أن هذه المدينة التي لم تصب بالجحود والنسيان، لم تنس وبقيت تتذكر ذاك المحامي " عمر الرواني - (أيوب الصابر) " الذي امتنع عن الكلام المباح، واختار الصمت دون كلام، ولكنه صمت في شكل رفض وعصيان، صمت في شكل تمرّد وغليان، صمت يشبه ضغط المسامير في الجدران، صمت يعادل الثورة ضدّ ثقافة الرداءة والأصنام، ليكون صمته أبلغ من اللوائح والعرائض وأشد من بلاغة البيان، ذلك لأن صمته لم ينحز لتبرير الجريمة ومساندة الشيطان، بل صمتا كان ينتظر لحظة الفوران، ليرفع الغطاء وندرك أنه طيلة كل هذه السنوات كان متخندقا في الخفاء إلى جانب الأحرار والشرفاء، دون أن يكون اسمه ظاهرا للعيان. كما أن هذه المدينة التي لم تمل حيث مالت الرياح، بقيت مرفرفة، تزينها ريشة أحد أبنائها الأوفياء " الأمجد الباجي " صاحب القلم الثائر على ثقافة التفاهة والانحدار، والذي اختار التمركز على حدود منبر " تونس نيوز " ليرسم لوحات في الفن والفكر والنقد والتصدي لثقافة الصهينة والخراب.
وللمدينة حكايات أخرى تختزن مدينة الكاف في ذاكرتها وعلى سفوح جبالها قصصا وحكايات وتوايخ ومشاهدات وعيّنات، طبعها أولئك المنفيون داخل وطنهم من أمثال: المهندس في الإعلامية " فريد التليلي "، الذي بعد أن سجن خمس سنوات، تمكن رغم كل أشكال الحصار من الشغل في أرقى الشركات، وظل منفيا في وطنه، وخيّر التحرّك باسم مستعار، تسكنه مدينة لم تختزلها من ذهنه من وجدانه سنوات الغيوم والضباب، كما هو الحال بالنسبة لابن المدينة الذي يختزن الودّ والعرفان " عبدالله المناعي "، صاحب القلم الصاحي في زمن السبات، والذي بقي متواريا عن الأنظار، في مدينة أخرى ينتظر ساعة الانفجار وساعة الانبلاج، تماما كمثل " منصف بوسحاقي"، وحيد عائلته هذا الطالب الذي تعرّض للسجن والاعتقال، وتوفي والده وهو خلف القضبان، والذي ظل 7 سنوات ممنوعا من التحرك والشغل، يوقع يوميا في مخافر البوليس يخضع للمراقبة والحصار، ومع ذلك تمكن من الدراسة في الخفاء، ليتحصّل على " ديبلوم " مهندس سمعي بصري، لينتصر على واقع الحراسة وكل أنواع الوشاية والإذلال، دون أن يفوتنا التعريج على قصة الطبيب " عبد اللطيف المكي " الذي كان أحد عناوين الصمود والنضال، ابتداء من السجن الذي أمضى فيه 10 سنوات، مرورا بمعركة إضراب الجوع الذي استمرّ شهرا من أجل مواصلة الدراسة وإتمام المشوار، والذي انخرط فيه إلى جانبه كل الشرفاء والأحرار، توّج في النهاية بالفوز والانتصار، لتبقى هذه المدينة عنوانا بارزا بين ثنايا التاريخ..
أصحاب الكلمة- أولاد بومخلوف- إبداع لا يذبل ولا يذوب رغم تواري الأعوام والسنون، رغم مرور الأيام والشهور، رغم تجاعيد الزمن وانطواء العهود ما زالت تقاسيم فرقة " أصحاب الكلمة " صاحية في الذهن والوجدان، وخفقانا نابضا في ذاكرة مدينة الكاف، التي ترفض القنوط والسهاد، وتردّد مع مجموعة أصحاب الكلمة أولئك الذين أسسوا طريقا للفن الملتزم، وغنوا للحلم الثائر أنشودة السفر، يترجمون نبض الشوارع البتراء، ولغة الأحياء الحدباء، وتأوه الأرياف الجدباء، وأحلام الكادحين البتراء، ليزرعوا عبر تلك السنفونيات بذور التحدّي والرفض والممانعة وعدم الانحناء.. ويكون شدو فرقة " أولاد بومخلوف " أبناء الكافالعالية، الذين غنّوا للحرية للثورة لفلسطين الذبيحة، للوجع العربي، لجراحات الوطن الكسيح، للمدن الغارقة في تلاوين النزيف المتشبثة ببذور العزة والبقاء..
فشكرا يا مدينة الكاف، شكرا يا مدينة ظلت واقفة دون طأطأة ولا انحناء، شكرا يا تلك المدينة التي أبت الخضوع وفضلت رفع الرأس والتطلع للسماء، وبقيت منتصبة على أعالي الجبال، ككل المدن التونسية المعطاء، تردّد على مرّ السنين والأعوام نشيد شاعر الثورة والحرية: سَأعيشُ رَغْمَالدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِالشمٌاءِ فمليون شكر يا مدينة خضّبت تربتها منذ سنوات خلت دماء الشهداء، وروتها أجساد الطهر والإباء، أولئك الشهيدين الذين سقطوا فداء لما بعد ثورة الحرية والعلياء، شكرا يا مدينة يشرفني أن أكون أحد أبنائها الأوفياء، وتظلين مدينة لم تزلزلها تتالي المحن، وبقيت على مر الزمن ترفض تبييض أحذية الاستبداد... ---------------- الطاهر العبيدي* [email protected] * أبن مدينة الكاف المنفي الذي لم يرها منذ 15 جانفي 1992 حين تمكنت من الفرار من المحكمة بعد الإعلان مباشرة بالحكم عليّ بالسجن وقريبا إن شاء الله أعود