العثور على شابين مقتولين بتوزر    حفوز: العثور على جثث 3 أطفال داخل خزّان مياه    حفوز: العثور على جثث 3 أطفال داخل خزان مياه    باجة: اطلاق مشروع "طريق الرّمان" بتستور لتثمين هذا المنتوج و ترويجه على مدار السنة [صور + فيديو]    التهم الموجّهة لبرهان بسيّس ومراد الزغيدي    شركة "ستاغ" تشرع في تركيز العدّادات الذكية "سمارت قريد" في غضون شهر جوان القادم    افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك وسط العاصمة لعرض منتوجات فلاحية بأسعار الجملة وسط إقبال كبير من المواطنين    وزارة التجارة: تواصل المنحى التنازلي لأسعار الخضر والغلال    قادة الجيش يتهمون نتنياهو بتعريض حياة الإسرائيليين والجنود للخطر وهاليفي يؤكد إن حرب غزة بلا فائدة    مؤشر جديد على تحسن العلاقات.. رئيس الوزراء اليوناني يتوجه إلى أنقرة في زيارة ودّية    البطولة العربية لالعاب القوى (اقل من 20 سنة): تونس تنهي مشاركتها ب7 ميداليات منها 3 ذهبيات    رسمي.. فوزي البنزرتي مدربا للنادي الإفريقي    رجة أرضية بقوة 3.1 درجة على سلم ريشتر بمنطقة جنوب شرق سيدي علي بن عون    أخصائي نفسي يحذّر من التفكير المفرط    جربة.. 4 وفيات بسبب شرب "القوارص"    وفاة 3 أشخاص وإصابة 2 اخرين في حادث مرور خطير بالقصرين    المحكمة الابتدائية بسوسة 1 تصدر بطاقات إيداع بالسجن في حق اكثر من 60 مهاجر غير شرعي من جنسيات افريقيا جنوب الصحراء    سليانة: عطب في مضخة بالبئر العميقة "القرية 2 " بكسرى يتسبب في تسجيل إضطراب في توزيع الماء الصالح للشرب    مدنين: نشيد الارض احميني ولا تؤذيني تظاهرة بيئية تحسيسية جمعت بين متعة الفرجة وبلاغة الرسالة    سيدي بوزيد: تظاهرات متنوعة في إطار الدورة 32 من الأيام الوطنية للمطالعة والمعلومات    زهير الذوادي يقرر الاعتزال    نقابة الصحفيين تتضامن مع قطاع المحاماة..    مصر تهدد الاحتلال بإنهاء اتفاقيات كامب ديفيد    في الصّميم ... جمهور الإفريقي من عالم آخر والعلمي رفض دخول التاريخ    أخبار الأولمبي الباجي: تركيز على النجاعة الهجومية    سبيطلة.. الاطاحة بِمُرَوّجَيْ مخدرات    ر م ع الصوناد: بعض محطات تحلية مياه دخلت حيز الاستغلال    صفاقس تتحول من 15 الى 19 ماي الى مدار دولي اقتصادي وغذائي بمناسبة الدورة 14 لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية    امين عام التيار الشعبي يلتقي وفدا عن حركة فتح الفلسطينية    سيدي بوزيد.. اختتام الدورة الثالثة لمهرجان الابداعات التلمذية والتراث بالوسط المدرسي    المالوف التونسي في قلب باريس    الناصر الشكيلي (أو«غيرو» إتحاد قليبية) كوّنتُ أجيالا من اللاّعبين والفريق ضحية سوء التسيير    نتائج استطلاع رأي أمريكي صادمة للاحتلال    إصدار القرار المتعلّق بضبط تطبيق إعداد شهائد خصم الضريبة من المورد عبر المنصة الإلكترونية    حضور جماهيري غفير لعروض الفروسية و الرّماية و المشاركين يطالبون بحلحلة عديد الاشكاليات [فيديو]    اليوم: إرتفاع في درجات الحرارة    حوادث: 07 حالات وفاة و اصابة 391 شخصا خلال يوم فقط..    انشيلوتي.. مبابي خارج حساباتي ولن أرد على رئيس فرنسا    وزير الخارجية يلتقي عددا من أفراد الجالية التونسية المقيمين بالعراق    عاجل : برهان بسيس ومراد الزغيدي بصدد البحث حاليا    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مع الشروق .. زيت يضيء وجه تونس    قيادات فلسطينية وشخصيات تونسية في اجتماع عام تضامني مع الشعب الفلسطيني عشية المنتدى الاجتماعي مغرب-مشرق حول مستقبل فلسطين    حل المكتب الجامعي للسباحة واقالة المدير العام للوكالة الوطنية لمقاومة المنشطات والمندوب الجهوي للشباب والرياضة ببن عروس    الدورة 33 لشهر التراث: تنظيم ندوة علمية بعنوان "تجارب إدارة التراث الثقافي وتثمينه في البلدان العربيّة"    النادي الافريقي - اصابة حادة لتوفيق الشريفي    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    مدير مركز اليقظة الدوائية: سحب لقاح استرازينيكا كان لدواعي تجارية وليس لأسباب صحّية    نحو 6000 عملية في جراحة السمنة يتم اجراؤها سنويا في تونس..    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    أسعارها في المتناول..غدا افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة    عاجل : إيلون ماسك يعلق عن العاصفة الكبرى التي تهدد الإنترنت    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    بعيداً عن شربها.. استخدامات مدهشة وذكية للقهوة!    تونس تشدّد على حقّ فلسطين في العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتّحدة    في تونس: الإجراءات اللازمة لإيواء شخص مضطرب عقليّا بالمستشفى    منبر الجمعة .. الفرق بين الفجور والفسق والمعصية    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقدمات للصوغ الدستوري المناسب
نشر في الحوار نت يوم 11 - 03 - 2011


أبو يعرب المرزوقي..
تمهيد
كل كلام في القانون الدستوري من دون مقدمات تبين الأسس الفلسفية والسند الانثروبولوجي دليل على نية إخفاء الخيارات الإيديولوجية للمتكلم إن لم تكن دليلا على معرفة تقنية ساذجة لم يتجاوز صاحبها الغفلة عن أسس خطابه الذي يدعي له العلمية. وحتى نحنب شباب الثورة الوقوع ضحية لمثل هذه المغالطات التي تحصر المسألة الدستورية في فنيات صوغ تفاصيل إجراءاتها القانونية نقدم في هذه المحاولة بعون الله بعض الخطوط العريضة لما نرى أنه ينبغي أن يدور حوله النقاش الدستوري القادم حتى يكون عمل المجلس التأسيسي متحررا من جبروت المتعالمين من العلمانيين بالمعنى اليعقوبي للكملة.
فالمعلوم لكل ذي بصيرة أن مقومات الدساتير ليست بالأمر التحكمي وأنها لا يمكن أن تتصور بمعزل عن تراث الأمة التي تصوغ دستورها بحرية صوغا يجعله ينال الرضا والقبول شرطي كل نظام مغن عن العنف والاستبداد. كما أن هذه المقومات ليست بالأمر الخالي من الالتزام بفلسفة معينة إذ حتى العلوم الصلبة فضلا عن العلوم الرخوة تبين الإبستمولوجيا الحديثة أنها تتاسس على خيارات فلسفية محددة تتمثل حيويتها في تعميق هذه الأسس ونقدها المتواصلين. كما أن مقومات الدساتير من حيث هي دساتير ليست بالأمر الذي تجدد بعد أن لم يكن بإطلاق لكأنها خلق عن عدم بل هي ملازمة للعمران البشري والاجتماع الإنساني على الأقل من حيث المضمون الجوهري لمعنى الدستور الناظم للحياة الجماعية في أشكالها السياسية والقانونية.
لكن هذا التلازم بين مقومات الدساتير والعمران البشري لا يعني أنها ليست متغيرة أو متطورة من حيث الشكل وخاصة من حيث ظهور المضامين الأساسية وانتقالها من الضمنية إلى الصراحة بمقتضى تطور الوعي بها والانتقال من الثقافة الشفوية إلى الثقافة الكتابية. فذلك حاصل لا محالة بالتضايف مع تغير العمران وتطوره في وجوده وفي الوعي بوجوده. لذلك فالكلام عليها يجمع حتما بين الفلسفة والتاريخ جمعا يكون من منظور انثروبولوجي يولي لتاريخ الثقافات ما تستحقه من اهتمام ولا يقتصر على مجرد الميول الشخصية في التقليد والمحاكاة باسم خيارات ايديولوجية لا تراعي خصوصيات الشعوب. وبين أن مقومات الدساتير تقبل من حيث ثوابتها البنيوية الكلية والمشتركة بين كل الأمم التحديد الفلسفي القبلي. لكنها لا تقبل العلم من حيث تغيرها وتطورها إلا على أساس تعيناتها التاريخية الخاصة بالحضارات حضارة حضارة. ومن ثم فصوغ أي دستور ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار هذين الوجهين:
الثوابت البنيوية في الدستور من حيث هو دستور دون تعيين. وهي ثوابت يمكن أن نحددها بصورة شبه قبلية لكون دور التاريخ فيها دورا ثانويا.
ثم تعينات تلك المحددات البنيوية في تاريخ حضارة من الحضارات وهي تعيينات لا يمكن أن تعلم قبليا بل لا بد فيها من رصد المسار التاريخي لكون دور المنطق فيها جورا ثانويا.
وإذا انطلقنا من آخر مراحل تطور الصوغ الدستوري في الدساتير الحديثة وجدنا صوغ هذه المقومات قابلا لتعريف يقبل الحد التالي: فهو صوغ صريح للنظم التي تستمد مما يعتقد قيما كلية في عصرنا بمقتضى علمنا لما يناسب كيان الإنسان عامة جسده وروحه في وجوديه الفردي والجمعي. لكنها تأخذ بعين الاعتبار مراحل نضوجه خاصة. وغالبا ما يكون ذلك مشفوعا بمقدمات تعين هذه العوامل المأخوذة بعين الاعتبار في شكل تلخيص لمناقشات المجلس التأسيسي أو اللجان المعدة لمسودة الدستور. وفي كل دستور يسهم فقه القانون نظريته وممارسته ثم أخلاق الأمم بمعنى التقاليد الخلقية أو المعروف والمنكر Sittlichkeit.
ومن ثم فهو صوغ يعين هذه القيم كما تحدد بمقتضى مراحل تأنس الإنسان تأنسه المتدرج من خلال تنوع الثقافات المحققة لتلك القيم الكونية. ويمكن أن نقدم تحليلا فلسفيا يحدد نماذج الصوغ الدستوري من خلال ما حدد بنية تعينه التاريخي المعلوم انثروبولوجيا أعني من خلال خضوعه لنموذجين متقابلي الصيرورة وكلاهما مضاعف على الأقل في تراث أمم الشرق الأدنى (مصر وما بين النهرين وفينيقيا قرطاج) والغرب الأدنى (اليونان وإيطاليا المتلفتة إلى يونان والشرق الأدنى أي في الجملة حضارات الأبيض المتوسط جميعا شرقيها وغربيها من التاريخ القديم إلى الآن):
1-نموذج التعين في السنن أو الشرائع العرفية التي هي عملية مباشرة وذلك قبل ظهور الدساتير المكتوبة: (وتلك كانت حال الجاهلية عندنا) ولهذا النموذج شكلان:
فالأول يكون تأليفا جمعيا بدون مؤلف معين كالحال في الأدب الشعبي وتعرف عادة بشكلها الأسطوري المؤسس للسنن.
والثاني يكون تأليفا فرديا ينسب فيه التأسيس إلى شخص أو أشخاص معينين يعتبرون حكماء وتنسب إليهم أهم السنن.
2-نموذج التعين في السنن أو الشرائع الفلسفية (=النواميس) التي هي عملية بتوسط النظرية كالحال في ما آل إليه أمر السنن في فلسفة الفارابي. ولهذا النموذج شكلان كذلك. لكنهما مقابلان للشكلين السابقين من حيث الترتيب أعني:
فالأول هو التأليف الفردي لمؤلف معلوم حيث يكون الشارع فيلسوفا معينا (كسولون أو أفلاطون في الشرائع والمعلوم أن أرسطو قد جمع هذا الجنس من الدساتير في كتابه عنها وقد عربه طه حسين).
والثاني هو التأليف الجمعي في العصور الحديثة حيث يكون الشارع جماعة مشرعة من جنس المجالس التشريعية المنتخبة.
وفي الحقيقة فإن طبيعة الصوغ الدستوري من حيث هو نظام السنن التي ينتظم بها المجتمع من حيث ممارساته الأساسية (وهي كما وصفها ابن خلدون قابلة للرد إلى أنظمة بعدي صورة العمران السياسية والتربوية وبعدي مادته الاقتصادية والثقافية) يتقوم بهذه الأشكال الأربعة الموجودة فيه آثارها حتما حتى وإن كان ذلك بترتيب معكوس لما وصفنا: فكل دستور حديث فيه آثار لما كانت عليه الدساتير في البداية. وكل دستور قديم فيه ما يوحي بما سيؤول إليه أمر الدساتير في الغاية: أعني المقومات البنيوية المحددة للدستور من حيث هو دستور.
فالشكل الغاية عودة إلى الشكل البداية. لكن العودة تجعل ما كان ضمنيا يصبح صريحا: أي إن القوى السياسية المعبرة عن قيم الجماعة والتي تعين المجلس التأسيسي باختيار من تعتبره ممثلا للحل والعقد في الجماعة أصبحت صريحة الوجود المؤسسي لكنها حتما هي التي كانت تحدد المعروف والمنكر قبل أن يصبح ذلك موضوع نصوص مكتوبة تنسب إلى مؤلفين معينين. ودون شك فإن ممثلي الجماعة في التأسيس الدستوري أو ممثلي الحل والعقد في الجماعة يغلب عليهم حتما التأثر بنظريات فلسفية معينة تكون هي بدورها تجاوزا نقديا للصوغ العرفي الذي هو أخلاق الجماعة وتقاليدها كما تعينت في منتج حكمائها الذين لهم القدرة على إدراك السنن الكامنة في تقاليدهم المتماشية مع ما يرضي الجماعة. لذلك تكون هذه السنن هي ما تقبله الجماعة دون إكراه. فيكون الحكماء هم من يُطاع لمهابته بالمعنى الجليل والجميل للمهابة التي تمثل العقد الضمني للثقة بين الشعب والنخبة الصالحة: ومعنى ذلك أن المقصود بالحل والعقد هو إدراك ما يحقق القبول والرضا بصورة تغني عن الحكم العنيف والفاسد أو تحول دونه فيكون ذلك علامة على خروج الجماعة من سلطان تاريخ الإنسان الطبيعي المادي إلى سلطان تاريخه الحضاري والروحي.
لكن هذا النموذج التكويني للصيغ الدستورية شذ عنه نموذج آخر منبعه الشرق الأدنى كالحال في النموذج التكويني فصار في صدام معه لكونه يدعي حقا إلهيا في الحكم. وبذلك صار ما ينسب فيه إلى اللحظة الأسطورية في النموذج التكويني ينسب إلى لحظة الكتب المنزلة في التجربتين المعلومتين لنا والمتقدمتين على نزول القرآن (أعني اليهودية والمسيحية لكون التجارب الأخرى التي يقصها القرآن لم يبق من فعلها التاريخي أثر يقبل الوصف العلمي). لذلك كان الوصل الفلسفي مع هذا النموذج الشاذ أعسر منه مع النموذج الأول لتعقد العلاقة بين المسارين العقلي والنقلي. وقد أثر هذا النموذج الشاذ في الفكر الإسلامي شديد التأثير بسبب ما ورثه علم الكلام والتصوف عامة وفي صيغتهما الشيعية خاصة أثر في الحضارة الإسلامية لأن ثقافة اللاهوت المتقدم عليها كانت مسيطرة في الرقعة التي أصبحت أرضا إسلامية فبرز ذلك خاصة في التصوف وفي التشيع حيث أصبح الحكم جزءا جوهريا من العقيدة وصار الحكم من باب الحق الإلهي.
ولما كان تأثير ذلك النموذج الشاذ قويا وكان عود نظام الحكم في الإسلام طريا فإن الفقهاء عمموه على مؤسسات الدولة الإسلامية فاعتبر الخليفة ظل الله (بتأثير من بيزنطة في الدولة الأموية) وخليفته في الأرض (بتأثير من التراث الفارسي في الدولة العباسية). ولما كان التشيع يقول بما يشبه تواصل الوحي في الأيمة فقد انبنى على هذا القول مؤسسة تنوبه وتحكم باسمه (ولاية الفقيه) وهي أشبه بالكنسية في النظام الشاذ الذي وصفنا. والمعلوم أن ذلك قد مثل جوهر الخلاف بين الخيارين الشيعي والسني فكان شرارة الحرب الأهلية أو الفتنة الكبرى: الخيار بين مدنية الحكم وخضوعه لرأي الجماعة والبيعة أو ألوهية الحق في الحكم وطابعه الوراثي حصرا في آل البيت. لذلك كان أصل جل الحروب الأهلية التي مثلت الفتنة الكبرى والتي لم تكن دائرة إلا حول الصدام بين هذين الخيارين.
لذلك فالفكر السني كان- على الأقل في الواجب ومن حيث المبدأ- متخلصا من نظرية الحق الإلهي في الحكم وقائلا باجتهاد الجماعة في النظام الحافظ للمصالح العامة ومن ثم فهو ليس جزءا من العقيدة (انظر ابن خلدون في فصل الكلام من المقدمة والغزالي في فضائح الباطنية وابن تيمية في السياسة الشرعية المستندة إلى نظرية الأمانة والبيعة برقابة مشددة من الأمة بمقتضى فرض العين الآمر بالمعروف والمنكر). لكننا لا بعد أن نعترف بأنه بخلاف هذا الواجب والمبدأ تحول في الواقع إلى نقيضيهما فوقع في هذا الشذوذ رغم كون فكره في مدرستيه الأساسيتين (الأشعرية والسلفية السويتين) منه براء لاعتبارهما الحكم من المصالح العامة المتروكة لاجتهاد الأمة بخلاف الفكر الشيعي الذي يعتبره من مقومات العقيدة وحقا إليها للأيمة.
الفصل الأول
التخلص من نظرية الحق الإلهي
لن نطيل الكلام في هذه المسألة التي تعتبر جزءا رئيسيا من الحداثة الغربية لأن قصدنا ليس العرض التاريخي بل فهم الفرق بين العلاج اليعقوبي المتطرف المبني على الإرهاب الثوري والعلاج الجرماني المعتدل المبني على الإصلاح الديني (انظر مقابلات هيجل بين الأمرين). ويكفي أن نعلم أن كل الكتابات في الفلسفة السياسية التي بدأ بها العصر الكلاسيكي (من هوبس إلى روسو مروروا بلوك) قد هدف إلى القطع مع هذا الشذوذ الذي أشرنا إليه والعودة إلى وضع المشكل في إطار فلسفي يعالج قضية الحكم بمقتضى قوانين الطبيعة ليقدم لها علاجا يجمع: بين الحق الطبيعي والعقد والقوة ويهدف إلى تحرير الفكر الدستوري من الشذود الذي كان الإسلام قد حررنا منه في الواجب حتى وإن سقطنا فيه في الواقع بمقتضى تأثيره في الكلام والتصوف فكريا وفي بناء الخلافتين الأموية والعباسية ممارسيا. لكن الأهم من ذلك كله-وهو مبتغانا من الكلام فيه- هو بيان أن تخلص الغرب من هذه العلاقة في العصر الكلاسيكي اتخذ شكلين:
الشكل العنيف بل والإرهابي في الفكر اليعقوبي وهذا مفهوم لأن الإصلاح الديني لم يتقدم في أوروبا الكاثوليكية ومن ثم فالظاهرة الشاذة التي أشرنا إليها ظلت فاعلة.
الشكل اللطيف في فكر أوروبا الإصلاحية لأن الإصلاح الديني الذي يركز على دور المؤمن والجماعة والتجذر في تقاليد الأمم بدلا من دور السلطة الدينية المعصومة تقدم فيه على الإصلاح الدستوري ومن ثم فالظاهرة الشاذة خف مفعولها حتى وإن لم يزل بصورة نهائية.
فعاد الفكر الغربي إلى النموذج الطبيعي الجامع بين الفلسفي والأسطوري واقترب من الحل الإسلامي الذي يكون فيه الدين نموذج الحكم المثالي ومن ثم فهو معين المثل العليا المتفقة مع العقل وليس دستورا للحكم الواقع. لكن الفكر الغربي تصور هذه العودة مشروطة بجعل الديني مردودا إلى الأسطوري (وهذا هو جوهر المواقف التي تبنتها فلاسفة المثالية الألمانية بمن فيهم رجال الدين المرموقين كشلايرماخر). ولما كان الصوغ الدستوري المستند إلى الأساطير مبدؤه تأليه قوى الطبيعة وكان الصوغ الفلسفي من جنسه لأنه بناء على قوانين الطبيعة فإن العلاقة بين الأسطوري الطبيعي والفلسفي الطبيعي يسرت علاج القضية الدستورية الوضعية وحالت دون وضعها على الأقل في بعدها التشريعي وضعا يجعلها تتخذ شكل الصدام بين تشريعين إلهي وإنساني رغم أن الإشكالية ظلت موجودة كما هو بين من كتاب شلنج في الحرية الإنسانية (1809).
ومن المفروض- على الأقل في الواجب- ألا يكون المشكل مطروحا بالنسبة إلى السنة في الإسلام لأنها دون حاجة إلى أسطرة الدين المنزل كله بل هي فهمت القرآن باعتباره فاصلا بين الحكم في واقعه التاريخي والحكم باعتباره مثالا أعلي يعرضه الدين ليحقق شرط التنافس في الخيرات: وتلك هي دلالة إزالة السلطة الكنسية وسلطان رجال الدين معوضا لهما بسلطان الجماعة بتوسط ضمائر أفرادها لرعاية الشأن العامل ومراقبة الحكم استنادا إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المبدأ الذي يعدل عمل القوى السياسية واجتهاد الجماعة لرعاية المصالح العامة الدنيوية رعاية لا تتنافي مع المثال الأعلى الذي لا يهمل المصالح العامة الأخروية.
لذلك فكل من يطرح المشكل دون اعتبار هذه الخاصية رادا الموقف الإسلامي إلى الموقف المسيحي والموقف السني إلى الموقف الشيعي وناكصا بنا إلى معركة بين العقل والكنيسة بدعوى تحقيق ما تحقق في الغرب من تحرر من شذوذ القول بحكم الحق الإلهي كل من يفعل ذلك ينصب فخا لمفكري الإسلام المحدثين فيوقعهم فيه حتى باتوا يدافعون عما هو مضاد لمبادئ القرآن (وخاصة منذ أن أصبحت مدرسة المودودي وما عم من فكرها القائل بالحاكمية الإلهية سيدة الموقف عند السلفيين الذين لا يدرون أنهم بذلك قد أسسوا كنسية في الإسلام) خلطا بين ما حدث في تاريخ مؤسسات الحكم الإسلامي التي انحرفت عن قيم القرآن وبين هذه المؤسسات التي حددها القرآن صراحة بخلاف رأي من يزعم أن القرآن لم يحدد نظام الحكم ظنا منهم أن التحديد لا يكون إلا في شكل دستور بالمعنى الفني الحديث للكلمة: فالحاكمية الإلهية حاكمية نموذجية ومثالية وهي السنن التي لا مرد لها لكون كل ما يجري في الواقع يبقى في إطارها دون أن تكون مردودة إلى ما يجري من علاجات إنسانية للتعامل مع المصالح العامة بمقتضى الاجتهاد الإنساني الخاضع للقوى السياسية الفعلية كما يصفها علم العمران البشري والاجتماع الإنساني. إنما هي مثال أعلى يحدد درجات فضل الحلول البشرية بما تأخذه منه من مثل عليا في تحقيق مقاصد الشرع التي هي عينها حقوق الإنسان وواجباته مع اليقين بأنها لا تستطيع الخروج عما يحدده من سنن.
وحتى ندرك ذلك واضح الإدراك فينبغي أن نفهم أن مشكل الحكم في الإسلام السني (على الأقل في مدرستيه الأساسيتين الحنبلية والأشعرية الأوليين) أكثر تعقيدا من النموذجين العرفي والفلسفي ومن الحالة الشاذة القائلة بالحق الإلهي التي وصفنا. ذلك أن النموذج في الإسلام السني فريد النوع: فهو مختلف عن هذين النموذجين الواصلين بين الفلسفة وأديان الأسطورة أولا ثم بين الفلسفة وأديان الوحي ثانيا. إنه نموذج معقد لأنه يبدو جامعا بين الجنسين ومانعا منهما في آن:
1-فالمبدأ الأساسي والجوهري يقول إن الحكم من المصالح العامة (انظر ابن خلدون فصل علم الكلام من المقدمة والغزالي كتاب فضائح الباطنية). ومن ثم فعلاجه أقرب إلى العلاج الفلسفي في صلته بالعلاج الأسطوري منه إليه في صلته بالعلاج الديني المنزل وذلك لصلته بمفهوم الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لذلك فهو حكم خاضع في الجوهر إلى قوانين طبيعية ممثلة بقوانين صراع القوى السياسية والعصبيات في المجتمع أو ما يسمى بنظرية الشوكة (الأمر الذي يسر العلاج الخلدوني فلسفيا ومثله يرى شيخ الإسلام إشكالية الحكم المبني على المهابة أعني الشوكة + الشرعية).
2-لكن المصالح العامة ليست على الغارب بل هي ذات صلة بمثل عليا تتعالى على كل المصالح العامة والشوكة مثل تحدد نموذجا أعلى في ضمائر المؤمنين وفي مجتمعهم المدني أعني في مدارسهم الفكرية ونخبهم وليس في مؤسسة كنسية ينفيها صراحة النموذج المثالي الذي يجعل حمايته مسؤولية المؤمنين أفرادا وجماعات ومن ثم من حيث هم مجتمع مدني . وإذن فالجماعة هي التي تمنح الشرعية أو تمنعها بحسب ما تراه من طاعة الحاكم للمثل العليا التي يرمز إليها بطاعة الله والرسول. فيكون الحكم جديرا بأن يطاع إن حصل ذلك وغير جدير بالطاعة في حالة عدم حصوله. وهذه المرجعية المعيارية الشخصية والمدنية في الضمائر وفي المجتمع المدني مرجعية معيارية يقاس بها صلاح الحكم الإنساني دون أن يدعي مدع أن حكمه هو حكم الله بمن في ذلك الرسول.
أليس الرسول هو القائل إنه يحكم بالظاهر ليس في القضاء فحسب بل في الحكم بمعناه السياسي وحتى بمعناه الخلقي والمعرفي (وإذن بالعلم الطبيعي والمتناهي) والله يتولى السرائر (أي بالعلم المتجاوز للطبيعة واللامتناهي). فالحكم بالعدل المطلق والمساواة المطلقة وحرية الضمير المطلق (لست عليهم بمسيطر) ليس وصفا لحكم في الواقع بل هو تحديد لمثال أعلى يقاس به الحكم الواقع قربا في الصلاح وبعدا في الطلاح: وكل تجن على ما أحدثه القرآن من ثورة في المسألة الدستورية ومن ثم تجاوز لهذا المعيار في الضمائر صدر عن الفقهاء والمتكلمين وليس عن القرآن ولا على السنة وذلك لخلطهم بين هذين المستويين مدعين علما وعملا لم يدعهما النبي لنفسه بل إن الكثير من آيات القرآن تنهاه عن أن يدعي مثل ذلك.
إذا فهمنا هذا المبدأ في نموذج الصوغ الدستوري القرآني الذي بمقتضاه يكون القرآن صوغا لهذا الدستور المثالي معيارا للدساتير الواقعية وليس دستورا للواقع الفعلي علمنا طبيعة المشكل المطروح في القضية الدستورية لمجتمع مسلم وسني من جنس مجتمعنا التونسي:
فليس المشكل متعلقا بتقابل بين شريعتين إلهية وإنسانية كلاهما من قبيل الواقع العيني فتكونان من نفس المستوى الوجودي.
بل هو مشكل العلاقة بين واقع ومثال فيكون المشكل هو تجنب الخلط بينهما لئلا ننكص إلى ما حررنا منه القرآن: الحكم باعتباره حقا إليها للبعض على البعض.
ومن ثم فالتاريخ الدستوري والقانوني الإنساني يصبح تاريخ السعي اللامتناهي لتقريب الاجتهاد الإنساني في التعاطي مع المصالح العامة الاجتهاد الذي لا يمكن أن يكون شرعه إلا وضعيا بالطبع حتى عندما يدعي باطلا أنه يطبق الشرع الإلهي تقريبه من المثال الأعلى الذي يمثله الشرع الألهي المطلق والذي ينهى حتى النبي عن ادعاء تطبيقه بغير الدعوة إليه والقيس عليه.
فالشرع الإلهي لا يكون بمقتضى طبعه إلا مثالا أعلى لا يدرك حتى في ممارسة الرسول نفسه: ومن ثم فهو معيار الأخلاق التشريعية وليس تشريعا إذ بمجرد حطه إلى هذه المرتبة يصبح قانونا وضعيا يخضع لتحكم الحاكمين باسمه. وذلك هو التحريف الذي نهى عنه القرآن صراحة في سورة آل عمران عندما حدد علل التحريف عندما يجعل رجال الدين أنفسهم مشرعين بديلا من ضمائر المؤمنين في صلتها بالمثال الأعلى القرآني فضلا عن أن يصبحوا معبودين. وبكلمة واحدة: فالتشريع القرآني والسني يمثلان مثالا أعلى يقاس به خلق المشرع وعدل التشريع ومساواته وتحقيقة للحقوق التي جمعت في المقاصد الضرورية الخمسة وليس هو التشريع الذي هو وضع إنساني يحدده الفكر السني عند الغزالي وابن خلدون ما يطلق عليه اسم رعاية المصالح العامة الدنيوية والأخروية.

الفصل الثاني
مقومات الدستور عامة
كيف يمكننا الآن أن نحدد مقومات الدستور عامة وفي أذهاننا ما حاولنا توضيحه من علاقة بين الصيغة العقلية والصيغة النقلية لكليات الوجود الإنساني صيغتيهما المتطابقتين في الدين الخاتم (الذي لا يحتج بالمعجزات من حيث هي خرق للعادة بل يحتج بالمعجزات من حيث هي سنن ثابتة لمجرى الكون والتاريخ والإعجاز الثاني أكثر دلالة في العقل من الإعجاز الأول) وتعيناتها التاريخية في حضارتنا ؟ لن نتقيد بالمعنى الفني لتفاصيل الصوغ الدستوري المعنى الذي يسكت عما ذكرنا من المصادر التشريعية في تصنيفنا لأصول أي دستور ليغالط التونسيين. ولذلك بينا تميز مسألة الحكم في المنظور القرآني على الأقل بمفهومه السني حتى لا نبقي خياراتنا الحضارية مضمرة بل نعلنها بخلاف من يغالطون الناس فيفرضون ما يريدون تقليده من سنن مستوردة مدعين لها كونية ما أتى الله بها من سلطان.
إنما نحن نتكلم على مقومات الدستور من منطلق الكوني الإنساني والخصوصي المتعين في التاريخ الذاتي لنا من هذا الكوني لنتجنب ما يفرض علينا من استيراد لخصوصيات غيرنا التاريخية وتمريرها في شكل يدعي الكلية الإنسانية والكونية الوهمية. ولما كان هدفنا التمهيد لمناقشة التحديد المقبل- عند الشروع في انتخاب المجلس التأسيسي- تحديد مقومات الدستور المناسب لتونس بعد الثورة وليس لمجرد التنظير رغم أن التنظير مطلوب لذاته فإننا لن ندخل في جدال حول خصوصية ما يراد فرضه علينا إذ يكفينا التمييز بين العمومي والخصوصي في مقومات الدساتير.
فإذا كان الدستور متضمنا حتما هذه الصيغ الخمس ليكون عبارة عن القيم العقلية الكونية في تعينها التاريخي من خلال روح حضارة معينة روحها المتعينة في أعرافها وبصوغ حكمائها قبل النقد الفلسفي وبعده (انظر كتاب الحروف للفارابي بابه الثالث) في ضوء المطابقة الممكنة للمثل العليا التي حددها العقل أو الوحي أو كلاهما معا مثل العدل في التبادل والتعاوض (شرط السلم) والمساواة في الكرامة الإنسانية (شرط المحبة) والحرية في تحقيق صفات الإنسان الجوهرية أعني فكره وإرادته (شرط المسؤولية والتكليف) وإحقاق الحقوق لئلا يكون العمران خاضعا لشرع الغاب (شرط كل الشروط السابقة لأن العمران تعاون وتعاوض لسد الحاجات والاجتماع تساكن للأنس بالعشير كما حدد ذلك ابن خلدون وكلاهما بحاجة إلى النظام الحامي من العدوان المتبادل بين البشر في التبادل والتعاوض داخليا وخارجيا) فإنه يقتضي حتما المقومات التالية التي نتوخي في تنظيمها مرة أخرى نظرية ابن خلدون تمييزا منه لمقومي صورة العمران عن مقومي مادته:
نظاما صورة العمران البشري والاجتماع الإنساني أي النظام السياسي والنظام التربوي
1-النظام السياسي بمعنى نظام الحكم الراشد Gouvernementبسلطه الخمس (لا الثلاث وهذا من خصوصيات تعين المقومات في حضارتنا) وشروط الفصل بينها واستقلالها بعضها عن البعض حتى تؤدي وظائفها على أحسن الوجوه: 1-السلطة التشريعية 2-والسلطة التنفيذية 3-والسلطة القضائية وهي كلها تعمل بالممثلين وهي الوجه المباشر من الحكم ثم السطلتان الأصل في كل سلطة أعني 4-سلطة الجماعة حيث يكون الاعتناء بالشأن العام فرض عين في شكل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (تعبيرا عن إرادة الجماعة ويتصل بها مثلا صوغ المجلة الانتخابية وواجبات المشاركة في الحياة السياسة وشروطها وكيفياتها) 5-وسلطة أهل الذكر في مراقبة سياسة الشأن العام أو فرض الكفاية الفني (تعبيرا عن عقل الجماعة ويتصل بها حق الخبرة في النقد والمشاركة ومن ثم منع الاحتكار في صوغ الحلول) وهما الوجه اللامباشر من الحكم في كل جماعة. وطبعا فهذه الخصوصية ليست خصوصية إلا من حيث كونها ظهرت عندنا قبل غيرنا لكنها كونية لأنها أصبحت مطلوبة في كل المجتمعات: فرض العين في العناية بالشأن العام من قبل كل مواطن وفرض الكفاية في سلطة النقد العلمي والفني للعناية السياسية بالشأن العام.
2-النظام التربوي بمعنى نظام ملكة الحكم الراشدة (وهو معنى لا تخلو منه آية في القرآن تكلمت على مقومات الرسول: الحكم والكتاب) La faculté de juger بسلطه الخمس وشروط الفصل بينها واستقلالها بعضها عن البعض حتى تؤدي وظائفها على أحسن وجه: 1-سلطة التشريع التربوي 2-وسلطة التنفيذ التربوي 3-وسلطة القضاء التربوي وهي السلط المباشرة لعملية التربية النظامية ثم أساسا هذه السلط أعني 4-وسلطة رعاية التربية التي هي فرض عين على كل أولياء المتعلمين (ويتصل بها ما يسمى بمنظومات أهل المتعلمين والمشاركة في الحياة التعليمية والتكوينية) 5-وسلطة رعاية مخرجات التربية من أهل الذكر الفني (ومنها أرباب العمل وجمعيات المبدعين في التكنولوجيا بجميع أصنافها أعني في حلول المشاكل المادية والرمزية للجماعة).
نظاما مادة العمران البشري والاجتماع الإنساني أي النظام الاقتصادي والنظام الثقافي:
3-النظام الاقتصادي والحقوق والواجبات الاجتماعية بمعنى نظام سد الحاجات المادية أخيارا وخدمات تبادلا وتعاوضاLe système qui assure la satisfaction des besoins matériels: biens et services بسلطه الخمس وشروط الفصل بينها واستقلالها بعضها عن البعض حتى تؤدي وظائفها على أحسن الوجوه: 1- سلطة المبادرة والاستثمار الاقتصادي 2-وسلطة منظمات العمال 3-وسلطة مصادر التمويل 4-وسلطة المستهلكين الذين هم محرك الاقتصاد الأساسي لأنه في خدمتهم 5-وسلطة الإبداع الفني الذي يمكن من تحديد العلاقة بالطبيعة ومن ثم يحرر الإنسان دون الإضرار بالمحيط الطبيعي.
4- النظام الثقافي بمعنى نظام سد الحاجات الرمزية إبداعا وأدوات تواصلLe système qui assure la satisfaction des besoins spirituels: comprehension et communication: بسلطه الخمس وشروط الفصل بينها واستقلالها بعضها عن البعض حتى تؤدي وظائفها على أحسن وجه: سلط إبداع النماذج القيمية بحسب أصناف القيم وجعلها مجال تبادل رمزي بين المواطنين وهذا هو جوهر الوظيفة الاستعلامية (عن شروط وجود الإنسان الطبيعية والتاريخية وقيمته) الإعلامية (بها للإنسان حتى يكون إنسانا) بمعناها الحقيقي لا بمعنى نقل الأخبار أو الشائعات (وهذه وظيفة منافية لكل ما سبق إذا لم تتقيد القيم التي نعتبرها مادة الاستعلام والإعلام): 1-سلطة الإبداع المعرفي أعني معاهد البحث العلمي 2-وسلطة الإبداع الخلقي في الفنون وفي السلوك بانتخاب شعبي لحكماء الأمة 3-وسلطة الإبداع الجمالي 4-وسلطة الإبداع الجهوي أعني توسيع آفاق الحرية 5-وسلطة الإبداع الوجودي (وتتعلق بالمصالح المتعالية على مجرد المصالح الدنيوية أعني نظام إضفاء المعنى الذي يتغير من حضارة إلى حضارة وأهم عناصره القيم الروحية أو الدينية).
5-النظام الأصل المؤسس لكل الأنظمةL'origine de tout ordre qu'il soit materiel ou spirituel: إنه أصل ذو فرعين رغم كونه النظام المحدد لمبدأ وحدة هذه الأنظمة جميعا الأنظمة التي يتقوم بها العمران أصل العمران ذاته وعلة وجوده وذلك لأنه ينبغي أن يحدد بصورة كلية ثم بصورة تعينه في ذات ذات قيام حقيقي تحدده أحياز الوجود الفعلي لكل كائن عمراني وتتصف بالقدرة على مراجعة كل هذه الأنظمة متى ما أرادت ما يجعل الدساتير جميعا تتصف بالانعكاس على الذات أي لها القدرة على العودة على ذاتها ومراجعتها لتطويرها بحسب معايير وشروط تحددها لنفسها وهو العلامة على أن الدستور ليس هو في الحقيقة إلا وعي الأمم بذاتها في هذه المجالات التي وصفنا. وفرعا مبدأ الوحدة الواعية بذاتها يتحددان كليا وعينيا:
أ- فأما التحديد الكلي فيكون بمقتضاه هذا الأصل المجلة التي تضبط حقوق المواطن وواجباته التي ترد إلى حقوق الإنسان المطابقة لمقاصد الشريعة (أعني شروط تكريم الإنسان بمعناها القرآني وتناسب مقومات الشخص الإنساني وجودا وحياة وقدرة وعلما وإرادة) كما بيناها في غير موضع.
ب- وأما التحديد المعين فهو شرط تحقيق ذلك في العين من خلال مقومات هوية بعينها قائمة في الأعيان وذلك بفضل المقومات التي يتحيز بها الوجود الفعلي للمواطن والوطن وللجماعة من حيث هي علاقة روحية بين الفرد والجماعة القائمة حقا في أحياز التعين أعني: مكانها (كما صاغته فلسفتها الجغرافية) وزمانها (كما رتبته فلسفتها التاريخية) وسلمها (كما وزعته فلسفتها الاجتماعية) ودورتها المادية (كما شكلتها فلسفتها الاقتصادية) ودروتها الرمزية (كما أضفت عليها المعنى فلسفتها الثقافية). وينبغي تحديد هذه الأنظمة جميعا في نص الدستور دون تجميدها أعني بالإبقاء عليها مفتوحة على المكان والزمان والسلم والدورة المادية والدورة الرمزية من حيث بعدها الكوني ما يجعلها كلها قابلة للزيادة والنقصان وتغير التشكل.
ويتم التحديد من منطلقين اثنين هما حدا الشرط الإنساني في وجوده التاريخي أي:
في أحواله العادية أعني أحواله في السلم خاصة.
وفي أحواله غير العادية أعني أحواله في الحرب خاصة.
ويكون ذلك بإجراءات الظروف الطارئة عليها أعني ما يطرأ بمقتضى أحوال الإنسان متداول المنزلة بين الحاكمية والمحكومية بوصفه كائنا طبيعيا (الأمراض والموت) وبوصفه كائنا تاريخيا (العلاقات الخارجية وأحوال الحروب الداخلية أو الخارجية). فتكون أبواب الدستور هي الأبواب الخمسة التي ذكرنا مع مقدمة تحدد طبيعة النظام وخصائص الأمة الحضارية.
الفصل الثالث
مقومات الدستور المناسب لتونس
أبدأ بالأصل المؤسس لكل الأنظمة:
فتونس ليست أمة ذات جغرافيا وتاريخ وسلم ودورة مادية ودورة رمزية مقتصرة على وضعها الراهن بل هي جزء من جغرافيا وتاريخ وسلم ودورة مادية ورمزية تتجاوزها جميعا ما يجعل الأمر الواقع في ذلك كله مؤقتا بحكم أمر واجب هو ما يحدده نسبها الحضاري فضلا عن نسبها الإنساني. ولذلك فالبند الأول من الدستور الحالي ينبغي أن يبقى كما هو أعني "تونس دولة حرة مستقلة دينها الإسلام ولغتها العربية":

فالصفتان الأوليان
تحددان نسبها الخلقي إلى قيمة الحرية الإنسانية ونسبها الوجودي إلى قيمة الاستقلال المميز لكل كائن ذي وجود يخصه: ويترتب على هاتين الصفتين كل حقوق الإنسان مع شروطها التي تجعلها ممكنة في الواقع الفعلي وليس مجرد مبادئ قولية خالية من شروط ممارستها.

فالصفتان الأخيرتان
تحددان نسبها العيني أعني تعين تلك القيم في حضارتها قائمة الوجود الفعلي أعني نسبها الجغرافي إلى الوطن العربي شرطا ماديا في تحريرها من التبعية للغير ونسبها التاريخي إلى الحضارة الإسلامية شرطا ماديا للشعور بالذات المدركة لمنزلتها في الوجود بالتناظر مع الحضارات الأخرى : ويترتب على هاتين الصفتين أن التناظر والتوازي التامين بين القيم الكونية والقيم الحضارية التي ينتسب إليها الإنسان التونسي.
ثم تأتي المقومات الأربعة الباقية وهي مشتقة من هذا الأصل إذا كنا نريدها أنظمة حاصلة على القبول والرضا وليست نصوصا مفروضة لا يعمل بها أحد لكونها ليست نابعة من المصادر التي ذكرنها في تحديد مفهوم الدستور عامة وتطور أشكاله تطورا بمعنى النسخ المحافظ Aufhebung:
فأما مقوما صورة العمران في الدستور فهما نظام الحكم ونظام التربية. والأول هو جملة الإجراءات القانونية التي تجعل تلك القيم تصبح موجودة بالفعل فلا تكون مجرد حبر على ورق. والثاني هو تكوين الإنسان الذي يكون تراثه معين تربيته على هذه القيم إرثه مساعدا عليها بما يوفره من شروط الاستقلال المادي (الوطن العربي) والروحي (الحضارة العربية) أعني شرطي الانتساب الندي للإنسانية وخاصة في عصر العولمة.
وأما مقوما مادة العمران في الدستور فهما نظام سد الحاجات المادية ونظام سد الحاجات الروحية للإنسان فردا وجماعة في إطار الأحياز التي أشرنا إليها (المكان والزمان والسلم والدورة المادية والدورة الرمزية). والأول هو جملة الإجراءات القانونية التي تنظم الإنتاج المادي أخيارا وخدمات وتضبط شروط تبادلها والتعاوض فيها تبادلا وتعاوضا عادلين بين أفراد الجماعة ثم بين الجماعة وغيرها من الجماعات المتعاملة معها. والثاني هو جملة الإجراءات القانونية التي تنظم الإنتاج الرمزي قيما وثمرات وتبادلها والتعاوض فيها بمنطق الندية بين الأفراد ثم بين الجماعة وغيرها من الجماعات المتعاملة معها. ولهذه العلة كان الدستور بصورة العمران ومادته الموجودتين فيه متميزا بصفة تجعله عين الوعي بالذات الذي للأمة بحيث إنه ينعكس على ذاته فيحدد طبيعته وشروط تغييره وتطويره وعلاقاته بأصله الروحي وبشروطه المادية: إنه عبارة وعي الأمة بذاتها وبشروط حياتها.


الفصل الرابع
شروط فاعلية المؤسسات الدستورية
بعد أن حددنا مضمون هذه المقومات يبقى علينا أن نحدد شروط فاعليتها ونجاعتها أعني شروط تحقيقها لما جعلت له من وظائف التحقيق الأمثل:
فنظام الحكم ينبغي يتوسط فلا يقع في إفراط الشد المولد لاستبداد الحاكم ولا في تفريط الإرخاء المولد لاستبداد المحكوم بل الحل هو ما يسمى بشعرة معاوية أعني شروط الحزم في إدارة الشأن العام دون إفراط ولا تفريط: وذلك هو عزم الأمور. ومعنى ذلك أن الحل يجب أن يكون حرزا ضد نظرتين عرفهما تاريخنا الإسلامي وكلتاهما مولدة للاستبداد: نظرة الخوارج ونظرة السلفية أعني الخروج على الدولة لأتفه الأسباب والخنوع للدولة مهما فعلت.
لذلك فالحل هو في دستور يجمع في نفس الوقت بين كونه ديموقراطيا (حكم الشعب) وأرستوقراطيا (حكم الأعيان) فيقترب من النظام الأمريكي في هذه الخاصية دون أن يطابقه (انظر كتاب الأمريكيون الجوامح لوودي هولتون الذي نقلته إلى العربية مؤسسة كلمة الإمارات العربية المتحدة) لما نرى من مميزات لا توجد إلا في ارهاصات النظام المناسب في التاريخ المؤسسي الإسلامي (كما يببين من تاريخ مؤسسات الحكم في مقدمة ابن خلدون البيان الآتي ذكره). والخاصية التي نعنيها في النظام الأمريكي هي خاصية الجمع بين الانتخاب العام ومجلس الناخبين الكبار ومن ثم التوازن بين سلطتين تنفيذية وتشريعية كلتاهما فاعلة وذات شرعية شعبية:
فالنظام البرلماني الصرف لا يصلح لفاعلية التنفيذ بسبب التلاعب الحزبي وخاصة إذا تكاثرت الأحزاب ولم تقتصر على عدد معقول كما في بريطانيا (المثال السيء هو ما يجري في إيطاليا وفي لبنان).
والنظام الرئاسي الصرف لا يصلح لفاعلية التشريع بسبب تفرد القرار كما يبين تاريخ الرؤساء العرب الذين كانوا بسلوكهم الأرعن مصدر كل نكبات العرب.
والشكل المناسب هو النظام الذي يتعادل فيه التشريع والتنفيذ ولكن ليس على الشكل الفرنسي حتى نتجنب ما يسمى بالتساكن بين شرعيتين متنافيتين (كما حصل عديد المرات بعد الرؤساء الثلاث الأول أي في عهدي متران وشيراك). وفي كل الأحوال فلا بد من استقلال القضاء على السلطتين الأخريين. وعلى الحل الذي اقترحناه لنظام الحكم يقاس نظام التربية.
وهنا لا بد من التذكير بدور التاريخ المؤسسي لتحديد الكلي والخصوصي مع بيان العلاقة بين السياسي والتربوي العلاقة التي أشار إليها ابن خلدون لما حدد علل انحطاط الحضارة الإسلامية: أي الممارسات التي اعتبرها قد أفقدت المسلمين معاني الإنسانية (راجع فصل التربية من المقدمة). وسأكتفي هنا باقتباس فقرتين من كتابي "الوعي العربي بقضايا الأمة" (دار الفرقد دمشق) الفقرتين اللتين حللت فيهما تحديد ابن خلدون لمراحل تطور مؤسسات الحكم في الحضارة الإسلامية إلى حدود عصره :
" فقد أشار ابن خلدون إلى تقاسم السلطة السياسة بين الخلافة التي عاد إليها البعد المعنوي والسلطنة التي عاد إليها البعد الفعلي بعد أن حدث الفصل بين حكم القوة الفعلية ذات الأدوات المادية وحكم القوة الرمزية ذات الأدوات المعنوية في الإسلام السني ونشأة شروط الرأي العام المتعالي على السلطان تعالي القيم على القوة (....) ويمكن عرض القسمة مع شيء من التعديل (التصرف) لتحقيق النسقية إبرازا للتكامل بين البعدين اللذين تتألف منهما السلطة السياسية: البعد الروحي ويمثله الخليفة والبعد المادي ويمثله السلطان:
فالخلافة أصبحت تمثل السلطة ذات الدلالة المعنوية أو التي ينبغي أن تتعالى على القوة لتستند إلى ثبات القيم المحققة للعدالة والكرامة ووحدة الأمة الروحية: الخطط الخلافية وهي: 1-إمامة الصلاة 2-والفتيا ( وتتضمن التعليم الديني وقيادة الرأي العام 3-والعدالة (أي مؤسسة الشهادة الموثقة للالتزامات والعقود) 4-والحسبة 5-والسكة (صك العملة ومراقبتها).
والسلطة أصبحت تمثل السلطة ذات الدلالة الطبيعية أو التي تمارس القوة الشرعية للتنفيد وإمضاء التعينات الضرورية للمتعاليات في الوجود الإنساني المتناهي دائما. وفيها تعين انفراط عقد الأمة السياسي. الخطط السلطانية هي: 1-الإمارة 2-الوزارة 3-الحرب 4-البريد (أي الاستعلامات الداخلية والخارجية) والخراج (أي الجباية)
وبقيت خطتان تشترك فيهما الخلافة والسلطنة لكونهما تقتضيان كلتا السلطتين المعنوية والفعلية رغم كون أولاهما تابعة للخليفة لتقدم البعد المعنوي على البعد الفعلي فيها والثانية تابعة للسلطنة للتقدم المقابل:
القضاء الذي يستمد الشرعية من القوة ممثل القوة المعنوية أو الخليفة ويستمد قوة التنفيد من ممثل القوة الفعلية أو من السلطان.
الشرطة وهي تحتاج إلى البعد المعنوي للشرعية فتكون تابعة للخليفة والبعد الفعلي للفاعلية فتكون تابعة للسلطان" (ص. 146-148 بتصرف).
تلك هي الغاية التي وصل إليها الحكم في التاريخ الإسلامي والتي علينا تجاوزها بتطوير ما يحتاج إلى التطورير فيها مع اعتبار الفرق بين الظروف وخاصة تحول مفهوم رئاسة الدولة من الخلافة الشاملة للمسلمين إلى الرئاسة المقصورة على ما كان شبه ولايات من الامبراطورية الإسلامية:
سلطة رمزية تضفي الشرعية باسم الأمة عامة دون تمييز بين القوى السياسية مع عدم نكران تعددها.
وسلطة فعلية تحقق السياسات التي نالت رضا غالبية الشعب في الانتخابات الحرة والنزيهة.
والمعلوم أن هذا الفصل الذي تكلم عليه ابن خلدون لم يكن على هذه الصفة لأنه لم يكن فصلا بين شرعيتين سلميتين مؤسستين دستوريا بل هو كان أمرا واقعا لأن السلطنة كانت تعتمد على القوة غير المؤسسة إذ هي كانت ثمرة العصبيات والانقلابات ولم تكن ثمرة الأحزاب والانتخابات. ونحن نريد فصلا سلميا بين السلطات الرمزية والفعلية كالحال في الأنظمة الديموقراطية الحديثة حيث عوض التداول السلمي التداول الحربي بين الأحزاب: فتكون كلتا السلطتين الرمزية والفعلية مستندتين إلى الشرعية الشعبية أي الإنابة العامة بفضل النظام الديموقراطي للانتخاب.
ةأ
ولا بد في النظام الاقتصادي من مراعاة الجمع بين العدالة والفاعلية الاقتصاديتين بحيث إن حرية المبادرة والملكية ينبغي أن تكونا مصحوبتين بالعدل في التوزيع والعناية بالكل تماما كما دعا إلى ذلك القرآن الذي جعل الإنفاق من الرزق الرامزة للعدل الاجتماعي دعامة ثانية نظير الدعامة الأولى التي هي الصلاة الرامزة للسمو الخلقي ووسّط بينهما أداة تحقيق ذلك في الحكم أعني الأمر الشورى بين الناس متوجا ذلك كله بالاستجابة إلى الرب أعني القيمة الأسمى التي تحرر الإنسان من الإخلاد إلى الأرض فتمكنه من الإشرئبات للفضائل والمثل العليا. وعليه يقاس النظام الثقافي كما يقاس النظام التربوي على النظام السياسي (الشورى 38).
وفي الحقيقة فإن الأصل في كل نظام يحقق الرضا والقبول فيؤسس لللحياة الجماعية السلمية هو تقدم الرمزي على الفعلي من صورة العمران ومن مادته:
فيتقدم النظام التربوي على النظام السياسي.
ويتقدم النظام الثقافي على النظام الاقتصادي.
ذلك أن المحكومية والحاكمية لا تكونان بالقبول والرضا إلا إذا كانتا مؤسستين تربويا. والتبادل والتعاوض العادلين لا يتصفان بالقبول والرضا إلا إذا كانا مؤسسين ثقافيا. وما تقديم السياسة على التربية وتقديم الاقتصاد على الثقافة إلا بسبب طبيعة الفاعلية كما بين ذلك ابن خلدون عندما قابل بين نوعي الوازع الخارجي أو البراني والوازع الذاتي أو الجواني: ففي السياسة والاقتصاد الفعل يكون ناجزا بالفعل وفي الحين أما في التربية والثقافية فالفعل يكون ناجزا بالقوة وبالتراخي فضلا عن كون الوازع البراني في السياسة والاقتصاد له القدرة على الإكراه في حين أن الوازع الجواني في التربية والثقافة لا يفعل بالإكراه بل بالطاعة الحرة.


خاتمة
وفي الختام فإن الكلام الفلسفي في الدساتير لا يهتم بجزئيات البنود التي يتمنها نص الدستور بل همه الأساسي يكمن في تحديد المبادئ العامة التي بالانطلاق منها يمكن أن يحصل الصوغ التفصيلي في بنود. وما كتبت هذا إلا لأبين أمرين أحدهما سلبي والثاني إيجابي:
فأما الأمر الأول السلبي فهو لمنع استحواذ لون واحد من الطيف السياسي التونسي بتدبير الأمر الدستوري بمنطلقات سطحية يظنونها علمية وهي في الحقيقة قشور إيديولوجية لا تتجاوز الفهم السطحي للحداثة والعلمانية. والهدف من هذا الأمر السلبي هو تحرير الفكر الدستوري في تونس من التبعية التي ليس لها من مبرر لأن جميع الأشكال الدستورية التي عرفتها البشرية عرفتها كل المجتمعات البشرية حتى وإن اختلفت أساليب التعبير عن الوظائف التي يؤديها الدستور سواء كان مصوغا بالمعنى الحديث أو مرسوما في العرف الذي ينظم حياة الجماعة سياسيا وتربويا واقتصاديا وثقافيا نبعا من أصل واحد هو كيان الأمة بالمعنيين اللذين وصفنا.
وأما الأمر الثاني فهو لبيان أن المسألة الدستورية ليست مسألة حديثة بل هي مسألة لا يخلو منها عمران والاختلاف ليس إلا في مراحل الصوغ التي هي عينها مراحل نضوح الوعي بها رغم أنها في ذاتها حاصلة حتى وهي غير واعية كما بينا في المراحل التي مر بها الصوغ الدستوري من تشرعيات العرف بالشكل الجمعي الأسطوري الذي لا مؤلف له إلى التأليف الفردي في شكل أبطال أسطوريين حددوا شرائع شعوبهم من خلال حدسهم العميق لقيم حضارتهم ثم يتكرر الأمر في الترتيب العكسي أعني صوغ الفلاسفة للدساتير الفردي ثم الجمعي في شكل الجمعيات التأسيسية. لكن الصوغ التام هو الذي يتضمن ذلك كله بحيث إن الحديث منها كان بالقوة في القديم والقديم منها تمت المحافظة عليه في الحديث حفظ النسخ الحافظ بالمعنى الهيجلي للكملة.
كما يمكن أن لهدف التثقيف الدستوري أن يعد شباب الثورة لخوض معركة التأسيس للدستور الجديد فيكون ذلك جامعا بين الأمرين لأن شبابا قام بمثل ما قام به من حقه أن يكون معتدا بنفسه فلا يبقى كما يراد له رازحا تحت عبء العقد إزاء أمر لا وجود له:
فليس صحيحا أن التنظيم الدستوري للأنظمة ظاهرة حديثة أو مستوردة إلا في خيال العارضين لكاريكاتور الحضارتين العربية والغربية. ولعل مفهوم الملة كما صاغه الفارابي كاف وزيادة لإقناع أي باحث موضوعي بأن هذه الظاهرة كونية بل إن التقسيم إلى الملل غير الفلسفية والملل الفلسفية هو عينه التقسيم الذي صغناه بصورة أكثر مناسبة لظرفيتنا.
وليس صحيحا أن المسألة تطرح في كل الحضارات بنفس الشكل والأسلوب حتى وإن كانت القيم الأساسية كونية بمنطق العقل أولا وبنص القرآن ثانيا لكون الفطرة جامعة بين ضربي إدراك الحقيقة الإنسانية العقل والنقل المتطابقين في الدين الخاتم.
وزبدة الكلام هي أن الدساتير ملل وضعية بالمعنى الفلسفي للكلمة إذ هي مثلها مثل الملل تؤدي نفس الوظائف في تنظيم الحياة المدنية ببعديها الأدنى (ضمان حياة) والأسمى (ضمان الحياة): والفرق بين النكرة والمعرفة هنا فرق قرآني لا يدركه من لم يفهم علل الثورة أعني رفض الشباب أن تكون حياته حياة بل يريدها الحياة. وقد مرت الملل الوضعية بنفس المراحل التي مرت بها الملل الأسطورية والدينية أعني المرحلة العفوية والعرفية ثم القصدية والعقلية كما هو بين من الباب الثالث من كتاب الحروف للفارابي وكذلك من كتابه في الوجود أو في علم الإنسان. ولذلك صنفها ابن خلدون إلى أنظمة طبيعية وأنظمة عقلية وأنظمة جامعة بين الشكلين. ثم أضاف إليها قسمة تضاعفها ثلاثتها بأن جعل كل واحد منها منقسما إلى شكلين:
الشكل المقصور على عقد بين الحاكم والمحكوم من دون ضامن سماوي وعلة الطاعة فيه حساب المصالح بين طرفي العقد فيكون في واقع الأمر من جنس يمكن من كل الخداع السياسي بسبب الاقتصار على الوزع الخارجي وغياب الوزع الذاتي بلغة ابن خلدون.
والشكل المتجاوز لذلك بضمانة الشرع السماوي رمزا إلى تعالي القانون وقدسيته عندما يتجاوز المصالح الدنيوية التي يغلب عليها منطق التحايل إلى مراعاة المصالح الأخروية التي تشد هذه المصالح إلى القيم والمثل السامية فتكون السياسة والدولة جديرتين بأن تعتبرا من المقدسات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.