اتحاد الفلاحين.. أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى " معقولة "    انتشال 4 جثث آدمية واحباط عمليتي "حرقة" من صفاقس..    ذهاب نهائي ابطال افريقيا.. التشكيلة الاساسية للترجي والاهلي    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    منوبة: الاحتفاظ بصاحب كشك ومزوّده من أجل بيع حلوى تسبّبت في تسمم 11 تلميذا    قريبا: اقتناء 18 عربة قطار جديدة لشبكة تونس البحرية    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    مديرو بنوك تونسية يعربون عن استعدادهم للمساهمة في تمويل المبادرات التعليمية في تونس    الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس تدعو إلى عقد مجلس وطني للمنظمة خلال سبتمبر القادم    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    عاجل/ القصرين: توقف الدروس بهذا المعهد بعد طعن موظّف بسكّين امام المؤسسة    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    الحماية المدنية: 8 وفيّات و 411 مصاب خلال ال 24 ساعة الفارطة    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مضمون النوادر والأمثال في تونس ما بعد رحيل فرنسا إلى اليوم
نشر في الحوار نت يوم 10 - 04 - 2011

مضمون النوادر والأمثال في تونس ما بعد رحيل فرنسا إلى اليوم
الناصر الهاني
بدءا ، يجب أن ألاحظ بعض الملاحظات حتى لا يفهم النص فهما خاطئا ، وحتى لا يرتبط بما يجدُّ من أحداث هذه الأيام وخصوصا أحداث باب الجزيرة وأعلن من البداية أن هذه الورقة بدأتها منذ تركيبة حكومة الغنوشي المؤقتة الثانية وعندما طفا الحديث عن " البَلْدِيَّة " وغيرهم من خلال تركيبة الحكومة ساعتها ويجب أن نبين أن كل مدينة عريقة تعامل الريف بالثنائية السابقة الذكر. علما وأن هذا الأمر مطروح عندي منذ زمن الجامعة، والذين يعرفونني كم تناقشوا معي بخصوص هذه المسألة لأنني أعتبرها سببا في ركود مجالات كثيرة لدينا ، وسببا في عرج اقتصادنا . ولعل الأمر تجسّد فعليا لدى البايات ليواصله بورقيبة بأمانة تامة ويتخصص فيه بن علي وجوقته . ولعل الوحيد الذي أراد أن يخرج منه هو محمد مزالي بعد الأحداث التي جدت بين جلاص وبعض السواحلية حينما غنى إسماعيل الحطاب عن الهندي "التين الشوكي" بسخرية مريرة . وفهمت ساعتها أن الرسالة موجهة لجلاص دون غيرهم .
ثم إنني لا أتبنى أية رؤية جهوية ، وأنبذ من يتخذها سببا لوجوده ، أو فزاعة لتهديد وحدة وطننا لا قدر. الله فتونس أرض واحدة وشعب واحد رغم أن بعض السياسيين يركبون هذا التيار . ولعل عبد العزيز بن ضياء أهمهم إن لم يكن منظر هذا الخط حديثا وما تولية عمر شاشية على القيروان في زمن التصفية البورقيبية للمناوئين إلا دليل . ومن عايش تلك الفترة يعلم عما أتحدث. إذ ليس الخبر كالعيان . هذا بخصوص ما يحف بالورقة من الخارج .
أما ما يتعلق بمضمونها ومتنها : أجزم منذ البدء لا يمكن أن تكون هذه الورقة أكاديمية . لأنها لن تهتم إلا بالمعنى ، ولن تعرّج على المبنى للنوادر والأمثال ، ولن تلتزم الخطية الزمنية ، والتتبع الدقيق لنمطي المنطوق ، ولن تكون لسانية بالضرورة ، لأنها لا تبحث في أسلوبية القول وبنيته ، بل الهدف منها مواءمة مضمونهما مع السياق الحياتي العام ، وخصوصا علاقة المضموني بالسياسة ومن يؤثر في الثاني؟ وهل من علاقة بين مضمونهما وتوجهات تونس الاقتصادية خلال نصف قرن ؟ وما علاقة النادرة والمثل بشخص الرئيس في المرحلتن ؟ وإلى من توجهت سهام التندر، ومن كان مستهدفا بالتحقير في الأمثال؟
وقبل البدء ، لِم الربط بين الإثنين دون غيرهما ؟ ربطت بينهما لأنني أزعم أن النادرة كانت بنت المدينة بامتياز. في حين كان المثل يغطي أرجاء الأرياف ، ومازال عمله إلى اليوم متواصلا رغم أن هذه الأنماط برمتها في خطر حقيقي ، بل لعل الأجيال الجديدة تحاربها وتعتبرها لبوسا قديما لا يجب أن يتواصل ، وأصبحت هي ذاتها موضع تندّر واستهزاء .
وقبل هذه المرحلة لم تستقر النادرة بالريف إلا بعد شيوع التمدرس . وهذا ناتج بسبب عقلية أصّل فيها الأجداد أن الهزل علامة على الميوعة ، وساهم المناخ والجغرافيا في كيمياء العبوس والاكفهرار. في حين كانت النادرة بنتا طبيعية للمدينة لوجود الحانات والمسارح والصحف وخصوصا الساخرة و اللاهية منها . ولا يمكن أن نتغافل عن دور جماعة تحت السور، وجريدة الفجر الناطقة بحال الساخرين المتهكمين والتي كانت بالعامية في غالبها في النصف الأول للقرن العشرين . ولكي لا نعمم الحكم السابق نستثني بعض العروش الذين استوطنوا الأرياف والذين عرفوا بخفة دمهم والنكتة المرتجلة وسرعة البديهة . وهذا مرده إلى نمو نسبة التعلم عندهم كالجريدية وبعض قبائل الجنوب ، وهم كانوا في الغالب يقيمون في شكل جماعات مدينية يحاولون أن يوفروا لذواتهم ما يقدرون عليه ، وهو ما يشبه خدمات المدينة اليوم . وإن كان التعلم عندهم دينيا بالكتاتيب والمساجد ، وهذا ما ينفي تهمة العبوس عن الدين .
ومردّ كثافة العبوس بالأرياف احتكام أهله لعقلية البداوة والفروسية ، لا بمفهومها العربي المتداول بل بمفهومها القبلي الذي يذهب شوطا في الغلو، وتسقط فيه كل المعارف أمام رأي القبيلة. بل هو فوق كل النواميس ، عملا بمعنى قول الشاعر"وإذا غوت غزيّة فإنني لا أرشد". فالنادرة يمكن أن نقول إنها توجهت في بداية النصف الثاني من القرن العشرين إلى التندر بغير المتعلمين ، وقلب معاني المفردات ، وتبيان جهل شرائح بعينها بمكتسبات الدولة الجديدة "الدَّستور والكاروا روج والبوسطة ".
ولعل النكتة أو النادرة تلخصت في غالب الحالات في مفردة واحدة ، وتجاوز الأمر كل ذلك لينحصر التندر في سياق القول ، وطريقة إخراج الحروف وجرسها . وبذلك تعلن النكتة عن انتمائها لفضاء " البَلْدية " المتحضر و" الضامر" ، نكاية في " العرَبْ " والبدو و" الحفتريش" القادمين من " ورا البلايك ". وتصبح كذلك هيأة الريفي مرمزة مضحكة. ويمكن الرجوع في هذا لبعض الأعمال الكوميدية الاجتماعية ك "حبيقة وفردة ولقات أختها وصيف حلق الواد ( النص) والمكي وزكية - المتأخرة التي قامت بفلاش باك زمني بعد أن تجاوز التونسيون ذائقة الإضحاك الفائتة والسابقة - وجواب مسوقر والبرني والعترة" .
وكذلك مست النكتة بعض العروش التي سعى بورقيبة إلى تفتيتها عبر توزيعية الإدارة : إذ يكون جزء تابعا لدائرة ترابية مّا ، و الجزء الآخر لدائرة أخرى مع ضمان الفوارق بين الإثنين ، عملا بفرّق تسد ، ولغرس بذرة التعالي والتصادم بينهما ، وإن كانت بعض النكت توجه سهامها مباشرة لعروش معينة , فقد أصبحت بمرور الزمن تتعامل معهم كنماذج يفهم الضاحك طينتهم دون تسمية .
فالمتندر به تطوّر ضمن النادرة لكنه تطور في السلبية ، كارتفاع مستوى الحمق لديه والاستبلاه ، ولعل هذه الصفات أورثتها النادرة لأبنائهم ، وهذه آلية جديدة أراد صانعو النكتة أن يجعلوها سلاح إبادة لصورة الضحايا الأوائل حتى لا يرمموا مستوى الخلخلة والشروخ التي لحقت بهم ، ويبقى وجود من تبعهم مهزوزا بل صار الأمر استحقاقا . فلنتصور أن يقال في سبعينات القرن الماضي : أن فردا من الهمامة أو جلاص أو... صار وزيرا فهذه الجملة تكون نادرة تضحك حيا بأكمله بالعاصمة ، أو بمناطق النفوذ . وبهذا لم تعد النكتة محصورة فيما يُضحك وصُنِع وفق تقنية الإضحاك ، بل صار الكلام العادي أشد إضحاكا وأقدر عليه . وهذا يفسر أن النكتة صارت مشغلا عاديا ، ولتُعرِّف المديني بصورة الريفي الذي كان منزويا في مناطقه ، لا هم له غير شويهاته ، أوزواجه من معيوفة بنت عمه . لهذا أصبحت حتى الأسماء نفسها موضع التندر- فبوجمعة ، والعيفة ، و حديد ، وحدود ، ومعتوق ، وحدّي ، والضاوي ، والنمشة ، والشهبة ، والبيضة ، وتفاحة ، وتوزر ، والسبتي ، والحفناوي ، والتوكابري ، والعيدودي ، وفرش غريب ، وبير الغول ، وضبية الكوز- للأفراد والأماكن موضع تندر وفكاهة. لتقابل ب - سوسن ، ونانسي ، وأمل ، وميساء ، و لميس ، ونازك ، ومونفلوري ، والباساج، و المنزه - وبهذا لم تعد النادرة نصّا محكوما بآليات إنشاء واستراتيجيات التقبل المعهودة التي غايتها الإمتاع و الإضحاك بل صنعت شرخا حادا في نفسية المتندر به، وصار يشعر بالدونية ، ويرغب في التنصل من واقعه الموبوء . وحتى ينال رضا السّاخر فإنه يسعى إلى تقليده والتماهي معه ، بل كل ما يتمناه مصاهرته ، والحياة مثله . ولعل هذا ما سبب مشاكل اجتماعية ، واقتصادية ، وشوه البنية السكانية للريف والمدينة معا . فكثر النزوح ، وأقيمت أحزمة القصدير، وشوهت المدن . وتطور مقدار السخرية من الريفي لأن وضعه الجديد صار فاضحا أكثر. بل لعل مدينيته الحادثة رسمت الصورة بوضوح . فأدى هذا الشرخ النفسي المضاعف إلى تفصيه من كل القيم ، واندرج إراديا في الجريمة والانحراف - على أنه ليست كل جرائم المدن من صناعة هذه الشريحة - وساهم أبناء المدن في هذا الوضع ، فبمجرد أي احتكاك مع النازلين الجدد يردّدون "جاو قراطس ويحبوا يوَلِيوْ باكوات" أو"جبري ويحب يكبري" . و بهذا نجح أصحاب طرح القضاء على العروشية في طرحهم ، لكنهم تناسوا أنهم فتحوا حربا جديدة هي عزوف الشباب عن الانتماء للريف . وبذلك صار الريف في كثير من الأشياء عالة على المدينة ، وضاعت الموارد . بل لا غرابة أن نجد كثيرا من الجهات الداخلية الآن خالية بالكامل من سكانها .
وبعد تصفية هذا الطرف نرى أن النكتة توجهت إلى السخرية من جيراننا وإن بتفاوت . فبعد أزمة الوحدة مع ليبيا , نرى أن الليبي صار موضوع التندر، وذكّت حادثة الشرايطي وأصحابه بقفصة هذا التوجه ، وصار الليبي جحا لردهة لابأس بها من الزمن حتى خلنا أنه غبي معدم ، وحتى تخف وطأته نرى أن النكتة شرقت لتتحدّث عن عرب المشرق العربي . وهنا ساهم اليسار مع الزعيم في هذا المنحى ، وصار المشائخ والمتدينون موضوعا للسخرية والاستهزاء ، ولعل الأمر كان مسبوقا بالتسمية ذاتها فالشيخ نسفت في سياقها الديني ليحل محلها اسم العمدة ، والذي يخزّن التونسيون له صورة سيئة تتصل بالوشاية والتجسس ، وهذه الصورة موروثة من أيام القايد التركي لما تحول الحكم العثماني إلى حكم بغيض . ولكن في خضم كل هذا ما علاقة النكتة بالزعيم ؟
لقد تبين لنا سابقا أن النكتة مجّدت الذكاء ، ولكن الذكاء في مجمله تلخص في شخصية الزعيم الذي تحول إلى رمز الدولة ذاتها ، بل الدولة ككل، لأنه صار أمة . فلا تونس دون بورقيبة ويمكن أن يكون بورقيبة دون تونس . وبهذا جاءت النكتة لتدعم الكاريزما العالية لصورة الرئيس. وجلكم يتذكر النكت من نوع "اجتمع رئيس أمريكا وفرنسا وبورقيبة.... " وبالنهاية يظهر بورقيبة أشدهم ذكاء ، ويكون سيد الموقف دائما . لكن ألم يصنع الزعيم نكتا؟
لعل القارئ على بينة من مجمل خطب بورقيبة وسرعة بديهته و"ضماره" . فقد كان ينتقد معارضيه بدءا من الحزب القديم - كما قال هو بالنكتة والسخرية الجاحظية القاتلة - وكان قادرا على هدم صورة الخصم بطريقة ذكية منقطعة النظير، وبتدخله في كل مناحي حياة الناس. ولعلكم تتذكرون خطابه :"من هو عدو الشعب؟ ليكون العدو في النهاية هو المعيز" .
ولكن لم تقف النكتة في هذا الحد من الضدية بين " البَلْدِية " وسكان المناطق الداخلية فصارت تطاحنا بين البلْدية أنفسهم , وحاز" الصفاقسية" القسط الأوفر من المتندر بهم في نفس شعوبي بغيض ، لا يعكس حقيقتهم . وهذا مرده الصراع على السلطة ، واعتداد أهل الساحل بأنفسهم بعد أن استقر الأمر لبورقيبة . ولكن بم قابل الريفيون والمتندر بهم نص النادرة والنكتة؟
قد نجد في الملفوظ أشكالا عديدة ومتداخلة لكن للمثل القيمة القصوى في ملفوظ الريفي . فبعد أن كانت الألغاز والتشنشينة كشكلين متفشيين في زمن لم تكن الكهرباء فيه منتشرة ، ويستخدمان للتسلية ، وبث ما يريد الكبار ترسيخه من ذكاء وسرعة بديهة ، وتداخل في اللفظ وعسر في فهم الأحاجي ، أو بالحكاية والخرافة من تخويف ولجم لثورة الصغار ضد الكبار كان الغول والعبيثة والقتلة والأشرار بمثابة الرادع والمعين لضبط السياسات وتجسيد الرؤى . لكن لم تكن هذه الأنماط إلا ملكا للنساء وفقراء الرجال . صارالمثل الاختيار الأمثل ل"الزميم" أي سيد البيت والعرش إذ كان لا يرتاح للخرافة والحكاية وكل أنماط القول الأخرى فيختار في الغالب ابنه البكر، أو من يميل إليه من أبنائه ليورثه ما يراه دالا على الحكمة والقدرة - أي المثل - والذي به سيكون فاضّا للنزاعات ، والتدخل بين الناس ، وحل الأزمات وليس أنسب في هذا المجال من المثل كموروث حضاري ساد في زمن سيادة النثر على الشعر في نهايات دولة بني العباس والحكم العثماني على وجه الخصوص. لأن العثمانيين لا يستطيعون أن يضربوا في هذا الشأن بسهمهم . وهذا لا يعني أن المرحلة التي نتحدث عنها بتونس قد رفضت الشعر . بل إن الشعر من اختصاص "لديب ولدبا" وغالبا ما كان يستنجد بخبرتهم في الأعراس والأفراح . وليرضي هذا النمط السادة والأشراف نجده مثقلا بالحكمة . وصارت أشعارهم تجاور الأمثال وتردّد معانيها . فما المعنى الطاغي على الأمثال البدوية في هذه المرحلة؟
لا غرابة إذا قلنا إن المعنى العام للأمثال لا يجاري السياق المعيشي في شيء . بل نراه منشدا لزمن قديم مثالي لا يوجد فيه إلا الأبطال والفرسان . ولن يجد فيه المتتبع علامات سياسية ولا إيحاءات اقتصادية ولا اجتماعية تحيل إلى البيئة المعيوشة في القرن 20 . إذ مازالت هذه العلائق مبنية على"بنت العم تتفك من الجحفة" وهذا دليل قاطع على رفض الزواج المدني والعلائق القانونية . فالزواج ليس عن تراض بين طرفين بل المجموعة رأيها أولى وأهم . بل لانجد للرأي الشخصي أهمية . فالفرد منبت في المجموعة "أعوذ بالله من كلمة أنا" ولا تتجسد الفردانية إلا في قالب السخرية ، وانعدام المروءة ،والأنانية " قالولو يا جحا ....قال لهم أخطى رأسي واضرب" وليتنصل البدوي من قيمة التفكير في المجموعة فيبدو أن أمرا طارئا حصل . فما الذي جد حتى ينتقل كل هذا الانتقال؟؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن نكتفي بإجابة واحدة بل لا بد من العودة لدراسة كل الأسباب التي كانت سببا في هذا التغير الجوهري . فبعد الحكمة والتعقل ونبذ الفردية ، وقتل الأنانية ، وتجسد عقلية الرجولة ، والبطولة والفروسية نرى أنه صار براجماتيا ، ومصلحيا مغرما بالذاتية البغيضة . بل نراه طلّق المبادئ وصارت الغاية لديه تبرر كل الوسائل دون النظر للمقصد الأخلاقي. بل نراه صار متجرئا على الأخلاق ومتجاوزا إياها إلى جزر أخرى مفصولة "قل للكلب ياسيدي ما دامت حاجتك عنده" و"ذيل الكلب اللي يطلعك من الواد ما يهمك من نتانته".
فما سر هذا التغير؟ وهل يمكن لنا أن نربط بين ما احتوته النكتة التي وصلت للريفي فأفسدت براءتة وما سطره القانون الاجتماعي الذي خطه واقع العرب في الجزيرة قديما و أكده القرآن الكريم "الأعراب أشد كفرا ونفاقا" وساعتها نقول إن الدرن الذي أصاب النكتة "النادرة" - دون الخوض في أصل التسمية كما قلت سابقا لأنني على بينة أن النكتة يقصد بها ما يعلق بالقلب من سواد أو بياض كما احتوى الحديث النبوي الشريف ذلك والنادرة من الندرة والشذوذ - مأتاه من خارج المدينة . وبذلك تتبرأ المدينة من كم الفساد الذي اتهمت به وتكون هي رمز البناء والتحضر والتقيد بالانضباط والالتزام والفعل الحضاري. وبهذا تظل العلاقة بين الأقنومين المكانيين علاقة مبنية على "الشوارب تبوس والقلب فيه السوس" والمثل الثاني القائل "في الوجه مراية وفي القفا سكين أو فلاية" بحسب كل جهة وما يحلو لها . وبهذا نلحظ أن العلاقة بين المكانين علاقة توتر ترعرع وتغذى بالمال العام في الفترتين الرئاسيتين، واستفادت منه جهات على حساب أخرى ، وعانت بموجبه شرائح كثيرة. حيث كان الريفي ضراب طبل في مولد الزعيم أو قفاف و رئيس شعبة "لا يبل لا يعل". وبذلك يكون الحصاد لسيده "لابس الربطة" ومهندس سياسة الحزب، وهو الوقود وودرجات السلم التي يتسلقها المتسلقون و لا تتجاوز مسؤولياته لجنة الحي إن كان من النازحين ليرعى مصالح سادته ليلا وهم نائمون.
إنتهى تحريرها مساء :8/4/2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.