لم أرد أن اكتب في هذا الموضوع لأني اعتبر قضية الهوية التونسية من المسلمات، ولكن امام تفاقم الزخم الإعلامي لهذه القضية الواهية المفتعلة والتي اريد بها الفتنة وذر الرماد في العيون لشغلنا عن القضايا الجوهرية في المجتمع والتحديات التي تنتظر الثورة، لهذا سأحاول ان اتطرق إليها بالتحليل والنقد ورغم اني مقتنع ان هذه القضية هي شيء مفتعل وواه. لقد قامت بعض وسائل الإعلام الخاصة (وحتى الوطنية وخاصة في الأيام الأولي من الثورة) وركزت في نطاق نقاشاتها وطرح التصورات ما بعد الثورة لشخصيات تشيد باللائكية وان اللائكية والبعض يسميها العلمانية هي المسلك الأسلم للمحافضة على الحريات. لا أدري لم هذا الخوف الشديد من حرية التدين واتهام الإسلام بانه يرفض الحرية الدينية في حين ان التاريخ يشهد حتى في اعتى الفترات الحالكة من التاريخ الإسلامي الإستبدادي إذ لم يذكر فيه ان ملكا من الملوك او قائدا من القواد أجبر مجموعة بشرية عل اعتناق الإسلام والإيمان به، على خلاف ما حدث مع الديانات الأخرى من تعذيب وقتل والتاريخ يذكر ما حدث في الأندلس عقب سقوطها- وهذا للذكر وليس للحصر-، والأكيد كذلك ان الإستعمار الفرنسي وغيره من الحركات الإستعمارية التي حاولت فرض دينها بالقوة. وداخل منتديات الحوار التي نسمعها ونشاهدها ونقرأها نجد مغالطات كبرى، ولا أقول اننا نسمع كلمة حق اريد بها باطلا، بل هي كلمة باطلة اريد به الباطل، فالعنوان في اتجاه، والحوار وجوهره في اتجاه معاكس، العنوان رنان يدعو إلى فصل الدين عن السياسة وبالأخص الدين الإسلامي، أما التنظير والتحليل فيتحدث عن فصل الدولة عن الدين، وبين هذا وذاك بون شاسع، قد لا ينتبه له الفرد العادي، ولكن المفكر العاقل والعالم والمتمحص يتبين هذا الإخفاء والتغليط. أنا لن اتحدث بلغة الفلسفة حول الدين واشكالية الوجود وغيرها من الأمور الفلسفية ولن اتحدث بلغة شيوخ الدين حول الدين الإسلامي بانه دين الحق (ورغم ان هذا اعتقادي وايماني به)، ولكن ساتحدث في هذا الموضوع بلغة السياسة ولغة المواطن العادي ولغة يفهمها الشارع لعله يتبين السم الكامن وراء إلهاب هذه القضية وإعطائها هذا الزخم الذي لا ينبغي أن يكون فيها. الباب الأول: الحتمية الجغرافية كالحتمية التاريخية... أول الأشياء المستهدفة من هذه القضية هو الفصل الأول لدستور البلاد الذي يقر بأن تونس دولة عربية اسلامية، بمعنى ان العربية لغتها والإسلام دينها. لقد تواجد هذا الفصل زمن صياغة الدستور في عهد ظهور الجمهورية التونسية بفعل التاريخ والحتمية، هو فصل يصف كيان الدولة والمجموعة البشرية الذي تعتمد هذا الدستور، وورود هذا الفصل الأول بهذه الصياغة ليس باختيار احد وابتكار أديب، بمعنى انه لم يعبر عن اختيار حزبي وتوجه مختار من طرف واضعي الدستور، لأنه وبكل بساطة فصل صرح بواقع هذه المجموعة البشرية، فالإسلام وجدناه في ارضنا واتبعناه كابر عن كابر وجد عن جد، وتكلمنا العربية لأننا وجدناها لغتنا المنطوقة، وكما ورثنا هذه المعطيات، فسنورثها للأجيال القادمة، فهذا الفصل لم يكن صياغة بقدر ما كان اقرارا واقعيا لماهو موجود في هذه الحتمية التاريخية، والحتمية التاريخية هي مثل الحتمية الجغرافية، فاقرار موقع تونس الجغرافي في الدستور وتعريف الدولة لم يكن صياغة بل اقرارا، فلو كتب احد في دستور البلاد ان تونس مثلا بلدا أمريكيا في المحيط الأطلسي فالكل يعلم ان هذا غير صحيح، وعندما تكتب دستورا ان تونس ليس لها دين او لها دين آخر ولا تتكلم العربية فانت تكتب كذبا، لهذا انا استغرب هذه القضية المفتعلة والتسلط على هذا الفصل من الدستور، وهذا ما يجعلني اعتبره من المسلمات ولم افكر يوما في مناقشة هذا الأمر. فالذي يطالب بالغاء هذا الفصل اطلب منه أمرا بسيطا، ان استطاع ان ينفذه فعندئذ يمكنه ان يلغي هذا الفصل، بمعنى اذا استطعت ان تلغي مثلا راحة العيدين الإسلاميين وقبل الناس بهذا، فالأكيد أننا لن نصبح في حاجة لهذا الفصل، وهذا طلب بسيط للداعيين إلى إلغاء هذا الفصل وردي عليهم، وانا لا أطلب منهم ما اقوى كأن يمنعهم من الصلاة والصيام أو يمنع طقوس الحج والأضاحي، اتحدى فقط بإلغاء راحتي العيدين، فماذا ستجيبون؟....