القنصليّة التونسيّة بمدينة بون الألمانية بين وظيفتها في الماضي ومتطلبات المستقبل لم يكن يحلو لي بعد انتصار الثّورة في تونس أن أتوجه إلى القنصليّة التونسيّة بمدينة بون الألمانيّة التي تربطني بها قطيعة تامّة منذ ما يزيد عن عشرين سنة إلاّ لأمر مهم قد يتعلّق باستخراج وثيقة رسميّة أو الإستفسار عن أمر ما يتعلّق أحيانا بمتطلّبات بعض الإدارات التّونسيّة ، وتعود أسباب هذه القطيعة إلى عوامل متعدّدة منها ما هوّ شخصي يتعلّق بوضعيتي كلاجئ سياسي ، ومنها ما يرتبط بما قامت به هذه الإدارة من أعمال يرتبط في جزء منها بأنشطتها الأمنيّة ، حيث تحوّلت في عهد الرئيس المخلوع إلى معقل لمراقبة نشاط المعارضة بالمهجر وصياغة التقارير الأمنيّة ضدّهم ، ولعلّ عمليّة القبض على أحد موظفيها أثناء تجمّع احتجاجي للمعارضة بمدينة بون وهو يقوم بعمليّة تصوير من إحدى الطوابق العليا لمغازة عامّة مقابلة لموقع التجمّع إلاّ إحدى الدلائل لتحوّل هذه الإدارة التي كان من المفترض أن تكون في خدمة المواطن إلى خليّة أمنيّة . ناهيك أن المسؤول الأمني وبحسب ما يتناقله بعض التّونسيين تشير إلى تواجده بالقنصليّة وهو يواصل عمله لحدّ الآن ، زدعلى ذلك أنّ أغلب موظفي القنصليّة بحسب المصادر نفسها تقول أنّهم كانوا يباشرون أعمالا حزبيّة داخل هياكل التجمع خلال العهد البائد . أمّا الجانب الآخر والذي يجعل من حالة النفور تزداد يوما بعد يوم فتتعلّق بطبيعة الخدمات وكيفيّة سيرها ، حيث أنّ أوّل ما يجلب انتباه الزّائر وهو يخطوا الباب الداخلي للقنصليّة وجود موظّّف وهو يطلّ برأسه من شبّاك عريض به فتحة صغيرة يستفسرك عن طبيعة الخدمة ، أو ربّما يكون الزّائر هوّ من يقوم بهذا الدّور لاستخراج وثيقة ما . ورغم جهلي لكثير من الأشياء التي كانت تدور داخل أروقة القنصليّة في عهد الرئيس المخلوع فقد جمعتني أخيرا فرصة لأقترب أكثر من سير الأحداث بالقنصل بمقرّ الإدارة ببون لفضّ إشكال حصل بيني وبين أحد الموظفين القادمين من تونس للإشراف على عمليّة استخراج جوازات السفر والذي كان يتباهى أثناء نقاش حاد بيننا بخدمته مع الرئيس المخلوع لمدّة خمسة عشرة سنة ، و قدعبّر لي القنصل من خلال حديث أحادي مطوّل يحمل في بعض من طيّاته بعض الإشارات الإيجابيّة توحي بتطبيق القانون ومساعدة كلّ المواطنين بدون استثناء ، غير أنّ ما لفت انتباهي وأنا في مكتبه السماح لدخول أحد الأوروبيين وهو يتكلّم الفرنسيّة بطلاقة ، ممّا اضطر القنصل لتوديعي بسرعة وانشغاله بالضيف وهو لعمري أسلوب لا يرتقي لمستوى التعامل الحضاري المطلوب . فالثورة التي فجرها الشباب جاءت لتقطع نهائيّا مع ممارسات العهد البائد ولتحدث نقلة نوعيّة في المجتمع ومؤسّسات الدّولة لتتحوّل من الحالة السّلبيّة التي كانت عليها إلى حالة إيجابية تهدف إلى عودة الحياة والحركة والتجدّد في المجتمع ، ولكي تطبع الإنسان والمكان والزمان بطابعها الجديد المتجدّد ضدّ مشروع التخلف والعدوانية والجهل والحقد والإنغلاق والتحجّر والمحسوبية والإنتهازيّة والنفاق إلى مشروع المستقبل الذي يتطلع إلى التقدم والتحرر والحرية والمساواة والإستقلال الحقيقي والوحدة الوطنيّة والنهضة الشاملة ، وهي بدون شكّ قيم إنسانيّة تحتاج إلى تظافر جهود كلّ المخلصين من أبناء تونس إلى قيادة البلاد إلى برّ الأمان . ولعلّ القنصليّة التونسيّة ببون جزء لا يتجزّء من تلك المنظومة السياسيّة والأمنيّة الفاسدة التي كانت تحكم البلاد على مدى عقدين من الزمن وهو ما يتطلّب إحداث تغييرات جوهريّة في منظومة العمل وبعض الأشخاص حتّى يتمّ احترامها من قبل الجميع . وهنا تكمن مسؤوليّة المجلس التأسيسي الذي نتطلّع إلى انتخابه بعد ما يقارب الشّهرين من الزّمن لإقامة مشروع تحديثي نهضوي من شأنه نقض غبار التخلّف ، يبدأ باجتثاث الفساد وتعميق روح المواطنة سعيا إلى إعادة الثقة بين الجميع وتعزيز اللّحمة الوطنيّة ، بعيدا عن منطق الإلغاء والتفرد والإستقواء إلاّ لمن ثبت تورّطه في التلاعب بمقدرات الوطن واستغلال النفوذ والتعدّي على حقوق النّاس . نورالدين الخميري صحفي