كنت أتصفح بعض صفحات الفايسبوك حين ذكرني مقطع بما سرده الشيخ راشد الغنوشي (زعيم حركة النهضة التونسية) بخصوص ما فعلته به السلطات السعودية للتدليل علي معارضته للدولة الدينية كنموذج للحكم و قد كان ذلك أثناء "المناظرة" التي أجراها مع إحدى نساء تونس العلمانيات التي كان من جملة مآخذها على الإسلام أنه لم يساو في الإرث بين المرأة و الرجل (و حسب رأيي فقد "مرمدها" الشيخ في تلك المحاضرة). و قد ذكر الشيخ راشد في تلك المداخلة كيف أنّ السلطات السعودية منعته من آداء فريضة الحج و قد أرغمته على مغادرة الأماكن المقدسة و هو بلباس الإحرام حينها (و كان ذلك بإيعاز من المخلوع الذي صيّر تونس و كل الدنيا سجنا للشيخ راشد و أتباعه). و هي فعلة شنيعة بكل المقاييس إذ لا يصح لمن اُؤتمن على مقدّسات المسلمين أن يمنع أي مسلم من قضاء ركن من أركان الإسلام الخمسة تحت أيّ مبرّر أو مسمّى خاصة إذا كان ذلك المسلم شيخا في علم و مقام الأستاذ راشد. و قد روى الشيخ الحادثة مرات أخرى عل مسامع الحاضرين في مناسبات متعددة (كما صحّ عن الفايسبوك أدام الله ظله). شخصيا أتفهم المرارة و الحرقة التي تخلفها حادثة كتلك في نفس أي إنسان فالأكيد أن ذلك الشعور بالظلم و الغبن يأخذ مأخذه من أي حليم مهما كانت رحابة صدره و جميل صبره. و مع كل ما ذكرناه يبقى السؤال و بعيدا عن كل توظيف: هل من الحكمة أن يقع سرد هذه الواقعة على العموم و أمام عدسات الكاميرا سواء لإفحام العلمانيين أو للتنفيس أو لفضح القائمين على الحكم في بلاد الحرمين أو مهما كان السبب؟ فالأكيد أن تصريحات بمثل ذلك الشكل سوف تؤثر سلبا على العلاقات التونسية السعودية على مرّ السنوات القادمة بينما البلاد مازالت غارقة في لملمة جراح ما بعد الحقبة البائدة. صحيح أن الثورة قامت و لكن مئات الآلاف من التونسيين بما في ذلك عشرات الآلاف من أصحاب الشهائد العليا لايزالون يبحثون عن مورد رزق و لا يخفى على أحد مقامرات الشباب بحياتهم للعبور للضفة الأخرى للمتوسط بحثا عن الرغيف بعد أن أرهقتهم البطالة و قلة ذات اليد هم و عائلاتهم. فوزن المملكة العربية السعودية الإقتصادي لا ينكره أحد فحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية تنظر للسعودية بعين الشريك القوي و قد تجلى ذلك في صفقات السلاح البليونية لإنعاش الإقتصاد الأمريكي أو للإقتراض من فائض الخزانة السعودية العائمة فوق أكبر احتياطي نفطي في العالم. و قد لا يزال يذكر البعض كيف تدخلت الحكومة البريطانية مؤخرا في مسار القضاء المستقل لتمنع التحقيق في رشاوي تورطت فيها شركات سلاح بريطانية مع بعض أفراد العائلة المالكة في السعودية. فعندما يكون الشريك الإقتصادي بحجم السعودية فحتى أكثر الدول عراقة في الديمقراطية تراعي مصلحة البلاد الإقتصادية قبل أن تتصرّف بما قد يحرج المملكة. فقد كان من الحكمة و من مصلحة البلاد أن يتصرف الشيخ راشد كرجل سياسة و ليس كرجل فكر في هذه الحالة (و في كل الحالات التي تكون فيها علاقة البلاد مع دول شقيقة أو صديقة في الميزان). قد يجادل البعض أن السعودية و الثورة خطّان لايلتقيان و يجب القطع مع أساليب الانبطاح و التطبيل للدكتاتورية إلى آخر الألفاظ التي تسر السامعين و لا توفر الخبز للجائعين; باختصار شديد ليس هذا مربط الفرس. فمصالح البلدان العليا لا تحكمها الشعارات. ألم يتوجه الشيخ راشد نفسه إلى سيف الإسلام القذافي غداة الثورة و أعلمه أن الثورة لا تهدد مصالح الجارة ليبيا و أن الثورة هي في الأساس في تماهٍ تام مع "الجماهيرية" بمفهومها الأخضر الفاتح و ذلك لتفادي شر العقيد و لضمان استمرار العلاقات الإقتصادية المتميزة بين البلدين؟ و قد وقعت المكالمة سويعات فقط بعد ذلك الخطاب المشؤوم للعقيد الذي هاجم فيه الثورة و اتهم فيه التونسيين بالغباء و قصر النظر لأنهم تخلّوا عن رئيسهم الملهم بن علي الذي تمناه العقيد أن يحكم تونس مدى الحياة. و بغضّ النّظر عن محتوى و توقيت تلك المكالمة التي كثر اللغط حولها آنذاك إلاّ أني شخصيا (مع كثيرين من الغيورين على البلاد) اعتبرتُ ذلك موقفا مسؤولا ينمّ عن ذكاء سياسي و حسّ وطني عالي يُحسب للشيخ راشد رغم الخطورة السياسية لموقف من ذلك القبيل. لا أظن أن نظام المجنون القذافي أكثر تحضرا و احتراما لشعبه و لجيرانه من نظام المملكة العربية السعودية. مثال آخر عن المملكة و الثورة و المصالح: ألم يقم رئيس وزراء مصر الثورة الدكتور عصام شرف في الفترة الأخيرة بزيارة للسعودية رغم موقف هذه الأخيرة المعادي للثورة و الداعم للرئيس المصري المخلوع إلى يومنا هذا و عاد بأربعة بليون دولار للخزينة المصرية في شكل هبات و قروض ميسرة؟ فلا يجب أن يكون تغيير النظام في السعودية أو غيرها شرطا أو هدفا من مشمولات الثورة في أي قطر محرّر بل إن اختيار نمط الحكم هو شأن داخلي لكل بلد. فالهدف الأكثر إلحاحا في الفترة الراهنة و القليلة القادمة هو الخروج بالبلاد من أزمتها الإقتصادية باللجو ء إلى إخواننا في دول الخليج و السعودية في مقدمتهم عوض الإرتماء في أحضان البنك الدولي و رهن البلاد للغرب بقروض مسمومة تفوق الفوائد فيها الأصول بأضعاف مضاعفة. هذا الغرب الذي كان يدعم المخلوع إلى آخر رمق حتى بالقنابل المسيلة للدموع للقضاء على الثورة (طبعا دون التعميم فهناك البلدان التي دعمت مسيرة الشعب في نضاله ضد الدكتاتورية كالبلدان الإسكندنافية مثلا). كنت أتمنى أن يتعالى الشيخ راشد عن ألمه الشخصي لمصلحة البلاد فالسعودية مثلا بإمكانها إعانة البلاد في هذا الظرف الحساس من عمر الثورة بانتداب الآلاف من أصحاب الخبرات التونسية و مد خزينة البلاد بقروض ميسرة تراعي ظرف الإقتصاد التونسي الذي يمر بأزمة بحكم الوضع العام بالبلاد. فرنسا التي اعتدت على الشعب التونسي بدعمها اللامشروط لجلاده منذ ما يربو على نصف قرن انقلبت فجأة إلى مناصر قوي للثورة التونسية. و قد أحسن الشيخ راشد في زيارته الأخيرة لفرنسا إذ لاغضاضة في إثنائة عليها للتطور الظاهر في موقفها من الثورة و الحركة الإسلامية فدعم و تشجيع الإرتباط الإقتصادي المتين بين البلدين واجب لتنشيط السياحة و خلق مواطن الشغل للعاطلين فلا مكان للعواطف أو ردود الأفعال المتشنجة في مثل هذه الحالات. من ناحية اخرى فنحن نرى أن "أحزاب فرنسا" العلمانيين المفروضين على رقابنا على بكرة أبيهم و بدون استثناء يحجّون إلى فرنسا صباح مساء لطلب النصرة و الإلهام لهزم المشروع العربي الإسلامي لصالح المشروع الفرنكفوني و الجميع يرى و يسمع غرائب في هذا الباب من الهيئات المنصّبة إلى اللّجان المستخفّة بإرادة الشعب و الله وحده من يعلم كيف ستكون طبختهم القادمة. فهل سمعنا علمانيا واحدا ينتقد فرنسا برغم كل ما اجترحته في حق الشعب التونسي؟ فلماذا على الإسلاميين أن "يتوددوا" إلى العلمانيين بتعكير العلاقة مع إخوانهم في السعودية و الخليج؟ فكما أن فرنسا هي العمق الثقافي و الإقتصادي لعلمانيينا المنبتين فمن أولى و أحرى بالإسلاميين أن يكون لهم عمقهم الاصيل المتشبع بالهوية العربية الإسلامية. لستُ من المطّلعين على خفايا الأمور فقد يكون لحركة النهضة حساباتها الخاصّة بها (الورقة التركيّة مثلا) و لكن و مهما يكن فللسعودية وزن لا يجب تجاهله في حسابات النهضة الإستراتيجية. و حتى و إن سلمنا بكل ما يراد لنا التسليم به فلا أظن أنّه من الحكمة السياسية في شئ أن تهاجم الحركةُ و من أعلى هرمها دولةً بحجم الشقيقة السعودية (يا أخي على الأقل فلتوكل مهمة ذلك إلى قياديين أقل درجة في الحركة ليوجهوا لوما أو انتقادا بطريقة متوازنة فحتي النظام السعودي ليس على بكرة أبيه يحب بن علي و يكره النهضة). الخلاصة أن الخلط بين الدور الفكري و الدور السياسي للشيخ راشد (و لحركة النهضة ككل) أضر بمصلحة البلاد و الحركة و ربما لم يعد الوقت يحتمل التأخير لتقوم الحركة بمؤتمرها و تفصل بين جناحها السياسي و الفكري لتسير على خطى الإخوان في مصر و من قبلها تركيا و المغرب. فالأكيد أن هذا الفصل سيصبح ضرورة حياتية عندما تشتد الحملة الإنتخابية في الأشهر القليلة القادمة. أرجو أن يتسع صدر الشيخ راشد و أنصاره و مناصريه و المقدرين لمسيرته النضالية (و أنا واحد منهم) لهذه الهمسة و الله من وراء القصد. د. مختار صادق أمريكا في 12جوان 2011