قد يبدو هذا المقال متناقضا مع موقفي المساند لحركة 18 أكتوبر التي كرست العمل المشترك مع حركة النهضة لاكتساب حقوق المواطنة المسلوبة منا جميعا. ولكنه تناقض ظاهري اذ أن النداء للعمل المشترك مع حركة النهضة ومع كل اتجاهات الاسلام السياسي التي ترفض العنف لهو في الواقع نداء الى توفيرالظروف التي يتم فيها التنافس النزيه بيننا وليس نداء لترتيب بيت زوجية نتساكن فيه جميعا، ذلك اني لا زلت اعتقد بان مرجعية حركة النهضة تتنافى مع أبسط المبادئ الديمقراطية وأنه طالما بقيت تلك المرجعية فانه من واجبنا مقاومة مشروعها وليس مساعدتها على تحقيقه بابرام أي تحالف معها. ولكني اعتقد أيضا بان هذه المقاومة هي قضية المجتمع ونخبه السياسية والفكرية وليست قضية الدولة وبانه اذا كان للدولة دور في هذا الصراع فانه يقتصر على وضع ضوابط لكي لا تؤدي نتيائجه الى تهديد مكتسباتنا الاجتماعية والحضارية. ومن البديهي ان العمل المشترك مع حركة النهضة من أجل اكتساب حقوق المواطنة يصبح مبايعة لها اذا لم يكن مرفوقا بجدل سياسي علني وشفاف يدل الرأي العام ويسمح لكل طرف ليس فقط بتوضيح منطلقاته بل أيضا باتخاذ موقفه على بينة فيما يخص تحويل هذا العمل المشترك الى تحالف سياسي واسع او حصره في المطالب الاساسية التي طرحتها وتعمل على أساسها حركة 18 أكتوبر. ولقد افتتح الشيخ راشد الغنوشي مشكورا هذا الجدل بمقاله الوارد بعنوان "التحالف مع الاسلاميين : مطلب المرحلة ام سير ضد الطبيعة؟" والمؤرخ في 8 جانفي الماضي. وفي حين أن بعض الرفاق رأوا في هذا المقال تحولا فكريا ايجابيا لزعيم حركة النهضة، فاني لم أر فيه شخصيا سوى تعليبا جديدا لمضمون قديم. ويجدر قبل كل شيء ان نتعرض للحواجز الرئيسية التي أراها تمنع اليوم الحركة الديمقراطية من التحالف السياسي مع حركة النهضة. كلنا يعلم بان الاسلاميين لا يمثلون تيارا متجانسا، لا سياسيا ولا عقائديا، ذلك أننا نراهم في طيف يمتد من بن لادن الى أردوغان. وبالتالي فان المرجعية الاسلامية أصبحت لا تكفي وحدها لتحديد موقف من التحالف مع التيارات السياسية ذات المرجعية الاسلامية. ولكن الثابت هو أن كل تيار سياسي يطرح نفسه كوصي على معتقدات مشتركة لا بد أن يحمل مشروعه في طياته بذور الاستبداد. ذلك ان التيار الذي يريد أن يحكم بارادة الله سوف يصل حتما الى الحكم بتأويله لهذه الارادة، بل وسوف يفرض حتما ارادته الخاصة على كونها ارادة الله. والسبب هو أن هذا التأويل سوف يكون حتميا باعتبار أن كتاب الله تنزل في ظروف بعيدة كل البعد عن ظروف مجتمعاتنا الحالية وكذلك الشأن بالنسبة لسيرة وحديث الرسول، مع المضاعفات التي يضيفها وجوب التثبت مما هو صحيح من الحديث وما هو غير صحيح. فنحن كديمقراطيين لسنا ضد ارادة الله، ويا حبذا لوكانت هذه الارادة واضحة بوضوح قانون الصحافة التونسي لكي نطبقها بحذافيرها، ولكننا ضد تأويل أي طرف لارادة الله وضد فرض هذا التأويل علينا جميعا. أما الحاجز الثاني فهو أن تأويلها لارادة الله، ولا مفر لها من هذا التأويل الذي تمليه عليها مرجعيتها، أدى بها الى طرح مشروع اجتماعي وسياسي واقتصادي يرجعنا قرونا الى الوراء، وهو ما لا يقبله ليس فقط الديمقراطي بل حتى العاقل. ومن ذلك طبعا تطبيق الحدود والعقوبات الجسدية ومكانة المرأة في المجتمع وتعدد الزوجات ومنع أسس النظام البنكي والتدخل في حياة الفرد وغيرها. ومن المؤسف أن نرى خطاب زعماء حركة النهضة، وخطاب زعيمها بالخصوص، ليس فقط يحافظ على هذه الحواجز بل يعقّدها بمحاولة اخفائها بخطاب حداثي لا يخفى مضمونه الا على الغبي. لقد كان بيان 3 نوفمبر الماضي متناسقا مع ما عهدناه في مواقف ومنطلقات الشيخ راشد الغنوشي بالرغم مما أثاره ذلك البيان من اندهاش في الاوساط التي بادرت بعمل مشترك مع حزبه في نطاق حركة 18 أكتوبر. وكان الدور الذي عينه الشيخ الغنوشي لحركته كوسيط بين الخالق والعباد واضحا الى درجة أنه شمل أتباعها بالصلاة والسلام "...على اله وصحبه ومن دعا بدعوته وحمل لواءه الى يوم الدين...". ونحن نأمل فقط أن لا يقرر في يوم من الايام ادخال هذا الدعاء في صلوات المسلمين، على الأقل في الشابة والمهدية، أما في قمرت فليفعل ما يشاء. ومن البديهي أن وساطة حركة الشيخ راشد الغنوشي هذه تسمح لها بمعرفة ما يرضاه وما يرفضه الخالق. فلقد رأت من أعالي جبل عرفات أن حال تونس الحبيبة "لا يرضاه لها الله ورسوله". ويختم الشيخ راشد بيانه بتبشير الخلق باهتزاز"مشاريع العلمنه وسائر المشاريع المضادة والتي رشحت نفسها بديلا للمنهج الإلهي". وكم يسرني أنا العلماني بان أعلم من الشيخ راشد الغنوشي نبأ اهتزازي وقرب انقراضي من اليابسة في نفس الوقت الذي بدات فيه العمل مع حركته من أجل اكتساب حقوقنا المشتركة، وكم يسرني أيضا بان أعلم ان حركة الشيخ راشد الغنوشي تحمل مشروعا الاهيا وبالتالي لا يمكن نقاشه (وهل يمكن ان نجادل الاله؟). ونشكر هنا زعيم حركة النهضة على الأقل على جهره بمشروعه. ومن أنذر فقد اعذر منطلقات حركة النهضة من خلال المجهر قد يكون سخط وانزعاج العلمانيين من بيان حركة النهضة من أسباب تغييرصياغة خطابها و تقديمه في شكل حداثي لائق. فيتهيأ لقارئ مقال 8 جانفي ان الشيخ راشد يميز حركته عن الاصوليين الاسلاميين بنقدهم وتحميلهم المسؤولية ، رفقة ما سماهم بالاصوليين العلمانيين، في افشال التقاء حزبه مع الحركة الديمقراطية. وقد كان بالامكان أن تمثل محاولة التمييز هذه تطورا ايجابيا في فكر زعماء حركة النهضة لو أن الشيخ الغنوشي عرّف الاستئصاليين او الاصوليين الاسلامين استنادا الى منظومتهم الفكرية وليس الى مواقفهم السياسية. ولا أعتقد ان ذلك من باب السهو بل لانه يعلم بان المنظومة الفكرية لحركته هي نفس منظومة ما سماهم بالاصوليين الاسلاميين. ويعلم الجميع بأن المنظومة الفكرية هي الثابت بينما المواقف السياسية هي المتغير وأنه لا يمكن تقييم أي تيار سياسي بالاعتماد على ما هو متغير، كما لا يمكن تقييم أهداف أي حرب بالاعتماد على المناورات التكتيكية بل فقط على الاستراتيجية. وبناء على ذلك فاني أرى بان المنادين بالتخلي عن الجدل العقائدي او الايديولوجي لهم في الواقع يخدمون ركاب كل من لهم فائدة في اخفاء استراتيجياتهم. ومن المؤسف ان نعاين ان كل محاولات حركة النهضة تمحورت الى حد الان حول اخفاء استراتيجياتها وليس حول تطويرها. ذلك ان مقال الشيخ الغنوشي الاخير لا يمكن اعتباره سوى نموجا من نماذج التقية وليس تطورا فكريا يذكر. فوصاية حركته على معتقداتنا المشتركة باقية ولا أعتقد أنه تراجع عن سطر واحد من أدبيات حركته بالرغم من تنقيحاتها وتكلملاتها المتعددة. ففي الطبعة الاخيرة من كتابه الصادر بعنوان "المرأة بين القران وواقع المسلمين"(الطبعة الثالثة - طبعة مزيد ومنقحة - 2000 )، كتب الشيخ الغنوشي بالحرف الواحد "فالمجتمع الاسلامي هو الذي يتولى الله فيه سلطة التشريع، تشريع النظم والقوانين والقيم والموازين، ما تعلق منها بالفرد والمجتمع والدولة، وما يتعلق بالناحية المادية والروحية اذ الاسلام لا يرتضي بل لا يمكن له أن يعمل ويثمر بغير هيمنته على الحياة جملة" (صفحة 93 ). كلام واضح ولكن الشيخ الغنوشي نسي ان يبين لنا كيف يتولى الله التشريع اذ لم يكن عن طريق تأويلاته الشخصية وتأويلات أتباعه. أما في ما يخص أساس هذه التأويلات فانه يحاول تهدئة روعنا ، ليس بالتخلي عن المفهوم السلفي، ولكن فقط بتلطيف التعبير. فبدل الحكم الحاد والتصريح القاطع الذي عودنا عليه منذ السنين والمتمثل في الجزم بانه "لا اجتهاد مع النص" نرى الشيخ الغنوشي يعتنق التلطيف الانجليزي فيعطي الصدارة للحرية والاباحة ثم يقصف جذورها بعبارة "soft" ولكنها ترجعنا الى نفس المضمون. فما الفرق يا ترى بين "لا اجتهاد مع النص" و "الاصل في الاحكام الاباحة أي الحرية حتى يأتي النص المقيد"؟ ليس هناك أي فرق. واذا ادعى الشيخ الغنوشي او أحد زعماء حركة النهضة بان فهمي خاطئ، وهو ما أتمناه، فليدلنا فقط عما اذا كانت النصوص القاضية باقامة الحدود وقطع يد السارق ورجم الزانية وضرب النساء وتعدد الزوجات ومنع الرباء ملزمة ام لا؟ كما ان اعتماد أسلوب التلطيف جعل الشيخ الغنوشي لا يجزم كعادته بان هدف حركته هو اعتماد الشريعة في ادارة المجتمع بل يميّع نفس الهدف في الاشارة الى مرجعية تاريخية متممة للنص وهي ما سماها "بالتجرية التاريخية (التي) أشرف على وضع اسسها صاحب الدعوى ذاته عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه". كل هذا المسار الملتوي لكي لا يذكر الشريعة صراحة! فيتتضح من هذا أن حركة النهضة، مهما اختلفت صياغات مشروعها، لاتزال شمولية من حيث أنها تنادي الى نظام حكم لا يترك مجالا لاعمال العقل (تطبيق تأويلها لارادة الله) وينفي الحريات العامة والفردية وأنها حركة رجعية من حيث أن المنطلق السلفي (تطبيق الشريعة) يرجعنا الى الوراء ويقضي على كل المكتسبات الحضارية لمجتمعنا. وعلى هذا الاساس فان التحالف السياسي معها يعتبر اليوم نفيا لأهداف التقدم الاجتماعي والتحرر السياسي. فالان وقد اقتنع كل العلميانيون بان التيار الاصولي من مكونات المجتمع السياسي التونسي ومن حقه أن يعمل بحرية وحتى أن يحكم فلا مبرر لدى حركة النهضة لنهج "التقية". ذلك أن المطلوب من كل طرف في هذه المرحلة من تطور العمل السياسي في تونس هو الوضوح في المواقف والدفاع الحازم عن معتقداته، مهما كانت، اذ ليس فينا من هو مخول لاعطاء صكوك "التوبة"، ديمقراطية كانت او اسلامية. كما أن المطلوب من السلطة هو أن تضع من الان الضوابط التي تمنع التيار الاصولي او أي تيار شمولي اخر من تهديد مكتسباتنا الحضارية في حالة وصوله الى الحكم عن طريق انتخابات حرة ونزيهة.