ذات يوم من أيّام فيفري 2005 ثبّتت المحكمة التونسية حكما على (أمّ زياد) بالسجن ثمانية أشهر مع وقف التنفيذ ودفع غرامة تعادل 600 أورو، لتورّطها في عمليّة تعتبر أيّام التغيير المبارك من أكبر الأعمال النّاسفة لقواعد الاقتصاد التونسي الطموح، الملوّثة للشفافيّة وللأيادي النّظيفة التي كانت السمة البارزة للحكم الرّاشد الذي أرساه - بمساعدة الحريصين على حماية تونس ممّا يتهدّدها - حامي حمى الدّين والوطن؛ ذلك الذي فرّ ذات يوم من جانفي 2011 بعد أن يئس من استجابة الشباب التونسي للغة العقل، وقد كانت تهمتها يومئذ "تبديل 170 أورو" كانت قد جلبتها معها من الخارج!... ومع اعتداء أمّ زياد على الاقتصاد التونسي – كما لا يخطئ ذلك أيّ مدقّق في التهمة أعلاه – فإنّ أمّ زياد قد "خرجت" عن أنوثتها حتّى عُدّت أو كذلك عددتها في مقدّمة الرّجال مقاومة لما لم تره – خلافا للمحلّلين السياسيين البارزين اللامعين إبّانئذ - خيرا لتونس!... كانت تقول وتكتب أشياء كثيرة عن صاحب التغيير وعن التغيير وعن التغيّرات لا شكّ أنّ النّاس اليوم قد اقتنعوا بصحّتها، بل لا شكّ أنّ الحراك الثوري قد تأثّر بها وإن بصورة غير واضحة المعالم!...
أمّ زياد اختارت بعد الثورة "الانزواء" والبعد عن الأضواء، ولمّا اتّصل بها صحافيو الشاهد التونسي برّرت "انزواءها" ذلك بالصدمة والارتباك اللذين نالاها بفعل الزّحام... كانت أجوبتها مخصرة دقيقة واضحة مباشرة مبتعدة عن الشخصنة رامزة ناخسة!... والحقيقة أنّ هذه الصدمة وهذا الارتباك قد نال الكثير من غير أمّ زياد، ممّن صُبغت كتاباتُهم ربّما بذات الصبغة التي صُبغت بها كتابات أمّ زياد من حيث معارضتا للنّظام وفضحها للممارسات الدّنيئة التي أوقعها الظلمة وأعوانُهم على التونسيين ولا سيّما على شريحة بارزة منهم... فقد كان الكتبة يومئذ قلّة... بل كانوا كلّما كتبوا اتّهموا بأنّهم لا يكتبون بل يشتمون، بل وصفوا بأنّهم مغفّلون لا يحسنون التمركز، بل نُعتوا بأنّهم عمي متعصّبون قليلو الشأن متهوّرون... كانت بقية الأقلام يومئذ جافّة جفوة وجفاف قلوب أصحابها... كانت خانسة خنوس همّة أصحابها... فلمّا منّ الله سبحانه وتعالى على تونس بنعمه السابغة انطلقت الأقلام تُهدر الحبر بلا حساب، وتمنع أصحاب الأقلام تلك حتّى من التواجد في بعض ثغرات الصفوف... وقد كان يمكن الترحيب بهذا الزحام لو أحسن المزاحمون والمتزاحمون حفظ الحقوق وامتنعوا عن نسيان الفضل لأصحاب الفضل، ممّن قد يكونون من الأسباب المباشرة أو غير المباشرة في إطلاق سراح أقلامهم هذه التي لم تُعرف قبلَ هروب الذي يلقّبونه مخلوعا...
تصرّفٌ حادثٌ لم يقتصر عن الأقلام بل تجاوزه إلى كلّ الأنشطة... ففرحة الانتصار على الظلم والظلمة أنست النّاس حتّى التأدّب مع بعضهم البعض... فالجميع يتبارون دون ضابط، كلّ يريد نسبة ما حصل لمجهوده هو وحده، فقد غفل بعض النّاس حتّى عن شكر مولاهم الكريم الجليل سبحانه وتعالى الذي قذف في قلوب الظلمة الرّعب ففرّوا غير موقنين بالوصول إلى مكان يظنّون أنّه آمن... بات كلّ متكلّم في تونس يرجو لكلماته القبول عند النّاس بالاتّكاء على ذكر الشهيد... والشهيد عندهم واحد لا ثاني له، فهو الأوحد الذي قلب النّظام كما كان بن علي الأوحد في السير على الجماجم لحماية ذات النّظام... لم يذكروا أو يتذكّروا الشهداء الأخر الذين ماتوا في السجون والذين قضوا في الحوض المنجمي وفي غيره من البقاع التونسية الأخرى أو الذين دفنوا في أرحام أمّهاتهم قبل خلقهم لطول غياب آبائهم المفترضين عن أمّهاتهم!... برزنا بعد الثورة أحزابا ولم نبرز تونسيين، ولولا بعض الجهود التي عملت بعيدا عن التحزّب كما في المنظّمات الخيريّة أو القوافل الإنجاديّة الإغاثية لكرهنا أن نكون تونسيين... برزنا محبّين للظهور ربّما حتّى أنسانا ذلك أناسا صادقين منّا عملوا جاهدين علنا أو في الخفاء عشرات السنين!... هنيئا لنا الإسلام ومن قبله الربّ الحيّ الذي لا ينسى إذا نسي النّاس!... ولكنّ أمّ زياد وغيرها ممّن ذكرت يريدون للنّاس أن يتحلّوا بأخلاق الرّجال فلا يفقدوا وضوح الرؤيا عند الزحام، ولا يبخسوا النّاس أشياءهم، فهؤلاء وإن صبروا وانزووا يظلّون من النّاس!... وهنيئا لأمّ زياد وغيرها من "النّكرات" ما قدّموا خالصا لله تعالى ثمّ لتونس التي من أجلها تُدفع النّفوس... والله أسأل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعته، ويُذلُّ فيه أهل معصيته، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنّه مجيب سميع الدّعاء...