انطلاقا من إيماننا أن المسألة الثقافية سواء كانت داخل "الحركة " أو خارجها ، تظل المحور الأوكد والأبرز الذي يجب أن يحظى بالاهتمام باعتباره الرافد الأقوى والأضمن لبناء مستقبلها وتجذرها في العمق السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وانطلاقا من أن القيادات النهضوية تلتمس النصيحة وترحب بها وتعمل بمقتضاها فإننا نعرض أمامكم لقطة ترسم صورتنا من خلال المشهد الثقافي العام، كما نراها أو كما تبدو لنا في هذه الفترة بالذات : أولا ليس لنا نحن الإسلاميين موقع قدم يذكر في المجالات الثقافية تقريبا. وعلى سبيل الذكر لا الحصر : تابع وزارة الثقافة في هياكلها ومضامينها ، هل تعثر على بصمات أو على نفس إسلامي مبرمج أو منظم ؟ تابع ودقق في المهرجانات الشتوية أو الصيفية من قليبيا إلى قرطاج إلى دوز... تجول في المكتبات ودور الكتب وتصفح الدوريات والنشريات وسائر الصحف ، ألق نظرة على دور المسرح والسينما والأدب والفكر.. تابع الشاشات والفضائيات والبث المرئي والمسموع.. تخلصْ مباشرة إلى نتيجة واضحة : لا وجود عندنا لمضامين ولا لمشاريع أو حتى مجرد مساهمة أو إثراء سوى بعض الاستثناءات التي تمثل نسبة لا تستحق الذكر. ولإدراك أشمل وأوسع، انظر فقرة : "عناصر الثقافة المضادة" الواردة في مقال(المسألة الثقافية بين الموجود والمنشود ). ثانيا هذا الوضع (الإسلامي الثقافي ) القاحل الضحل المتصحر: ندرك أن له أسبابا موضوعية متمثلة في عشريات القمع والإقصاء وتجفيف المنابع التي فرضها ميزان القوى وتوخاها بوحشية نادرة . وندرك أيضا أن هناك أسبابا ذاتية: * ذلك أننا في جل الأحيان نحُول دون أنفسنا... * نقف حاجزا دون قدراتنا * أو قد نُصادر مواهبنا أو نكبتُها أو نحرمها من مناخات التفتق والإبداع .. * ولعلنا نتفق أن أبشع أشكال المصادرة تكون إما بالتهميش أو التسويف أو التذرع بأن المرحلة مكبّلة ب "المؤقت " وب" الاستثناء ". والتاريخ يلقننا باستمرار أن المؤقت قد يتحول إلى مؤبد والاستثناء إلى أصل. وللحقيقة فإن المناخ العروبي الإسلامي اليوم في بلادنا لا يزال منصرفا عن المسائل الثقافية فلا يؤسسها ولا يمركزها ولا يشجعها بأي شكل من الأشكال الحازمة والجادة .. ولعل السبب المباشر يعود إلى "التغوّل السياسي" واسمحوا لنا أن نسميه "التسونامي السياسي "الجارف.."، تسونامي " على حد تقديرنا بدأت مؤشراته تغزو وتبتلع تدريجيا أغلب التوجهات والأبعاد الأخرى... ثالثا انظر مثلا بعض القدرات العالية المستوى والمنضوية في التيار الإسلامي عامة ، واستحضرْ في ذهنك وذاكرتك بعض الأسماء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ... هي كثيرة جدا ولا حاجة إلى تشخيصها، لكن أين هي الآن ؟ أين مواقعها في الساحة الفكرية وفي المنابر الثقافية والإعلامية ؟ رابعا إن المجتمعات الغربية تنحت من خلال أحزابها ومؤسساتها المدنية نجوما وأعلاما وتبدع في صياغتها وصناعتها وتلميعها حتى وإن كانت في أصلها هزيلة أو كرتونية .. أما نحن فترانا نعمد عن قصد أو عن غير قصد إلى إخمادها أو ربما وأدها وطمسها وإطفاء جذوتها بحجج شتى جلها واهية من قبيل أننا في مرحلة "التهيكل" أو "التأسس" أو من قبيل الضغط الزمني الكامن في الممرات السياسية الملتوية... خامسا والنتيجة المباشرة لهذه الممارسات أننا نحن أصحاب الفكر والتاريخ وأصحاب الثقافة والإبداع نعيش في مناخ الضحالة والتصحر ونحشر في خانة والتقوقع ونوصف بالعنف وبالتطرف النابع عن العجز الفكري والتحجر الذهني، وتسند إلينا رذائل فكرية كنا قاومناها ولا نزال نقاومها بما أوتينا من جهد ووقت وإمكانيات، ولا حجّة لنا لنفيها ما دمنا على هذه الحال.. ولهذه الأسباب الموجزة : ومن باب النصيحة من ناحية ومن باب الشعور بالمسؤولية من ناحية أخرى ندعو حركة حزب النهضة ونؤكد إلى إعادة النظر في "المسألة الثقافية" بأبعادها الآنية والمزمنه، وذلك من حيث الاهتمام ومن حيث إعادة ترتيبها في سام الأولويات، ومن حيث إيلاء الحجم المناسب ومن حيث الهيكلة والتنظيم من جهة ومن حيث الدفع والمساعدة المادية والمعنوية من جهة أخرى وذلك بشكل عاجل، جاد ومسؤول، وبما يتماشى وأهمية المرحلة. ولئن انفلت من قبضتنا قصب السّبق ( الثقافي ) لأسباب ذاتية أو موضوعية فقد آن الأوان لاستعادة الأنفاس نحو البناء والتأسيس .. فالفُرص لا تزال سانحة والاستعدادات متوفرة جدا وبشكل ملحوظ في اتجاهين : إما تأسيس فضاء ثقافي قانوني متهيكل يعمل على مستوى قطري يِدي دوره خارج "حزب النهضة"..بشكل مستقل استقلالية مطلقة أو هي استقلالية يمكن دراسة وتقدير وتحديد سقف ارتباطاتها.. أو بناء فرع ثقافي داخلي يحظى بحيز أوسع من الإعداد والتعبئة ويعمل بطلاقة أو باستقلالية نسبية مدروسة، ويتفاعل إيجابا مع سائر مؤسسات الحزب مستفيدا من العلاقة الجدلية بين ثقافي وسياسي في الكيان الواحد عبر التجارب المعاصرة .