بعد أن تحدثنا عن ظاهرة الشح وعن صفة الكرم كصفة مقابلة لها, يمكن أن نتناول الآن بالتحليل ظاهرة إتباع الهوى: وهي الصفة الثانية التي وردت في الترتيب في الحديث النبوي الشريف, وقد جاء لفظ الهوى مقابلا للفظ الوحي, قال تعالى في سورة النجم آية 3 و 4 ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴿53/3﴾((يقول الصابونيأي لا يتكلم صلى الله عليه وسلم عن هوى نفسي ورأي شخصي.((إِنْ هُوَ إِلَّاوَحْيٌ يُوحَى﴿53/4﴾)) ويقول أيضا في تفسيره أي إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً، من غير زيادة ولا نقصان، كما روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: " إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق " وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه " فكلامه صلى الله عليه اذن وحي من الله ولا يخضع لهوى النفس. وقد ورد لفظ الهوى في آيات كثيرة من القران الكريم مسبوقا في كثير من الأحيان بفعل اتبع,والهوى في اللغة مصدر هويه يهواهأيأحبه واشتهاه. والهوى في الأصل: العشق في الخير أو الشر، وما تريده النفس، وجمعه: أهواء، وهوي إذا أحب. قال ابن القيم رحمه الله في تعريف الهوى: الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً، ولا مدحه مطلقاً، كما أن الغضب لا يذم مطلقاً ولا يحمد مطلقاً، وإنما يذم ما فيه إفراطٌ من النوعين، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار،فالنفس أعدى أعداء الإنسان, والإنسان المسلم مطالب شرعا بأن يجاهدها وينهاها عن الهوى, حتى يصلح من حالها, وينال مرضاته سبحانه وتعالى, لذلك يقول الحق تبارك وتعالى :))وَمَاأُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَرَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴿12/53﴾(( وقال تعالى : ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَالْمُحْسِنِينَ﴿29/69﴾)) لذلك تحتاجهذه النفس إلى تربية روحية وأخلاقية متواصلة لإصلاحها, وهنا يأتي دور الجماعة للقيام بهذه المهمة لتنمية قدرات عناصرها أخلاقيا وروحيا, وإشباع هذا البعد الروحي في النفس الإنسانية يعتبر في نظر المنظومة الأخلاقية الإسلامية أمرا ضروريا لإصلاح الفرد وإصلاح الجماعة لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". فقد جاءت شريعة الإسلام لتقود هوى النفس لتحقيق مصلحة الإنسان ومنافعه في انسجام تام مع منظومة الاستخلاف, كما تحتاج هذه النفس إلى إصلاح فكري عقائدي يستجيب لمتطلبات المرحلة ويمكن الفرد والجماعة من مواجهة الانحرافات الفكرية والعقائدية التي تصيب المجتمع وتعيق برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية, وإشباع هذا البعد الفكري العقائدي لدى الفرد والجماعة يساهم بقدر كبير في الانسجام والتوافق والتالف بين أفراد الجماعة, وينمى الحوار ويؤسس لثقافة التعايش السلمي داخل الجماعة وفي المجتمع, وقد نبهنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة ابن اليمان وهو ينظر إلى واقعنا كأنه يراه رؤيا العين إلى خطورة فتن الشهوات وفتن الشبهات : قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى اللهعليه وآله وسلم :"تعرض الفتنعلى القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلبأنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا كالكوزمجخيا، لا يعرف معروفا و لا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، و قلب أبيض فلا تضرهفتنة ما دامت السماوات و الأرض." يقول الشيخ بن قيم الجوزية: فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير، وهي طاقاتهاشيئا فشيئا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنةأشربها، كما يشرب الإسفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرضعليه حتى يسود و ينتكس، وهو معنى قوله" كالكوز مجخيا" أي مكبوبا منكوسا، فإذا اسودوانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا، وربما استحكم عليههذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا، و السنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلا و الباطل حقا، الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليهوآله وسلم وانقياده للهوى واتباعهله.وقلب أبيض قد أشرق فيه نورالإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها و ردها، فازداد نورهوإشراقه وقوته.والفتن التي تعرضعلى القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات و فتن الشبهات، فإن الغي و الضلال، فتنالمعاصي و البدع، فتن الظلم و الجهل. فالأولى توجب فساد القصد و الإرادة، و الثانيةتوجب فساد العلم و الاعتقاد.(من كتاب" إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" للشيخ ابنقيم الجوزية عليه رحمة الله.) (يتبع(