السوداني يؤكد وقوف العراق الى جانب تونس    أسعارها في المتناول..غدا افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة    سوسة: سائق تاكسي يحوّل وجعة طفل ويعتدي عليه    نحو 6000 عملية في جراحة السمنة يتم اجراؤها سنويا في تونس تشمل اغلبها اجانب    عاجل : إيلون ماسك يعلق عن العاصفة الكبرى التي تهدد الإنترنت    الجامعة التونسية لكرة القدم تسجل عجزا ماليا قدره 5.6 مليون دينار    غدا الاحد.. انقطاع التيار الكهربائي بعدد من المناطق من ولاية المنستير    تركيا.. إصابة 25 شخصا في حادث مرور    الجمعية التونسية للفضاء: الشمس تطلق توهجات قوية باتّجاه الأرض    وزير الشؤون الدينية يصدر هذا القرار    منذ بداية سنة 2024.. إعادة قرابة 2500 مهاجر غير نظامي إلى بلدانهم    كاتب سيرة ميسي.. ليو سيعود إلى برشلونة    عاجل : رفض الإفراج عن المدير العام الأسبق للمصالح المختصة بالداخلية    رئيس الجامعة بالنيابة جليّل: اعجاب كبير بعمل الوحيشي وسنبقي عليه    عاجل: الاحتفاظ ب"انستغراموز" معروفة..وهذه التفاصيل..    نيوزيلندا تتخذ إجراءات عاجلة لمواجهة العاصفة الشمسية الجيومغناطيسية الكبرى    عاجل/ السجن لموظف ببنك عمومي استولى على أموال..    كرة اليد.. انتخاب كريم الهلالي عضوا في المكتب التنفيذي للكنفدرالية المتوسطية    مدير عام المجمع الكيميائي : ''نقل الفسفاط يعدّ المشكل الحقيقي''    يوم تاريخي في الأمم المتحدة: فلسطين تنتصر.. العالم يتحرر    صفاقس: الإحتفاظ بشخصين من أجل مساعدة الغير على إجتياز الحدود البحرية خلسة    استشهاد 20 فلسطينياً في قصف للاحتلال على وسط قطاع غزة..#خبر_عاجل    عاجل/ تأجيل دربي العاصمة..    عاجل/ الاحتفاظ برئيس بلدية سابق و موظف من أجل شبهة..    القصرين: بطاقة إيداع بالسجن في حق شخص طعن محامٍ أمام المحكمة    تونس تشهد موجة حر بداية من هذا التاريخ..#خبر_عاجل    الجلسة العامة للجامعة: حضور جميع الأندية باستثناء الترجي والقوافل    مهرجان ريم الحمروني للثقافة بقابس.. دورة الوفاء للأثر الخالد    في إطار الاحتفال بشهر التراث...«عودة الفينيقيين» إلى الموقع الأثري بأوتيك    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    مسيرة فنية حافلة بالتنوّع والتجدّد...جماليات الإبدالات الإبداعية للفنان التشكيلي سامي بن عامر    الجزائر تتوقع محصولا قياسيا من القمح    طقس السبت: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    بعيداً عن شربها.. استخدامات مدهشة وذكية للقهوة!    عاجل/ بعد حادثة ملعب رادس: وزارة الشباب والرياضة تتخذ هذه الاجراءات..    النادي الإفريقي.. القلصي مدربا جديدا للفريق خلفا للكبير    لأول مرة/ الاتحاد البنكي للتجارة والصناعة يشارك في دعم النسخة 18 من دورة "كيا" تونس المفتوحة للتنس..(فيديو)    تونس تشدّد على حقّ فلسطين في العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتّحدة    بايدن يخطئ مجددا و"يعين" كيم جونغ رئيساً لكوريا الجنوبية    مفتي الجمهورية يحسم الجدل بخصوص أضحية العيد    المسابقة الأوروبية الدولية بجنيف: زيت الزيتون 'الشملالي' يفوز بميدالية ذهبية    الكريديف يعلن عن الفائزات بجائزة زبيدة بشير للكتابات النسائية لسنة 2023    قليبية : الكشف عن مقترفي سلسلة سرقات دراجات نارية    عاجل/ الأمم المتحدة: 143 دولة توافق على عضوية فلسطين    في تونس: الإجراءات اللازمة لإيواء شخص مضطرب عقليّا بالمستشفى    وزير السياحة يؤكد أهمية إعادة هيكلة مدارس التكوين في تطوير تنافسية تونس وتحسين الخدمات السياحية    نرمين صفر تتّهم هيفاء وهبي بتقليدها    الأمطار الأخيرة أثرها ضعيف على السدود ..رئيس قسم المياه يوضح    لهذه الأسباب تم سحب لقاح أسترازينيكا.. التفاصيل    منبر الجمعة .. الفرق بين الفجور والفسق والمعصية    خطبة الجمعة .. لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما... الرشوة وأضرارها الاقتصادية والاجتماعية !    إتحاد الفلاحة : '' ندعو إلى عدم توريد الأضاحي و هكذا سيكون سعرها ..''    عاجل/ مفتي الجمهورية يحسم الجدل بخصوص شراء أضحية العيد في ظل ارتفاع الأسعار..    أضحية العيد: مُفتي الجمهورية يحسم الجدل    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    تظاهرة ثقافية في جبنيانة تحت عنوان "تراثنا رؤية تتطور...تشريعات تواكب"    قابس : الملتقى الدولي موسى الجمني للتراث الجبلي يومي 11 و12 ماي بالمركب الشبابي بشنني    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



امتداد فكر الإمام الأشعريّ لدى المحدّثين بقلم أ.د. أبولبابة الطاهر
نشر في الحوار نت يوم 13 - 05 - 2010


Download the original attachment
بسم الله الرحمن الرحيم
الرابطة العالميّة لخرّيجي الأزهر الشريف
الملتقى الخامس
الإمام أبو الحسن الأشعريّ، إمام أهل السنّة والجماعة
نحو وسطيّة إسلاميّة تُواجه الغلوًّ والتطرُّفَ
بمناسبة مضيّ أحد عشر قَرْنًا على وفاته
5 8 أفريل 2010م، القاهرة جمهوريّة مصر العربيّة.
امتداد فكر الإمام الأشعريّ لدى المحدّثين
أ.د. أبولبابة الطاهر صالح حسين.
عضو اللجنة التنفيذيّة للرابطة العالميّة لخرّيجي الأزهر.
كانت بداياتُ الاعتزال في أواخر القرن الأوّل منغمسةً في بحثِ مسائلَ وقضايا وثيقةَ الصلة بمصير مرتكب الكبيرة التي فجّرها الخوارجُ الذين كفّروه وخلّدوه في النار1 مقابل المرجئة الذين أَرْجَؤُوا أمرَهُ إلى الآخرة، ولم يَنْفُوا عنه الإيمانَ، لأنّ الإيمان عندهم خصلةٌ واحدةٌ هي الإقرارُ والاعتقادُ الذي لا يَضُرُّ معه العملُ2. وخالف المعتزلةُ كُلا مِنَ الخوارج والمرجئة وذهبوا إلى أنّ العملَ شرطُ صحّةِ الإيمان إلا أنّ مرتكبَ الكبيرة ليس كافرًا ولا مُؤمنًا وإنّما هو في منزلةٍ بين المنزلتين، وخلّدوه في ضحضاحٍ من النار.
ومع تقدّم الزمن تشعّبتْ اهتماماتُهُمْ فصاروا يبحثون أسماءَ الله تعالى وصفاتِه ونعوتَهُ ؟، وهل أسماءُ الله هي ذاتُهُ؟ وكلامُ الله هل هو قديمٌ أو حادثٌ؟ وهل فيه مَجَازٌ؟ وما المرادُ باستوائه تعالى على العرش؟ ونزولِهِ إلى السماء الدنيا؟ ومعيّتِهِ الخلقَ؟ ورؤيته تعالى؟ والقضاء والقدر؟ والشفاعة يوم القيامة؟ والحوض؟ وعذاب القبر؟ وغيرها من المباحث الكلاميّة التي شغلت علماءَ الكلام وأصحاب المذاهب العقديّة وقد وجد فيها أصحابُ الأهواء فرصتهم الذهبيّة لنفث سمومهم ونشر ضلالهم.
وازدادت سطوةُ المعتزلة فانحدروا إلى بؤرة إرهابِ خُصومهم ومَنْ لا يُشاطِرُهُمْ آراءَهم وأهواءَهُمْ، حينما تمكّنوا مِنِ استمالة بعض الخلفاء العبّاسيّين وعلى رأسهم الخليفةُ السابع المأمون بن هارون الرشيد الذي حكم عشرين سنةً[198 218 ه] فاستمدّوا من سلطانه المطلق نفوذَهُمْ وسطوتهم. وفي هذا المناخ المربدّ نشِطَتْ الباطنيّةُ " تؤوّل القرآنَ والسنّةَ على غير ما يُراد منهما، مَكْرًا بالدين وصَرْفًا للناس عن هِدَايته، كما أنّ مَنْ يَحِنُّون إلى أصولهم المجوسيّة منذ فترة عِزِّ البرامكة لم يَدَّخِرُوا وُسْعًا في الكيد للإسلام وحُمَاتِهِ3.
كما عرف العراقُ قلعةُ الخلافة ثورةَ الزنج، قادها عَسِيفٌ[ أجير] فارسيّ من الطالقان ادّعى أنَّهُ من أحفاد زين العابدين عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب y، وقد استولى على مناطق شاسعةٍ من جنوب العراق ودخل البصرةَ سنة 257ه بعد أن خرّبها وقتل الآلافَ من أهلها4.
وفي حدود 258ه ظهر باطنيٌّ آخر هو حمدان قرمط الذي يُنسبُ إليه القرامطة، وهو من دعاة الإسماعيليّة [ نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق توفّي في حياة أبيه]، وقد لوّثوا الكثير من عقائد الناس وعاثوا في بلاد الإسلام فسادًا، حتّى أنّهم استولَوْا على مكّة المكرّمة ونقلوا منها الحجر الأسود ولم يُعيدوه إلا بعد اثنتين وعشرين سنة.
وتحوّلتِ الساحةُ الفكريّة إلى حَلْبَةٍ تصول فيها الآراء المخالفةُ لمذهب السلف الصالح وتجول، تحاول تأويل ظواهر النصوص بشكلٍ يُعطّل أحكام الشريعة ويذهب ببهاء حكمتها. وأهمّ رموز هذه الغارة المعتزلة والباطنيّة فكان مذهب السلف الصالح يئنّ تحت وطأة سطوتهم، وتوسّعهم في تأويل ما لا يجوز تأويلُه ونفي ما هو ثابت قديم لله تعالى والنيل من أعلام الصحابة ورموز الإسلام، وشعُرَ أهلُ السنّة والجماعة بتجاوز أهل الأهواء حدودهم، وانتظروا أن يُقيّض الله لهذه الأمّة من يدفع عنها الضيم ويقمع البدع ويكشف ضلالها ويسقط حُجَجَهَا، ويُعلي دليل الكتاب والسنّة، فكان أبو الحسن الأشعري الإمام الأجلّ الذي أحسن التعبير عن مذهب أهل السنّة، وأعاد علم الكلام إلى أصالته وأزال عنه ما افتراه أهل الأهواء وزوّروه من أدلّة وبراهين واهية لا تقوم على أساسٍ من كتاب الله تعالى ولا تستند إلى سنّةٍ صحيحة لرسوله r. فكان لسان الصدق الذي " أحسن التعبير عن مذهب أهل السنّة والجماعة، وطهّر علم الكلام ممّا أغرقته فيه المعتزلة والقدريّة والمشبّهة والباطنيّة من تأويل وغلوٍّ، واستمات في مجاهدة كلّ هذا الضلال حتّى تمكّن من قلب أممٍ كثيرةٍ من جهةٍ إلى أخرى فعُدّ وبكل صدقٍ وجدارة من أعاظم الرجال5.
أبو الحسن الأشعري إمام الأمّة
هو الإمام أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ صاحب رسول الله r فهو عربيّ صريح6.
ولد بالبصرة سنة 260ه وبها تلقّى السنّة عن أعلامها الكبار كالحافظ زكريّاء بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي [ت307ه] الذي أخذ عنه تحرير مقالة أهل الحديث والسلف، وأبي الخلف الفضل بن الحباب الجُمَحِيّ البصريّ[ت305ه] مسند العصر والمحدّث المتقن الثبت، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب وغيرهم من أئمّة السلف7. ثمّ رحل إلى بغداد وأخذ الحديث عمّن لقيه من علمائها حتّى امتلأ وِطَابُهُ وفاض، وإذا لم يُذكر رحمه الله في طبقات المحدّثين فلأنّ همّته لم تكن منصرفة إلى الرواية وإنّما إلى تعرّف آراء الفرق، والاجتهاد في نقض شبهها بالحجج الدامغة، يُعينه على ذلك غزارة علمه وحسنُ تصرّفه فيه، وما حباه الله به من غيرة على الحقّ يؤثره على رضا الأمراء، ومن شجاعةٍ وحميّةٍ تدفعه إلى مقارعة مخالفيه غير هيّابٍ ولا مبالٍ بما لهم من سطوةٍ وجاهٍ ورئاسة.
وكان أبو الحسن الأشعريّ في مبدإ حياته على مذهب الاعتزال، ولزم أبا عليّ الجُبَّائيّ [ت303ه] أحد رؤوس الاعتزال سنين عديدة، حتّى أنّه صنّف كتابًا كبيرًا نصر فيه مذهب المعتزلة، ثمّ أراد الله به خيْرًا فاهتدى إلى أنّ الحقّ إنّما هو ما عليه أهل السنّة والجماعةن لاسيّما وقد رأى النبيّ ص ثلاث مرّاتٍ متتالية يأمره فيها باتباع منهجه وسلوك طريقه، وما أن استبان له الحق نفض يديه من الاعتزال حتّى قرّر بشجاعة العلماء المؤمنين أن يكون رجوعه عن الاعتزال علنًا فأتى المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة واعتلى كرسيًّا وأعلن بأعلى صوته رجوعه عن الاعتزال ومعتقداته، ثمّ ألَّفَ كتابًا نقض فيه فكر الاعتزال8.
عقيدته التي يتعبّد الله بها:
ونحن بقراءتنا لرسالته الموسومة بالإبانة في اصول الديانة، ورسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب نقف على عقيدته الواضحة الجليّة، ومستنده الموثق فيها، فهو يقول بالحرف في فصلٍ ترجمه " بباب في إبانة قول أهل الحقّ والسنّة ": " قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها:
1 التمسّك بكتاب ربّنا U ،
2 وسنّة نبيّنا r،
3 وما روي عن السادة الصحابة والتابعين، وأئمّة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به [ الإمام ] أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضّر الله وجهه قائلون ولمن خالف قوله مخالفون. " 9.فهل بعد هذا البيان اللاحب من سبيلٍ لشغب مشاغبٍ أو اعتراض معترضٍ يدّعي الانتسابَ لأهل السنّة والجماعة !؟.
وقد جلّى معتقده بتفصيلٍ لا يدع أيَّ مجال لتشكيكٍ في سلامته، أو زرع ريبٍ في استقامته، فبعد أن أثبت إيمانَهُ بوحدانيّة الله تعالى وبرسالة نبيّه محمدٍ ص
والجنّة والنار والساعة.. فصّل القول في المراد بإيمانه بوحدانيّة أسمائه وصفاته فنصّ على أنّ لله سبحانه وجهًا بلا كيفٍ وأنّ له يدين بلا كيفٍ وأنّ له عينًا بلا كيف وأنّ من زعم أنّ اسم الله غيره كان ضالا، وأنّ لله قوّةً وسمعًا وبصرًا، مخالفًا الجهميّةَ والمعتزلة والخوارج الذين نفوْا هذه الصفات وعطّلوها، و نصّ على أنّ كلام الله غير مخلوقٍ، وأنّه لا يكون شيءٌ في الأرض ولا في السماء من خير أو شرٍّ إلا ما شاء الله، وأنّهُ لا خالق إلا الله وأنّ أعمال العباد مخلوقة لل مقدورة له مصداقًا لقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }الصافات96. كما ذكر أنّه يَدين بحبّ السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيّه ص .. ويتولاهم أجمعين، وغير ذلك ممّا آمن به سلفُ الأمّة الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان10.
إلا أنّ السؤال الملح بهذا الصدد: هو هل ابتدع الإمام الأشعريُّ مذهبًا جديدًا مستقلا؟
أجمع أهل العلم قديمًا وحديثًا على أنّ الإمام أبا الحسن الأشعريّ لم يبتدع مذهبًا جديدًا ولا اتّخذ طريقةً مستقلّةً وإنّما اتّبع مذهب السلف وما كان عليه الأئمّةُ الراشدون، فقام بتأييده والنضال عنه بالحجج النظريّة أي على طريقة علم الكلام التي مكّنته من الظهور على أهل الفلسفة، ومن هم على نهجهم من أصحاب المذاهب، فزاد مذهبَ أهل السنّة شرحًا وبيانًا بحجج غلابةٍ، وألّف فيه كتبًا كثيرةً نصر فيها أقوال من مضى من الأئمّة كأبي حنيفة وسفيان الثوري، والأوزاعي وغيرهم. فقد وقف عند الكتاب والسنّة وترك تأويلها ما لم يعارضها قاطع من معقول أو محسوس، ثمّ تصدّى لكلّ رأي شاذّ ونِحْلَةٍ ضالّة يُبطلها بمثل سلاحها، حتّى ظهر عليها كلّها وأصبح رأس أهل السنّة والجماعة في العلم قديمًا وحديثًا. يقول ابن السبكي:" اِعْلَمْ أنّ أبا الحسن لم يبتدع رأيًا ولم يُنشئ مذهبًا وإنّما هو مقرّ لمذهب السلف مناضل عمّا كانت عليه صحابة الرسول r، فالانتساب إليه إنّما هو باعتبار عقده على طريق السلف نطاقًا تمسّك به وأقام الحجج والبراهين على صحّته، فصار المقتدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل يُسمّى أشعريًّا، مثلما سمّي من كان على مذهب أهل المدينة مالكيًّا، رغم أنّ مالكًا إنّما جرى على سنن من كان قبله، فلمّا زاد المذهبَ بيانًا وبسطًا عُزِي إليه11.
منهجه في معالجة القضايا العقديّة
الآن وقد تبيّن لنا أنّه لم يبتدع مذهبًا ولم يخترع رأيًا، وإنّما هو متمسّك بمذهب السلف يحقّ لنا أن نتساءل : ما المنهج الذي سلكه الإمام الأشعريّ لإظهار الحقّ وإبطال الباطل؟
لقد كان يُشخّصُ آراء أهل الزيغ والبدع، ويحدّد معالمها، ثمّ يكرّ عليها بالهدم والنقض، فقد عقد الباب الأوّلَ في كتابه الإبانة في أصول الديانة ترجمه بقوله: " باب في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة ". ويُرجع الإمامُ الأشعريُّ " زيغَ من زاغ عن الحقّ من المعتزلة وأهل القدر إلى تأويلهم القرآنَ على آرائهم تأويلا ما أنزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول ربّ العالمين ولا عن السلف المتقدّمين "12. ثمّ يُعدّدُ جملةً من ضلالاتهم:
1 كإنكارهم رؤيةَ الله بالأبصار.
2 وإنكارهم شفاعةَ رسول الله r للمذنبين يوم القيامة.
3 وجحودهم عذابَ القبر.
4 وتديّنهم بخلق القرآن.
5 وأنّ العباد يخلقون أفعالهم، وزعم بعضُهم وهم القدريّة أنّ الله يخلق الخير وأنّ الشيطان يخلق الشرّ.
6 وأنّ اللهَ يشاءُ ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ممّا أجمعت الأمّة على خلافه، إذ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، مصداقًا لقوله تعالى:{ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ }الإنسان30، وغيرها من الضلالات التي أحصى منها ستّ عشرة ضلالة13.
وقد تولّى رحمه الله إبطالها، جامعًا في استدلاله بين السمع والعقل، ذاكرًا ما يقابلها من صحيح العقيدة التي يَدين اللهَ بها أهل الحقّ، في عددٍ كبير من مؤلّفاته الفريدة البليغة، عظيمة الأثر في النفوس لوضوح منهجها وسلاسة أسلوبها وعذوبة لغتها، وتحرير عبارتها، مثل: " الفصول في الردّ على الخارجين على الملة من الملحدين والفلاسفة والطبيعيين والدهريين، وأهل التشبيه والقائلين بقدم الدهر على اختلاف مقالاتهم وأنواع مذاهبهم "، كما ردّ في هذا الكتاب على اليهود والنصارى والمجوس14.
وقد كان لإخلاصه المنافحةَ عن الدين واستماتته في دحض باطل أهل البدع والضلال، ولفرادة أسلوبه في إظهار الحقّ الأثرُ البالغُ في تكاثر طلابه ومريديه من علماء الأمّة وأئمّتها وأبناء المسلمين يأخذون عنه ويتفقّهون على طريقته في الذبّ عن السنة ونشر الحجج والأدلّة في نصر الملّة 15. فكان جمع غفير من أعيان المشاهير من طلابه وأتباعه يحذون حُذوه ويقتدون بنهجه فدلّ "فضلُ المقتدِي على فضل المقتدَى به " على ملحظ ابن عساكر16. وهؤلاء الأعلام ينتسبون إلى مختلف بقاع الإسلام، ومنهم:
القاضي أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني ت403ه، صاحب التصانيف الكثيرة البارعة في الردّ على المخالفين من المعتزلة والرافضة والخوارج والمرجئة والمشبّهة، فأثخن فيهم، حتّى كُتب على قبره رحمه الله " لسان الملّة وسيف السنّة وعماد الدين وناصر الإسلام "17.
إمام أهل الحديث في زمنه وحامل لوائهم أبو القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي ت571ه انتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والنبل وحسن التصنيف والمعرفة التامّة 18.
الحافظ أبو ذرّ الهرويّ [ 355 434ه] الي يقول عنه ابن حجر " أتقن روايات صحيح البخاريّ عندنا رواية أبي ذرّ عن مشايخه الثلاثة المستملي ت376ه والسرخسيّ ت381ه والكُشْمَيْهَنِي ت389ه، لضبطه، وتمييزه اختلاف سياقها 19.
أبو نعيم الأصفهانيّ ت430ه وأبو جعفر محمد بن أحمد السمنانيّ قاضي الموصل[361 444ه] وأبوالقاسم القشيريّ النيسابوري [376 465ه]، وابنه أبو نصر بن أبي القاسم القشيريّ. والإمام أبو المعالي الجوينيّ[419 479ه] وحجّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي الطوسيت [ 505ه] ، وغيرهم من أساطين العلم ومنارات الإيمان. فصدق قولُ ابن السبكي:" طريقة الشيخ الأشعريّ هي التي عليها المعتبرون من علماء الإسلام والمتميّزون من المذاهب الأربعة في معرفة الحلال والحرام، والقائمون بنصرة دين سيّدنا محمد r " 20.
وإنّ كثرة أتباع أبي الحسن الأشعريّ وتعلّق الأمّة وعلمائها بعلمه ونهجه لم يزده إلا تواضعًا لله وعملا لمرضاته، فهاهو وهو على فراش الموت يدعو أحد المقرّبين إليه من طلابه21، ويقول له:" اِشْهَدْ عليّ أنّي لا أكفِّرُ أحدًا من أهل هذه القبلة، لأنّ الكلّ يُشيرون إلى معبودٍ واحدٍ، وهذا كلّه اختلافُ عباراتٍ " 22.
وهذا السَّمْتُ الحسن والدَّلُّ الجميل والتقوى الراسخة والحَمِيّة الهادرة والقدرة الظاهرة على نصر الملّة وطمس البدعة، جعله وبلا منازعٍ، إمامَ الأمّة وناصر دينها. كما أصبح المذهب الأشعريّ مذهب أهل السنّة والجماعة، حيث تبنّاه أغلب المحدّثين وارتضاه عامة علماء المسلمين، فأضحى الطعنُ في عقيدته طعنًا في عقيدة أهل السنّة والجماعة 23.
تمازج الفكر الأشعريّ مع فكر المحدّثين
إنّ العلاقة بين المذهب الأشعريّ والمحدّثين الذين تبنّى أغلب علمائهم ومشاهيرُ أعلامهم هذا المذهب، علاقة عُضويّة، فهما وجهان لعملة واحدة. ومن هنا فإنّ الفكر الأشعريّ الذي هو فكر أهل السنّة والجماعة الملتزم بكتاب الله وسنّة رسوله ص النابذ للغلوِّ والهوى والتهويم، مبثوث في كتب السنّة وشروحها الكثيرة من خلال تناولها للقضايا العقديّة المختلفة.
أسماء الله وصفاتهY
أجمع المسلمون قبل طروءِ أصحاب الأهواء على إثبات أسماء الله الحسنى وصفاته العلا كما وردت في كتاب الله وسنّة رسوله ص من غير تشبيهٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيل، فالله لا يُشبهه شيءٌ من الحوادث، كما آمنوا بقدمها وأزليّتها قدم ذاته تعالى24.فالله بصفاته وذاته إله واحدٌ وكما أنّ ذاته قديمةٌ فإنّ صفاته قديمة. فإنّه U لم يزل قبل أن يخلق العالم موجودا واحدًا حيًّا قادرًا مُريدًا عالمًا متكلّمًا سميعًا بصيرًا على ما وصف به نفسه وتَسَمَّى به في كتابه، وأخبر به رسولُه ص، وإنّ وصفَه بذلك لا يوجبُ تشبيهه بأيٍّ كان لأنّ صفاته تعالى لا تشبه شيئًا من صفات المحدثين، كما أنّ نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين25.
حتّى إذا ما ظهرت الحروريّة والجهميّة والمعتزلة وغيرُهم من الفر ق الضالة افتجروا آراء هجينة وشعّبوا مباحث وأفكارَا غريبة، فنفَوْا صفاته تعالى: حتّى زعمت الجهميّة أنّ الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر!! أمّا المعتزلة فذهبت إلى أنّ الله عالمٌ قادر حيّ سميع بصير اسمًا من غير أن يُثبتوا له حقيقةَ العلم والقدرة والسمع والبصر " فهم لغلوّهم في التعلّق بالتوحيد نفوا الصفات بدعوى أنّ في إثباتها إثباتًا لتعدّد القدماء، وقالوا: إنّ عبارة" سميع، بصير" إنّما يُراد بها عليم 26، لأنّ إثبات السمع والبصر يقتضي إثبات الجارحة، إذ السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى العصب المفروش في أصل الصُّمَاخ والله منزّه عن الجوارح، وأضافوا أنّه لا يجوز أن يوصف الله جلّ ذكره بالعلم والقدرة والإرادة وغيرها لأنّها عين ذاته تعالى، حتّى أنّ أبا الهذيل العلاف ت235ه قال عن الله تعالى:" هو عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحيّ بحياةٍ هي هو، وكذلك في سمعه وبصره وقدمه وعزّته وعظمته وجلاله وكبريائه وفي سائر صفاته لذاته، وكان يقول:إذا قلتُ: إنّ الله عالمٌ، أثبتُّ له علمًا هو الله ونفيت عنه جهلا.. وإذا قلتُ: قادرٌ، نفيتُ عن الله عجزًا وأثبتُّ له قدرةً هي الله سبحانه.. وكان يقول : لله وجه هو هو ونفسه هي هو.." 27، فقيل له: طالما أنّك جعلتَ الله عزّ وجلّ علمًا! فقل إذًا: ياعلم الله اِغْفِرْ لي، وارحمني. فأبى فلزمه المناقضة "28، كما قيل لهؤلاء النفاة :" فإذا أثبتم مريدًا بلا إرادة فأثبتوا قائلا لا قول له!؟..29. وقد حاججهم الإمام الأشعريّ بقوله:" أنتم تُثبتون الأسماء دون الصفات، والأسماء مشتقّة من الصفات فكيف تُثبتون المشتقّ دون المشتقّ منه!؟" 30.
وإنّ نقض الإمام الأشعري غزلَ هؤلاء المبتدعة نجد له صدًى واسعًا عند المحدّثين:
فهذا ابن بطّال ت449ه عند شرحه ترجمة الإمام البخاريّ في كتاب التوحيد " باب وكان الله سميعًا بصيرًا " يقول:" غرضُ البخاريُّ الردُّ على من قال: إنّ معنى " سميع بصير" عليم!!، .. ويلزم من قال ذلك أن يُسوّيَهُ بالأعمى الذي يعلم أنّ السماء خضراءُ ولا يراها، والأصمّ الذي يعلم أنّ في الناس أصواتًا ولا يسمَعُها ولا شكّ أنّ من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممّن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصحّ أنّ كونه[U] سميعًا بصيرًا يُفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا يتضمّنُ أنّه يسمع بسمع، ويُبصر ببصر، ويعلم بعلمٍ.. وهذا قول أهل السنة قاطبةً " 31.ويورد الحافظ ابن حجر ت852ه تتمّةً لهذا الدليل ما رواه أبو داود بسندٍ قويٍّ على شرط مسلمٍ:" عن أبي هريرة t: رأيت رسول الله r يقرأ الآية:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ..[إلى قوله:] إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }[النساء58]، ويضع إصبعيه، إبهامه على أذنه والتي تليه[السبابة] على عينه. يقول أبو بكر البيهقيُّ ت458ه: وأراد الرسول r بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله تعالى ببيان محلهما من الإنسان، يريد أنّ له سمعًا وبصرًا لا أنّ المراد به العلم.. ولم يُرد الجارحة فإنّ الله تعالى منزّهٌ عن مشابهة المخلوقين".
وبذلك تصبح حجّة المعتزلة في نفي السمع بقولهم:" إنّ السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في الصُّمَاخ، والله منزّه عن الجوارح "، غيرَ ذات موضوع، " لأنّ الله سبحانه وتعالى يسمع بدون الوسائط وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيًّا موجودًا لا تشبه الذوات، وكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات "32.
وبناءً على إصرار الجهميّة والمعتزلة والخوارج على تعطيل الصفات بدعوى أنّ من يقرّ بها يكون مشبّهًا، سمّاهم من أقرّوا بها: معطّلة. وأشار إسحاق بن راهويه ت238ه أنّ المقرّ بها يكون مشبّهًا إذا قال: يدٌ كيد، وسمع كسمع وهكذا..أمّا من نزّه الله عن التشبيه والتمثيل والتكييف فلا محلّ لاتهامه بالتشبيه.
أسماء الله وذاته وصفاته
بين المثبت والمفوّض والمؤوّل والقائل بالمجاز
الأسامي والأسماء جمع اسم وأقلّه ثلاثة، ولا فرق في الزيادة بين الثلاثة والتسعة والتسعين، والاسم يُطلق ويراد به المسمّى ، كما يُطلق ويراد به التسمية.
أمّا الصفات فجمع صفةٍ، وهي النعت والوصفُ وزنًا ومعنى، أمّا الذات فمذكّرُها ذو، ومثنّاها ذواتا، وجمعها ذوات، ولا يُستعمل شيءٌ منها إلا مضافًا { وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }[من البقرة: 251]، وهي تُضاف إلى الظاهر دون المضمر، وقد استعار أصحاب المعاني الذات للدلالة على عين الشيء جوهرًا كان أو عرَضًا..وأجروها مجرى النفس، والخاصّة، فقالوا: ذاته، نفسه وخاصّته.33 قال القاضي عياض ت544ه:ذات الشيء نفسه وحقيقته.
أمّا النفس: فقال الراغب الأصفهانيّ: هي الذات، وقد وقد شرحها في قوله تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ }[ من آل عمران30]، بذاته. رغم أنّ عبارة نفسه مركّب إضافيّ [النفس+ الضمير المتصل الهاء]، يقتضي المغايرة وإثبات شيئين، إلا أنّ معناها هنا لا يكون إلا ذاته، تعالى عن الاثنويّة من كلّ وجه34. كما تعني الحقيقة: فقولهم:" في نفس الأمر " تعني حقيقته35 . وقد نصّ الإمام الأشعريُّ في رسالته إلى أهل الثغر على" أنّ نفس الباري لا يجب أن تكون جسمًا أو جوهرًا أو محدودًا أو في مكان دون مكان أو في غير ذلك ممّا لا يجوز عليه من صفاتنا لمفارقته لنا.."36.
وقد قسّم العلماءُ صفات الله إلى صفات ذات وصفات فعل:
أمّا صفات الذات: فقائمة بذاته تعالى أبدًا ولا تنفكّ عنه سبحانه: كالحياة والقدرة والعلم والسمع، والبصر، والوجه والعين واليد والأصابع والعلو.. أمّا صفات الفعل فقائمة بالله ومتعلّقة بإرادته، ومشيئته، يفعلها متى شاء وأراد جلّت قدرتُه. كالخلق والاستواء، والرضا والسخط والمحبّة والبغض، والرحمة والضحك والغضب والغيرة والنزول والمجيء، وهي ليست ملازمة لذاته كملازمة صفاته لذاته، وإنّما هي ثابتة له بالقدرة ووجود المفعول بإرادته Y. والطريق إلى إثبات الصفات المتعلّقة بذاته وبفعله السمع أي الكتاب والسنّة الصحيحة37.
ما الموقف السديد إزاء التعبير عن أسمائه تعالى وصفاته:هل يقع إمرارها كما جاءت؟ أم تؤوّل ؟ أم يُفوّض معناها إلى الله سبحانه؟
بادئ ذي بَدْءٍ لا بُدّ من التذكير بأنّ المحقّقين من أهل العلم اتفقوا على أنّ حقيقة الله مخالفةٌ لسائر الحقائق، وأنّ مبنى ما ثبت لله تعالى من الأسماء والصفات التوقيفُ، كما سبَقَ أن ألمعنا، فلا يُسمّى الله ولا يوصفُ جلّ ثناؤه إلا بما سمّى به نفسَهُ أو وصف به نفسه أو سمّاه به ووصفه به رسوله r. وأنّ معرفة هذه الأسماء والصفات هو السبيلُ الوحيدة لمعرفة الله المعرفةَ الصحيحة. فندرك عظمته وجلاله وتفرّده بالألوهيّة والربوبيّة، وتوحُّدَ أسمائه وصفاته، ونتعبّدُه ونَدِينُهُ بما يريد Y أن نعبده به. وقد سلك العلماءُ في فهمها ومعرفتها مسالكَ عدّةً كما يقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني ت478ه في الرسالة النِّظاميّة38:
" 1 فرأى بعضُهم تأويلَها، والتزم ذلك فيما ثبت منها في آي الكتاب وفيما صحّ من السنن، فيقولُ مثلا في معنى الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[ من سورة طه5]، الاستيلاء. ويفسّر اليد في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص75]، بالقدرة39 أو النعمة، ومعنى العين في قوله تعالى:{.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }[ من سورة طه39] بعلمي40. والمراد بالغضب في قوله r:" إنّ رحمتي غلبت غضبي"41 لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، أمّا الرحمة فهي لغةً الرقّة والانعطافُ، فوصفُ الله تعالى بها " مجاز عن إنعامه على عباده "42.
2 وذهب أئمّةُ السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الله تعالى. ويضيف إمام الحرمين الجويني وهو الأشعريّ المبرّز : والذي نرتضيه رأيًا ونَدين الله به عقيدةً اتباعُ سلف الأمّة للدليل القاطع على أنّ إجماعَ الأمّة حجّةٌ، فلو كان تأويلُ هذه الظواهر حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامُهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرُ الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتّبع "43.
ومن أعلام السلف الذين أضربوا عن التأويل:الأوزاعي ت157ه، مالك ت179ه،والثوريّ ت161ه والليث بن سعد ت175ه فقد سُئلوا عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف، وهذا سفيانُ بن عيينة ت198ه يقول:" مذهب أهل السنّة في قوله تعالى:" الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" بلا كيف، وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعيّ ت204ه حيث قال: " لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردُّها، فنثبتُ هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال:" { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }[ من سورة الشورى11]44. وهو رأي أكّده معاصره أبو داود الطيالسيّ ت204ه فيما نقله عنه أبوبكر البيهقيُّ ت458ه حيث قال: " كان سفيان الثوري وشعبةُ ت160ه وحمّاد بن سلمة ت167ه وشريك ت144ه وأبو عوانة وضّاح اليشكريّ ت176ه لا يُحدّدون ولا يُشبّهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون: كيف؟، قال أبو داود الطيالسيّ: وهو قولنا.
وقال البيهقيُّ: وعلى هذا مضى أكابرنا.
وعن محمد بن الحسن الشيبانيِّ: اتفق الفقهاء كلّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقاتُ عن رسول الله r في صفة الربّ من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسّر شيئًا منها وقال بقول جهمٍ45 فقد خرج عمّا كان عليه النبيّ r وأصحابه، وفارق الجماعة "46.
3 وهناك فريق ثالث من أهل السنّة والجماعة لا يُرضيه التأويلُُ كما لا يُرضيه التفويضُ وإنّما يدعو إلى إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله الكريم ص على ما يليق به، فله وجه ويدان، وأصابع، ويضحك ويغضب وينقم من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف. وينكرون على المؤوّلة قول بعضهم بتطرّق المجاز لبعض الصفات الإلهيّة، لأنّ كل الصفات عندهم على الحقيقة اللائقة بعظمة الله وجلاله. فهم يُثبتون الصفات ويُفوّضون كيفيّتها اتباعًا لمسلك إمام دار الهجرة مالك بن أنس القائل:" الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن كيفيّته بدعة "47.
أمّا بعض العوامّ وغلاة المشبّهة فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ فأثبتوا لله جلّ وعلا صورةً ووجهًا وعينين وفمًا وأضراسًا ولهوات، وحملوا الأحاديث على ظاهرها فوقعوا فيما يَقْبُحُ ويرذُلُ ممّا لا علاقة له بجلال الدين وعظمته وحكمته.
تأثّر المحدّثين بالفكر الأشعريّ
في تناول مسائل الأسماء والصفات والمسائل العقديّة الأخرى.
بعد أن بيّنا المسالك التي سلكها العلماء في معالجة أسماء الله تعالى وصفاته بين مؤوّلٍ وممرّرٍ ومفوّضٍ ومثبت بلا كيف وتحديدٍ يحسن بنا أن نستعرض جملةً من مواقف المحدّثين ومدى تأثّرهم بالفكر الأشعريّ في تناول أهمّ المسائل التي وقع حوله الخلاف
القرآن كلام الله تعالى
لقد عرفتْ مسألةُ كلامِ الله في القرن الثالث للهجرة والإجابةُ عن السؤال: هل هو قديم؟ أم هو مخلوق حادث؟ أبعادًا خطيرة حيث تطوّرت إلى فتنةٍ، عرفت بفتنة " خلق القرآن "، عمّت أصقاع العالم الإسلاميّ في عهد تسلّط المعتزلة على بعض خلفاء بني العبّاس فانتُهكت حرّيات الكثير بعض العلماء والأئمّة الذين ثبتوا على عقيدة السلف ولم يخضعوا لإرهاب المعتزلة، فعُذّبوا وسجنوا، واستُشهد بعضُهم، إلى أن منّ الله بالفرج على يد الخليفة العبّاسيّ العاشر جعفر المتوكّل بن المعتصم[232 247ه] فنصر السنّة وأهلها وقمع البدعة ووضع حدّا لمأساة مساءلة علماء الأمّة واضطهادهم.
فما موقف السلف من هذه المسالة ؟
وما الذي افتجره المعتزلة من الآراء التي فسّقها العلماء وأصرّوا على مقاومتها؟
رأي الصحابة y ومن تبعهم بإحسان:
لقد فهم الصحابة أنّ القرآن كلامُ الله قديم غيرُ مخلوق، جاء في حديث نِيَار بن مكرم أنّ أبا بكر الصدّيقt قرأ عليهم سورةَ الروم، فقالوا: هذا كلامك أو كلام صاحبك؟ فقال:" ليس كلامي ولا كلام صاحبي ولكنّه كلام الله."، وعن عليّ بن أبي طالب t:" ما حكّمتُ مخلوقًا، ما حكّمتُ إلا القرآن.". وذكر سفيان بن عيينة ت198ه أنّ عمرو بن دينار ت126ه وغيره من مشيخته يقولون:" القرآن كلام الله ليس بمخلوق "، والمعروف عن الإمام أحمد بن حنبل وأهل العلم قولهم:" إنّ كلام الله تعالى غير مخلوق..".48 ويشير أبو محمد علي بن حزم ت456ه إلى أنّ أهل الإسلام أجمعوا على أنّ القرآن كلام الله وكذا غيره من الكتب المنزّلة والصحف.49.
رأي الإمام أبي الحسن الأشعريّ:
ويذهب الإمام الأشعريّ إلى " أنّ القرآن كلام الله غير مخلوقٍ "50، وهو ما قرّؤه المحدّثون، فهذا ابن بطّال ت449ه وهو من أوائل شرّاح صحيح البخاريّ يقول:" إنّ كلام الله صفة قائمة به تعالى، وأنّهُ لم يزل متكلّمًا ولا يزال "51. والكلام عند أهل السنّة والجماعة ط صفة أزليّة قائمة بذاته تعالى ليست بحرفٍ ولا صوتٍ منزّهةٍ عن التقدّم والتأخّرِ ومنزّهة عن السكوت والآفة، كما في الخرس والطفوليّة52 وكلام الله لا مثيل له، لأنّه U نفى المثل عن صفاته، كما نفى المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه فقال:{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }[الكهف109]
والذي استقرّ عليه الأشعريّة أنّ القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق، مكتوبٌ في المصاحف محفوظٌ في الصدور مقروءٌ بالألسن، قال تعالى: { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ }[ من سورة التوبة6] وقال:{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }[ من سورة العنكبوت49]، وأمّا الحروف التي هي حركات اللسان والشفتين فهي أعراض، وأمّا الكتابة فهي أجسام، وقيام الأجسام والأعراض بذات الله تعالى محال." 53.
دليل أهل السنّة والجماعة على قدم كلام الله:
يدلّل الإمام أحمد رحمه الله على قدم كلام الله بما ورد في حديث "أوّ ل ما خَلَقَ الله القلمَ، فقال: اُكْتُبْ "، فكلام الله سابق على أوّل خلقه [ وهو القلم]، فهو غير مخلوق.". وعلى هذا المنوال يبرهن البوطي54 على قدم القرآن فيقول:" خلق الله الخلق كلّهُ بقوله: " كن "، فلو كان كلامه مخلوقًا لكان تعالى خلق الخلق بمخلوق، وهذا لا يستقيم55. أمّا سفيان بن عيينة قبلهما[ت198ه] فيبرهن على قدم كلام الله بقوله تعالى:{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ والأمرُ }[ من سورة الأعراف54]، لأنّ المراد بالأمر، قوله: " كن "، وقد عُطف على الخلق، والعطفُ يقتضي المغايرة، وكن من كلامه [ فهي قديمةٌ أمّا الخلق فمحدث، فصحّ الاستدلالُ 56[ على أنّ القرآن كلام الله قديم]. ومن الأدلّة التي ساقها الإمام أبو الحسن الأشعريّ على أنّ القرآن قديم: أنّ الله تعالى أمرنا أن نستعيذ به، وهو غير مخلوق، وأمرنا أن نستعيذ بكلمات الله التامات، وإذا لم نُؤمر بالاستعاذة بمخلوق من المخلوقات وأمرنا أن نستعيذ بكلام الله فقد وجب أن يكون كلام الله غير مخلوقٍ.57
ونختم بدليلين احتجّ بهما أبو بكر البيهقيّ على قدم القرآنك
الأوّل منهما: أنّ القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفات ذاته، وليس شيْء من صفات ذاته مخلوقًا ولا حادثًا، ولو كان مخلوقًا لكان مخلوقًا بكنْ، ويستحيل أن يكون قول الله "كن " المخلوق خالقًا لشيءٍ، لأنّ " كن " الأولى تحتاج إلى كن أخرى تخلقها، فيتسلسل وهذا فاسد.
الثاني: قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ }[الرحمن 1،2،3]، فخصّ القرآن بالتعليم لأنّه كلامه وصفته[الذاتيّة]، وخصّ الإنسان بالتخليق لأنّه خلقهُ ومصنوعُه، فلولا ذلك لقال: خلق القرآن والإنسان.58.
ويرجّح الإمام فخر الدين الرازي59 ما ذهب إليه أهل السنّة والجماعة بقوله:" إنّ قول من قال: إنّهُ تعالى متكلّمٌ بكلامٍ قديم يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصحُّ الأقوال نقلا وعقلا ."60. ونظرًا إلى أنّ هذه المباحثَ حدثتْ مع ظهور أهل الأهواء فإنّ جمهورَ السلف يدعو إلى ترك الخوض فيها والتعمّق في تناولها، والاقتصارُ على القول:" بأنّ القرآن كلام الله وأنّه غير مخلوق، ثمّ السكوت عمّا وراء ذلك.
المعتزلة وشبهتهم حول حدوث القرآن:
أمّا المعتزلة فقد نفت كلام الله 61، وقطعت بأنّ الكلام المنتظم من الحروف والأصوات حادثٌ، فقالوا بحدوث القرآن الكريم، ولمّا أيقنوا أنّ الله تعالى لا يقوم به حادث ذهبوا إلى أنّ معنى كون الله متكلّمًا أنّه خلق الكلام في جسمٍ من الأجسام كالشجرة مثلا، وهذا الجسم هو الذي يتكلّمُ أو يُخاطب النبيّ والرسول.62، كما احتجّوا بأنّ الكلام لا يُعقل إلا بأعضاءٍ ولسانٍ والباري منزّه عن ذلك63. وهي حجج لا تقوى على مقاومة الأدلة الواضحة والقويّة التي ساقها أهلُ السنّة والجماعة لإثبات قدم كلام الله تعالى ودحضِ كلام النفاة.
الاستواء على العرش
من المسائل الغيبيّة التي أثارت نقاشًا واسعًا بين العلماء تفسير" الاستواء " في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[طه5]، فكان لأهل السنّة والجماعة نهجُهم في فهم هذه الصفة وللمعتزلة ومن سار على دربهم نهجهم، فما هي هذه الآراء وما الوجه الذي تطمئنّ له نفس المؤمن والذي يتساوق مع روح عقيدة السلف الصالح المبرّأة من الهوى؟
و يحسن بنا قبل الخوض في ذلك أن نقف على تعريف الاستواء والعرش في اللغة؟
يقول الراغب الأصفهانيُّ ت425ه في مفردات ألفاظ القرآن الكريم: " استوى الشيْءُ بمعنى اعتدل في ذاته.. ومتى عُدّيَ بعلى اقتضى معنى الاستيلاء، كقوله تعالى:" الرَّحْمَنُ {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11"، وقيل: استوى كلُّ شيءٍ في النسبة إليه، فلا شيْء أقرب إليه من شيء، إذ كان تعالى ليس كالأجسام الحالّة في مكان دون مكان."64. وقال أبو العالية رُفيْع بن مِهْرَان الرياحي البصريّ التابعي الكبير ت93ه: " استوى إلى السماء ارتفع "، وقال مجاهد بن جبرت103ه:" استوى:علا على العرش."65.
أمّأ العرش: فيقول الأصفهانيّ:" في الأصل شيء مسقّفٌ وجمعه عروش.. وسُمّيَ مجلس السلطان عرشًا اعتبارًا بعلوّهِ .. وكُنِّيَ به عن العزّ والسلطان. وعرش الله ممّا لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم "66.
ويبدو أنّ السؤال عن المراد باستواء الله تعالى على العرش قديمٌ، وقد حدّد السلف الصالح منهجَ التعاطي مع مثل هذه المسائل الغيبيّة التي ليس للرأي فيها مجال، فهذه أمّ المؤمنين أمّ سلمة هند بنت أبي أميّة المخزوميّة ت59ه رضي الله عنها تجيب عن هذا السؤال بالقول: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر" 67. وسئل ربيعة بن عبد الرحمن ربيعة الرأي ت136ه: كيف استوى الله على العرش؟ فقال:" الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم" 68.أمّا الإمام مالك فحين سئل عن ذلك أجاب بما أجابت به السيدة أمّ سلمة رضي الله عنها، غير أنّه قال: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة "69، وفي روايةٍ قال للرجل السائل: الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوعٌ، وما أراك إلا صاحب بدعةٍ، أخرجوه "70.
والمذهب المعتمد الذي عليه السلف الصالح:أنّ ما أخبر الله به في كتابه وثبت عن رسوله من الاستواء والنزول والنفس، واليد والعين لا يُتصرّف فيها بتشبيهٍ ولا تعطيلٍ، إذ لم يُنقل عن النبيّ r ولا عن أحدٍ من أصحابه y من طريقٍ صحيح، تأويل شيءٍ من ذلك ولا المنع من ذكره. فدلّ على أنّهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها، ووجب تنزيهُهُ عن مشابهة المخلوقات" { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[ من سورة الشورى11]، فمن أوجب بعدهم خلاف ذلك فقد خالف سبيلهم71. والتزم أبو الحسن الأشعريّ سبيلهم، فقال: معنى قوله تعالى:" عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى "، أنّه مستوٍ على عرشه، استواءً يليق به، بلا كيفٍ ولا استقرارٍ، وليس استواؤه على العرش استيلاءً كما قال أهل القدر، لأنّه عزّ وجلّ لم يزل مستوليًا على كلِّ شيءٍ "، ويذكر أنّ حديث " إذا بقي ثلثُ الليل الأخير ينزل الله تبارك وتعالى .." يدلّ على أنّه تعالى في السماء مستوٍ على عرشه استواءً منزّهًا عن الحلول والاتحاد "72. كما أنّ الحديث الذي سأل فيه الرسول ص الجارية: أين الله؟ قالت: في السماء!.. يدلّ على أنّ الله عزّ وجلّ على عرشه فوق السماء، فوقيّةً لا تزيده قربًا من العرش73.
موقف المعتزلة: وذهبت المعتزلةُ إلى أنّ معنى الاستواء في قوله تعالى:"عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"، الاستيلاء بالقهر والغلبة، واحتجّوا بقول الشاعر:
قد استوى بشرٌ على العراقِ مِنْ غير سيفٍ ودمٍ مهراقِ.
وينقض الإمام الأشعريّ ما ذهبوا إليه لأنّه " يؤول إلى التعطيل، والنفي، وهم يريدون بذلك التنزيهَ ونفيَ التشبيه، فنعوذ بالله من تنزيهٍ يوجبُ النفيَ والتعطيلَ "74. وعلى منوال الأشعري يصم ابنُ بطّالٍ إبطال قول المعتزلة بالفساد لأنّ الله جلّت قدرته " لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا .. ولازمُ تأويلهم أنّه كان مُغَالَبًا فيه، فاستولى عليه بقهرِ مَنْ غالبه، وهذا منتفٍ عن الله سبحانه "75.
وكان أحمد بن أبي دُؤَاد ت240ه رأس المعتزلة في عصري المأمون والمعتصم، سعى بكل قوّة لتأيد تأويلهم بإيجاد مستندٍ لهم من لسان العرب فطلب من أبي عبد الله محمد بن زياد بن الأعرابيّ اللغويّ أن يجد له في اللغة معنًى استوى " استولى "، فأجابه:" والله ما أصبتُ هذا " لأنّه لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مُضادٌّ "76.
العلوّ والنزولُ
روى أبو هريرة t عن رسول الله r قال:" يتنزّل ربُّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلثُ الليل الآخر فيقولُ: من يدعوني فأستجيبَ له .." الحديث77.
قال الإمام أبو الحسن الأشعريُّ في باب ذكر ما أجمع عليه السلفُ من الأصول:" الإجماعُ الثامن: أنّه عزّ وجلّ ينزلُ إلى السماء الدنيا كما رُوِيَ عن النبيّ r وليس نزولُهُ نُقلةً لأنّه ليس بجسمٍ ولا جوهرٍ"78.وعلى مهيع أبي الحسن الأشعريّ، يمضي محمد بن يوسف الكرمانيّ ت786ه صاحب شرح صحيح البخاري الموسوم " بالكواكب الدراري "، فيثبثُ النزولَ وينفي أن يراد به الحركة من جهة العلوّ إلى السفل لأنّ ذلك محال على الله U، " فليُتَأوَّلُ بنزول ملَكِ الرحمة أو نحوه، أو يُفوّضُ مع اعتقاد التنزيه "79.
فوقيّته جلّ وعلا
عن أبي سعيدٍ الخدريّ t أنّ النبيّ r قال[ حين حكم سعد بن معاذ سيّد الأوس t في قريظة التي خانت عهد النبيّ r بأن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى ذراريهم ]:" قضيتَ بحكم الله "80، وفي روايةٍ " حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات "، وفسّر السهيليّ عبد الرحمن بن عبد الله ت581ه الفوقيّة بقوله:" معناه أنّ الحكم نزل من فوق، ومثله قول زينب بنت جحش رضي الله عنها: زوّجني الله من نبيّه من فوق سبع سماوات، أي نزل تزويجُها من فوق، ولا يستحيل وصفُه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي بُفضِي إلى التشبيه "81.
مجيئه تنزّه ذكره
قال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }[الفجر22]يذكر الإمام الشعريّ أنّ سلف الأمة أجمعوا على أنّه عزّ وجلّ يجيء يوم القيامة والملك صفًّا صفًّا لعرض الأمم وحسابها.. وليس مجيئه حركةً ولا زوالا، وإنّما يكون المجيء حركة وزوالا إذا كان الجائيّ جسمًا أو جوهرًا، فإذا ثبت أنّه عزّ وجلّ ليس بجسمٍ ولا جوهرٍ لم يجب أن يكون مجيئه نقلةً أو حركة ً"82.
دنوّ العبد من ربّه
روى الإمام البخاريّ بسنده إلى صفوان بن مُحْرِزٍ " أنّ رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما كيف سمعت رسول الله ص يقول في النجوى؟ قال: يدنو أحدكم من ربّه حتّى يضع كنفه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا .." الحديث83. ودفعًا لما قد يُثيرُه دنوّ العبد من ربّه من تساؤلات بيّن الحافظ ابنُ حجر أنّه قرب كرامةٍ وعلوِّ منزلةٍ84 جزاء عمله الصالح في الدنيا.
معيّته تعالى لخلقه
ذكر الإمام الأشعريُّ أنّ أهل العلم بالتأويل فسّروا المعيّةَ في قوله تعالى:{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }[ من سورة الحديد4]ن بأنّ علمه محيط بهم حيث كانوا 85.
وجه الله وعيناه ويده وساقه وإصبعه وحقوه ..جلّ وعلا
ذهب الإمام الأشعريُّ إلى ما ذهب إليه أهل السنّة والجماعة من أنّ لله وجهًا، كما قال الله تعالى في كتابه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }[الرحمن27]، وكما قال رسوله ص :" أعوذ بوجهك " 86، إلا أنّه وجه بلا كيف87. وهو بيان نجد صداه عند الكثير من المحدّثين، فابن بطّال يقول: ما جاء في الآية والحديث دليل على أنّ لله وجهًا وهو من صفات ذاتهن وليس بجارحة، ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين. أمّا الكرماني فيقول: إنّ المراد بالوجه الوارد فيهما: الذات أو الوجه الذي لا كالوجوه لاستحالة حمله على العضو المعروف، فيتعيّن التأويل أو التفويض، ويقول البيهقيّ: تكرّر ذكرُ الوجه في القرآن والسنّة الصحيحة، وهو في بعضها صفةُ ذاتٍ مثلما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعريّ " إلا رداء الكبرياء على وجهه " وفي بعضها بمعنى من أجل كقوله:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}[ من سورة الإنسان9]، وفي بعضها بمعنى الرضى كقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}[ من سورة الأنعام52].أو قوله:{إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى }[الليل20]، وليس المراد الجارحة جزمًا 88.
العين واليد
قال الراغب في مفردات القرآن: العين الجارحة..، وفلان بعيني أي أَحْفَظُهُ وأراعيه .. قال تعالى:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[ من سورة الطور48].{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }[ من سورة طه39]، أي بكلاءتي وحفظي89. واليد: الجارحة.. والقوّة { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ }[ من سورة ص17]، أي القوّة، كما تعني في قوله تعالى:{ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }[من سورة الفتح10] أي نصرته ونعمته وقوّته90.
ويثبت الإمام الأشعري العين لله جلّ وعلا، من قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا }[ من سورة هود37]، وغيرها من الآيات التي وردت فيها عبارة العين، إلا أنّها عين لا تُكيّفُ ولا تُحدُّ "91. كما يُثبت له يدين لقوله تعالى:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }[ص75]، إلا أنّهما بلا كيفٍ، وليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين، ولا يوصفان إلا بكونهما يدين ليستا كالأيدي92. وعلى منوال الإمام الأشعريّ يثبت ابن المنيّر93 العين لله من حديث الدجّال: " إنّ الله ليس بأعور" 94من جهة " أنّ العور عُرْفًا عدم العين، وضدّ العور ثبوت العين، فلمّا نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدّها وهو وجود العين، وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة "95. وقبل ابن المنيّر أثبت ابن بطّال اليدين لله وذكر أنّهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين خلافًا للمشبّهة من المثبتة والجهميّة من المعطّلة96.
المعتزلة تنكر العين واليد لله تعالى
يقول الإمام الأشعريّ:" أجمعت المعتزلة بأسرها على إنكار العين وافترقوا في ذلك على مقالتين:
1 فمنهم من أنكر أن يُقال لله يدان، وأنه ذو عينٍ وأنّ له عينين.
2 ومنهم من زعم أنّ لله يَدًا وأنّ له يدين، إلا أنّه ذهب إلى أنّ معنى اليد النعمة، ومنهم من فسّر الأيدي في قوله تعالى:{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} بالقوّة 97، [الذاريات47] ومعنى العين العلم، وأنّه تعالى عالم. فتأوّل قول الله عزّ وجلّ " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي"، بعلمي98.
ويثبت الإمام الأشعريّ فساد تأويل أهل الأهواء الأيدي بالنعمة، أو القدرة، أو القوّة، " لأنّ الأيدي ليست جمعًا لليد، فجمع يد التي بمعنى النعمة أياد. كما لا يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائلُ: عملتُ كذا بيدي، ويعني النعمة، كما لا يجوز عندهم أن يقول قائلهم: فعلتُ بيديّ، وهو يعني النعمتين99. بل ويُنكر على من حمل قوله تعالى:{ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}[يس71] على المجاز، لأنّ حكم كلام الله عزّ وجلّ ينبغي أن يُجْرَى على ظاهره وحقيقتِه، ولا يخرج إلى المجاز إلا بحجّةٍ، ولا يجوز أن يُعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجّةٍ .. بل الواجب أن يكون قوله تعالى:{ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }[ من سورة ص75] إثباتَ يَدَيْنِ لله تعالى حقيقةً وليستا نعمتين100.
ويؤيّد ابنُ بطّالٍ ما ذهب إليه الأشعريُّ فيقول:" لا يجوز أن يُراد بعبارة اليدين الواردة في قوله تعالى:" لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " نعمتان، لاستحالة خلق المخلوق الذي هو آدم بمخلوق الذي هو النعمتان، لأنّ النعم مخلوقةٌ ولا يلزم من كون اليدين صفتي ذات أن تكونا جارحتين. كما أنّ ابن التين ينصرُ مذهب الإمام الأشعريّ، ويستشهد على بطلان ما ذهب إليه المعتزلة بقوله r:" وبيده الأخرى الميزان " وهو يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة101.
رؤية الله في الآخرة
يثبت الإمامُ الأشعريّ أنّ المؤمنين يرون ربّهم يوم القيامة بالأبصار102، بأعين الوجوه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة22 23]103، ولا يراه الكافرون لأنّهم عن ربّهم محجوبون {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }[المطففين15]، وإذ يُثبت النظرَ فإنّه يُبعِدُ توهُّمَ الشبه " فإذا رأيناه تعالى فلا يجبُ أن يكون شبيهًا لشيءٍ ممّا نراه، كما لا يجبُ إذا علمناه أنّه يُشبه شيئًا نعلمُهُ "104. وبالإضافة للدليل القرآني والحديثي في إثبات الرؤية فإنّ الدلالةَ اللغويّةَ للفظ "نظر" تثبت ذلك، إذ " لا يجوز أن يكون اللهُ عزّ وجلّ عنى بنظر:
أ التفكّر والاعتبار لأنّ الآخرةَ ليست بدار اعتبار.
ب ولا الانتظار لأنّ النظر إذا ذكر مع الوجه، فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه، ثمّ إنّ الانتظار لا يكون في الجنّة لأن الانتظار تنغيص وتكدير.. فضلا عن كون نظر بمعنى انتظر لا تتعدّى بإلى في العربيّة.. فلمّا قال الله: إلى ربّها ناظرة فهو نظر رؤيةٍ."105. ويؤيّد البيهقيّ ما ذهب إليه إمامُ أهل السنّة والجماعة ويورد من الأدلّة ما يكاد يتطابق مع ما ساقه الأشعريّ لإثبات الرؤية106. كما أنّ ابن التين ينهج نهج الأشعري في سوق أدلّة إثبات رؤية الله بالبصر في الآخرة، فيقول:
أ إنّ الرؤية بمعنى العلم تتعدّى لمفعولين، نقول: رأيتُ زيدًا فقيهًا أي علمته فقيهًا.
ب ويزيده تحقيقًا قوله في الخبر" إنّكم سترون ربّكم عيانًا .."، لأنّ اقتران الرؤية بالعيان لا يحتملُ أن يكون بمعنى العلم "107. وتأكيدًا على أنّ الرؤية تتمُّ في الآخرة يقول ابن حجر:" وقيّد الله الرؤيةَ بالقيامة في الآيتين، إشارة إلى أنّها تحصلُ للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا 108.
وكلّ هذه الأدلّة القويّة ساقها علماءُ الأمّةِ دحضًا لما ذهب إليه الخوارجُ وبعضُ المرجئة وأجمع عليه المعتزلةُ من أنّ الله لا يُرى بالأبصار109، متمسّكين:
1 بأنّ من شرط المرئيّ أن يكون في جهةٍ، والله منزّهٌ عن الجهة، واتفقوا على أنّه يرى عباده، فهو راءٍ لا من جهةٍ110.
2 وبقوله تعالى:" لا تدركه الأبصارُ "، وقوله:" لن تراني " حيث استخدم لن لتأكيد النفي وتأبيده111.
3 وبما أخرجه عبد بن حميد بسند صحيح عن مجاهدٍ :" ناظرة: تنتظر الثواب" ، وقد ضعّفه ابن عبد البرّ بالشذوذ.112
وقد أجاب أهل السنّة بأنّ النفي خُصَّ بحالة الدنيا التي وقع فيها الخطابُ، وجاز في الآخرة لأنّ أبصار المؤمنين فيها باقية، فلا استحالة أن يُرى الباقي بالباقي، بخلاف حالة الدنيا فإنّ أبصارهم فيها فانيةٌ فلا يُرى الباقي بالفاني، وتواترت الأخبار النبويّةُ بوقوع هذه الرؤية للمؤمنين في الآخرة، وبإكرامهم بها في الجنّة، ولا استحالة فيها فوجب الإيمانُ بها 113.
الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر من أمّة الإسلام
يذهب الإمام الأشعريّ إلى أنّ ما عليه أهلُ الحديث والسنّة الإقرار" بشفاعة رسول الله r لأهل الكبائر من أمّته من أهل القبلة الموحّدين "114، وهي عقيدة تنكرها المعتزلة والخوارجُ متمسّكين بقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }[المدثر48]، وقد بيّن ابنُ بطّال أنّ الذين لا تنفعهم الشفاعة إنّما هم الكفّار، بينما المؤمنون بالإسلام قد تواترت الأحاديث التي تثبت لهم الشفاعة115.
والإمام الأشعريّ رحمه الله لم يترك قضيّةً من قضايا العقيدة التي أدلى فيها أهلُ الأهواء بآرائهم، وقالوا فيها قولا لا يتساوق مع ما عليه أهلُ الحق من أهل السنّة والجماعةِ، إلا وتناولها بالدرس والتمحيص وقال فيها القول الحقًّ، وردّ باطل المبطلين مثل: مسألة الإيمان وهل هو خصلةٌ واحدةٌ أم هو قولٌ وعملٌ يزيد وينقص116 ؟ عذاب القبر وسؤال الملكين117 ؟ حوض محمد r ؟. المشيئة والإرادة 118؟ أفعال العباد هل هي مخلوقة لله تعالى حقيقة 119؟ الجنّة والنار هل تفنيان أم ليس لهما آخر120؟ من مات مؤمنًا موحّدًا هل يدخل الجنّة ؟ والعاصي هل يُخلّدُ في النار121؟ كما أكّد على عدالة الصحابة y جميعًا122 فكلّهم أئمّةٌ مأمونون وأوجب ذكرهم بخير ما يذكر به العدول الصالحون.
وبعد
فقد كان لجهود الإمام الأشعري البارعة والمسدّدة في الدفاع عن عقيدة الإسلام، الأثرُ البعيد لدى علماء الأمّة في عصورهم المتعاقبة لاسيّما عند المحدّثين، كان نهجه الوسطيُّ المعتدلُ القويم في معالجة قضايا العقيدة المتعدّدة وردّ فساد المفسدين وباطل المبطلين من أصحاب الأهواء وخصوم الدين يشُدّ إليه الدارسين والباحثين عن الحقّ، فقد كان نهجًا قائمًا على العلم الغزير والفطنة والذكاء المشحون بصدق الإيمان وإخلاص النيّة، فأضحى قدوة المحدّثين وأصبحت طريقته طريقتهم في تجلية عقيدة الأمّة والذود عن حياضها ضدّ أمشاج الفكر المتهافت والفلسفات المنحرفة، مستندين إلى ما استند إليه إمامُهم كتاب الله وسنّة رسوله r مع إلمام كبير بلسان العرب وإحاطة بأسرار بيانه، وقد تبنّت الأمّةُ هذا السبيل، واطمأنّت إليه فسلكته، لأنّه رحمه الله لم يبتدع مذهبًا جديدًا ولا سنّ لنفسه طريقًا خاصّا، وإنّما أشهد الدنيا وصدق في شهادته أنّه على مذهب السلف الصالح من الصحابة النجباء الأخيار والتابعين لهم بإحسان وعلى طريق أئمّة الهدى وعلى رأسهم إمام الأمّة أحمد بن حنبل الذي صمد في المحنة وأنقذ الإسلام من نزوات الأهواء ومخاطر البدع، كما أنقذه قبل ذلك أبو بكر الصديق t من مخاطر الردّة وآثار الجاهليّة المندحرة.
ويزعم بعض خصوم الأشعريّة أنّ أتباع الإمام خالفوا إمامهم الأشعريّ في كثير من المسائل العقديّة، ولعلّ ذلك يرجع إلى أنّ بعضهم أشار إلى بعض التأويلات التي يُسوّغها العقل ولا يدفعها الشرع ولا تجافيها العربيّةُ ولا تفسد جوهر الاعتقاد، مثلما فعل ذلك ابن حجر العسقلاني مفخرةُ المحدّثين في موسوعته الخالدة فتح الباري، ذلك أنّ هؤلاء المنتقدين يريدون من الجميع الالتزام بالعبارة الشهيرة التي يعالجون بها كلّ المسائل الغيبيّة لاسيّما الأسماء والصفات " نثبت لله ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله r من غير تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تكييف، وكذلك ننفي ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله من غير زيادة ولا نقصان "123. وأيّ خروج عن هذا النص يُعدونه مخالفةً تستحقّ التنبيهَ، وهي تنبيهاتٌ لا تغمط حقّ الأشعريّ ولا تغضّ من إمامته ولا تقلّل من قيمة الجهود المباركة التي بذلها المحدّثون من أتباع نهجه رفعًا لشارة الدين وخضدًا لشوكة المناوئين والمحرّفين.
وصلّى الله على سيّدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أ.د. أبولبابة الطاهر صالح حسين.
جامعة الإمارات العربيّة المتحدة.
مدينة العين الجمعة 26 ربيع الأوّل 1431ه(2010.03.12)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.