د. نورالدين بوفلغة مرت تركيا في القرن العشرين بأعتى أنواع العلمانية, التي تنفذ سياساتها من فوهة البندقية, والحديد الذي فيه باس شديد, حتى اصبح مصطفى كمال أتاتورك الاها يعبد من الاتراك الى جنب الله, ويسجد له وتقام له الصلوات حيا وميتا.
لقد كانت تركيا في القرن العشرين, سيما في النصف الثاني منه, مسرحا للماسونية, تصول وتجول تظن انها قادرة على مسح مظاهر الاسلام من آخر خلافة اسلامية, واذا تحقق لهم ذلك,-لاسمح الله- فهذا وأد لكل طموح يجول بخاطر المسلمين باتجاه احياء فكرة الخلافة الاسلامية او حتى التفكير فيها أصلا, لان نموذجها الاقرب الى الأذهان قد تلاشى واندثر...
حتى هبت نسائم التغييربدءا من المصلح الكبير الذي يفتخر الاتراك بتسميته"بديع الزمان مولانا سعيد النورسي"لقد كان بحق بديعا في زمانه, وفي الازمنة العجاف التي جاءت من بعده, اذ مازالت كتبه تطبع ورسائله تدرس وتحفظ وامثلته الماثلة في الوجدان والضمير الاسلامي مازالت ترى النور تباعا,مثل قولته الشهيرة, -تركيا حامل بالاسلام وستلده يوما ما, وأوروبا حامل بالاسلام وستلده يوما ما-. وكأني بالمبدع قد عاش فترة المخاض ثم توفي, كيف لا وهو من بدأ ارهاصات التحول المبكرة وخاض غمارها في زمن,اقل ما يوصف به, انه زمن البؤس والقحط والجهل والبعد عن الدين, لتلد من بعده تركيا الاسلام, لا فقط مولودا يعيش بين الاتراك ولكن ليكون بذرة جديدة لولادة الاسلام العظيم, اسلام الخلافة الذي نحلم به ان يعود يوما ما...وسيعود حتما... تلك هي سنن الله في التداول...
كذلك في تونس, صال بورقيبة واذنابه طولا وعرضا يبشرون الناس بالرقي والتقدم والمدنية, على شرط الانبتات التام من الشريعة الغراء وحتى من شعائر ديننا التي هي اصول الدين واسسه,التي ان لم توجد انتفى الدين أصلا... لم يكن لتونس ذلك الموقع الاستراتيجي ولا ما يكفيها من الثروات حتى تكون دولة ذات سيادة بالمعنى الصحيح, أي شعب يملك أرض ويقدر ان يحمي حقوقه وثرواته, فالتجأ بورقيبة الى الارتماء في أحضان فرنسا, تارة وأمريكا أخرى, باحثا عن أمن مفقود أصلا اللهم من الامن الداخلي الذي كان يسلط سيفا موجعا على الشعب ,أما حدودنا فظلت مخترقة سماؤها مخترق, برها مخترق وكذلك بحرها مستغل من القوى الاقليمية للتنقيب عن النفط او لاستخراج مكامن البحر وكنوزه...
كانت محاولات التغيير في تونس مراوحة بين العنيفة الثورية حتى قبل الاستقلال نذكر منها انتفاضة علي البلهوان في 8 افريل 1938 وما هي حتى اندلعت ثورة 1952 التي تم على اثرها اغتيال المناضل النقابي فرحات حشاد من قبل اليد الحمراء, تلا ذلك تاسيس جمعية صوت الطالب الزيتوني التي تم من خلالها انعاش المقاومة الاسلامية للمستعمر الفرنسي الغاشم, ثم انشق صالح بن يوسف عن بورقيبة وحزبه وخرج الى العمل المسلح لمقاومة الاستعمار ولنيل الاستقلال... ومحاولات تغيير أخرى كانت سياسية مرنة لم تر النور الا لازمنة قصيرة, حيث ضاعت اهدافها بين متملق لسلطان وراغب في ازدياد...
ثم بسط بورقيبة نفوذه على البلاد كما ألمحت بمساعدة فرنسية بحتة... وأتم لهم الاستعمارنفوذهم وسطوتهم على البلاد والعباد بأدواته الجديدة, التي يصبح فيها المواطن التونسي متساو مع الفرنسي في التملك وينقصه درجات في التصرف في أملاكه وأفكاره...
طال زمن الفترة البورقيبية في زمن السبات العربي, وفي زمن الحرب الباردة بين القوتين العظميين اللتين كانتا تستثمران الاموال الخيالية في التفوق الحربي على الارض, وفي غزو الفضاء العلوي في السماء...
الى ان وضعت الحربين اوزارهما وانهارت المنظومة الشيوعية اللهم من بقاء أذنابها في الاطراف ينعقون ويمجدون ماركس ولينين وهما قد وقع الانقلاب عليهما في البلد الام.
خرجت تركيا من ربقة القبضة الحديدية تدريجيا, بمحاولات البروفسور أربكان لعدة دورات انتخابية, فلما ان اشتد عوده حرم وعزل من السياسة وحبس حبسا اجباريا في مدينته بل وفي بيته احيانا لا يغادره, ليطلع علينا شبل جديد متالق متمرس بافانين السياسة ومتشبع بالقيم الدينية والاخلاقية, متاصل في شعبه حتى القدمين,مارس السياسة فنجح في الوصول الى سدة الحكم ولو على جرعات متتالية, ثم انفرد بها ليحكم تركيا ويمسح عنها عار خمسين سنة من التبعية لاسرائيل والغرب, طلع علينا ليقول للعالم انا حفيد السلطان عبد الحميد الثاني, وانا حامل لواء التغيير ... رويت من أدبيات شيوخي واساتيذي والان جاء دورنا ليقول الاسلامييون كلمتهم في السياسة, وليعلموا الناس كيف تقاد الشعوب باياد متوضئة تخشى الله, وترقب في كل مؤمن عهده وحقوقه الفردية والعامة...
لم يكن لتونس ان تتاخر عن هذا الركب طويلا حتى قامت ثورتها لتبعث في العالم الاسلامي نفسا جديدا بدأ ليتواصل, لا ليقف, وانطلق ليمضي لا ليتعثر ولا يلوي على شيئ..
خرجت تركيا من ظلمات الاستبداد والعلمانية والليبراليةالحاقدة على الاسلام, ثم خرجت تونس عن العصا التي طالما آلمت بنيها وشيوخها واساتيذها... لتقول للعالم اتبعوني فاني خارجة لغير رجعة الى العبودية لادخل في دين الله طائعة مختارة وأخرج من زيف وعسف الجلاد الذي كان يضنيني...
واليوم وبعد أيام قليلة تقع القمة الشامخة بين الجهابذة الذين صنعوا مجد امتنا الجديد, وراكموا الاحداث بآلامهم وآمالهم الى ان سقط القناع الذي كان يحجب الحقيقة عن عامة الناس... بين قيادة الحركة الاسلامية التركية وبين قيادة الحركة الاسلامية التونسية ليعلنوا للعالم سويا جاء فجر الحرية وطل نور الاسلام... كما قال ربعي بن عامر يوما: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عباد رب العباد, ومن جور الحكام الى عدل الاسلام... بقلم د. نورالدين بوفلغة