تابعت الحوار الكامل لبرهان بسيس في برنامج الصراحة راحة على قناة حنبعل الليلة الماضية. المحاور سمير الوافي كان مقاطعا كالعادة دون أن يترك الفرصة في الكثير من الأحيان لبسيس للإسترسال في كشف بعض أسرار تلك الحقبة السوداء في تاريخ تونس. و كان الوافي في أحيان اخرى مشاكسا عوض أن يجر محدثه للوقوع في تناقضات أو يفضحه بالحجة و البرهان. و باستثناء فترات قليلة فقد بدا المحاور أسير أسئلته المحضرة مسبقا دون ارتجال لدفع بسيس للتعمق أكثر في الحديث أو الغوص في تجربته خاصة خلال الأيام الأخيرة قبل هروب المخلوع. هذا طبعا مع الإدراك أن المقص قد لعب دورا بالتأكيد و لم يصلنا إلا ما ارادت إدراة حنبعل (و من ورائها بارونات الإعلام الذين لا يزالون يسيرون دفة الإعلام منذ عهد بن علي إلى اليوم) إيصاله لنا هناك العديد من النقاط المعلقة التي استرعت انتباهي في الحوار و التي تطرح العديد من التساؤلات حول جدية مراجعة بسيس لتجربته السابقة و للعديد من المحطات المظلمة في عهد المخلوع و صحافته الساقطة. قد يكون بداية من المفيد التأكيد على أن الإعتراف بالذنب ربما يغفر لصاحبه ما بينه و بين ربه (على افتراض أنه صادق في توبته و نادم على ما أتى من موبقات في تواضع تام مع نفسه و خالقه) أما حقوق العباد فهي باقية الى يوم الدين و لا تذهب بمجرد إعتذار أو إعتراف المذنب حتى و إن أبلغ في التفسير و أقنع في التبرير. مشكلة بسيس أنه لم يعتد على أناس معينين كما ادعى أثناء المحاورة (و قد يكون صادقا في كلامه بهذا الخصوص أو كاذبا فليس هذا مربط الفرس) فلو انتهى الأمر عند ذلك الحد لكان بإمكانه طلب الغفران من أولئك المعتدى عليهم بعد الإقرار التام بالإعتداء على حقوقهم و العمل على تعويضهم عن الضرر الذي لحق بهم من جراء تصرفاته في أيام صولاته و جولاته مع نظام المخلوع. مشكلة بسيس أنه اعتدى على شعب بأكمله فتفرق جرمه على كل التونسيين مما يجعل اعفاءه من جرائمه السابقة امرا مستحيلا .فبسيس اعتدى على حلم شعب بأكمله و ساهم بقسط كبير في سرقة ربع قرن أو يزيد من تاريخ تونس و هذه جريمة كبرى أنكى من الجرائم المباشرة كسرقة المال العام و استغلال مناصب الدولة و التحايل على القانون. و يقيني أن برهان بسيس يدرك قذاعة جرمه جيدا و لكنه يكابر في الإعتراف بذلك الجرم الفادح و يحاول بطريقة أو بأخرى تبرير أفعاله بإدخال زوره و بهتانه تحت طائلة الإجتهاد السياسي. و هذه المكابرة هي لعمري أكبر من جرمه الأول المتمثل في قبوله أن يكون بوق دعاية لنظام أفسد البلاد و العباد. فبمكابرته تلك إنما يشرع و يبرر لظهور العشرات الجدد من نسخة برهان بسيس تحت مسميات سياسية أخرى تزين للظلم و تنفخ الروح في الأجساد السياسية العفنة الأكيد أن ثورة تونس الحضارية لو سارت على خطى الثورة البلشفية أو الفرنسية أو الإيرانية لكان نصيب بسيس قطع رأسه مباشرة بالمقصلة الحديدية و ليس فقط إنهاءه سياسيا بمقصلة الإحتقار الشعبي ذلك أن بسيس أصبح رمزا و وجها لنظام كالح لطالما تفنن في تلبيس الحق بالباطل و تقزيم المناضلين و رفع شأن المجرمين الذين استباحوا تونس على مدى عشرات السنين. هو قال أنه لا يعتذر "للغربان السود" الذين تحولوا بعد الرابع عشر من جانفي إلى ثوريين بينما كانوا يركبون مراكب الرشوة و الإغراء و الدس الرخيص و يتقربون له شخصيا لقضاء حوائجهم الدنياوية و مآربهم السياسية. و قد كانت هذه النقطة عنوان مكابرته في الإعتذار الصريح للشعب التونسي و ركيزة تبريره لفعلته التي لا تغتفر في عرف التاريخ. و في المقابل اعتذر باحتشام للإسلاميين و "للمحرقة" التي تعرضوا لها على أيدي المخلوع و لكن لا يجب أن ينسينا ذلك أنه كان يباهي حينها أمام عدسات الشرق و الغرب بنجاح بن علي الأسطوري في القضاء المبرم على الإسلاميين. كما اعتذر لعائلات الشهداء و لئن كان ذلك ايجابيا في حد ذاته فهي خطوة متأخرة جدا و لا تبرؤه من نصيبه في الجريمة حيث كان مستميتا في الدفاع عن منظومة الفساد و الإجرا م التي قتلت هؤلاء الشهداء إلي آخر رمق سياسي في حياة سيده بن علي. هذا الرجل لا يجب الصفح عنه أبدا لمجرد اعتراف باهت اُجبر على تقديمه أو لاعتذار محتشم اضطر لتسليمه ذلك أن شخصا بمثل مستواه السياسي و الإعلامي يدرك جيدا مدى خطورة خطته كبوق لنظام جاهل غاشم استباح حرمات المجتمع كلها. و حتى على فرض أنه لم يكن مدركا لخطورة دوره في تلميع صورة النظام البائد فلا يجب استدرار عطف بعض التونسيين الطيبين لغسل أدرانه السياسية المتراكمة لعشرات السنين لأن ذلك من شأنه أن يشجع على التمادي في سياسة النفاق و التلفيق و التشويه التي كان بسيس عنوانا لها. بل بالعكس يجب الضرب بقوة على أيدي أمثال هؤلاء حتى يكونوا عبرة لغيرهم و لكل من تسول له نفسه ركوب نفس الموجة لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة. و بالمقابل فإن التسامح مع بسيس و أمثاله سيبعث برسالة خاطئة إلى شبابنا خاصة الذي صنع الثورة و أحدث بذلك رجة في السياسة و في النفوس التي وقفت بصدور عارية في مواجهة الآلة القمعية التي كان بسيس يزينها و ينمقها بحماس منقطع النظير. إن مقولات من نوع "عفا الله عما سلف" و "العفو عند المقدرة" و "لا للتشفي" و غيرها من المقولات المترسبة في الضمير الجمعي للشعب التونسي العربي المسلم الكريم لا يجب أن تنسحب على أمثال هؤلاء ليس نكاية في الشخص بعينه بل من أجل القضاء المبرم على هذه الظاهرة المرضية و قطع الطريق على عودتها في أثواب متعددة لتلويث الحياة السياسية من جديد. و السياسة ليست بالضرورة "مستنقعا أسودا" كما زعم بسيس بل بإمكان السياسة أن تجمع بين المبادئ الصادقة و العمل الدؤوب لخدمة مصالح المجموعة الوطنية دون الإرتهان لجنون الفرد و نزواته السلطوية المتسلطة. لكل ذلك رجاء لا تصفحوا عن بسيس و أمثاله كسمير العبيدي و غيرهما من أشباه المثقفين الذين باعوا أرواحهم و ضمائرهم لسلطة غاشمة فهؤلاء لا يرجى منهم خير اللهم إلا في إنجائهم بأبدانهم ليكونوا عبرة لغيرهم و للمرء أن يتصور لو لم يقدر للثورة النجاح و بقي النظام البائد برأسه جاثما على صدور التونسيين فهل سيخرج علينا بسيس باعترافات أو اعتذارت؟ "فتوبة" بسيس تنطبق عليها الآيه الكريمة "إإنما التوبة على الله للذين يعملون السؤ بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما...وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" صدق الله العظيم