شاهدت فلم "فارس بوليس" - persepolis- على قناة نسمة. و تساءلت مرارا و أنا أستمع إلى المتكلّمين باللهجة التونسيّة التي يفهمها الصغار و الكبار على حدّ السواء، تساءلت عن الأسباب التي دفعت إلى دبلجة الشريط إلى لهجتنا المحلية بمضمونها الثقافيّ المخالف لما شاهدناه من أحداث تدور في إيران!. و تذكرت أنّ آخر عهدنا بالأعمال المدبلجة إلى اللهجة التونسيّة تلك الصور المتحرّكة الطريفة المسمّاة "قرينط الشلواش" و "المفتّش كعبورة" و قد شاهدناها في الثمانينات. و كانت الغاية آنذاك إدخال البهجة على الأسرة التونسيّة بصغارها وكبارها بفضل طرافة ما نراه في الصورة و ما نسمعه بالصوت المفهوم. الوضع في 2011 و بالتحديد في شهر أكتوبر و أثناء الحملة الانتخابيّة بتونس، يختلف بكلّ تأكيد لأنّ نسمة و من خلفها أرادت أن "تشلوش" لنا فلما إيرانيّا بلهجة تونسيّة رغبة في أنْ "تكعبرها" لحزب معروف يدخل الانتخابات بحظوظ وافرة للفوز بنسبة محترمة من مقاعد المجلس التأسيسيّ حسب بيانات الاستطلاع المعلنة. و الرسالة التي قرأناها تنبّه التونسيين إلى خطورة أن يمنحوا أصواتهم للإسلاميين عموما لأنّهم سينقلبون على مكاسب المجتمع فيضيّقون على الحرّيات التي يتمتّعون بها في مجالات عدّة تتصل بالملبس و المشرب و العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزواج في سيناريو مشابه لما حدث في إٌيران بعد الثورة على حكم الشاه. و على عكس البهجة التي كان يدخلها "قرينط الشلواش"على الأسر التونسيّة، أحدث الفلم الإيرانيّ رجّة لدى الكثير من التونسيّين الذين استفزّتهم مشاهد تشخّص الذات الإلاهيّة و تعرّضها لما يشبه التوبيخ من طفلة صغيرة ساءها ما تعيشه من أحداث في طهران. و بدرجة أقلّ، كان مبعث الاستياء أنّ الفلم يركّز على الحرّيات التي تتعلّق أساسا بمعاقرة الخمرة و ممارسة الجنس وكأنّها أصبحت في تونس حقوقا مسلوبة تستدعي النضال و إعلان صافرات الإنذار لمحاصرة من يتربّص بها. و لم يخل الشريط من بعض الأقوال و الأفعال التي يذمّها الذوق السليم في نمطنا الثقافيّ التونسيّ المحافظ على الأقلّ داخل الأسرة، و لكنّ المؤكّد أنّ الكثير من الأطفال شاهدوا ذلك العمل لأنّ لهجته تغري الجميع بمتابعته قبل أن يتفطّن الكبار إلى تلك المشاهد الصادمة و يكتشفوا أنّهم وقعوا في فخّ يصعب الخروج منه، و يتساءلوا عن المغزى من عرض الفلم الإيرانيّ بلهجتنا التونسيّة و يفهموا في النهاية – ربّما- الرسالة المشفرة التي وجّهت إليهم و التي تدعوهم إلى حماية ثورتهم من "أعداء الحريّة و الحداثة". غير أنّ الثورة التي خاضها التونسيّون كانت من أجل العزّة و الكرامة و التشغيل و حريّة التعبير التي تقول كلمة الحقّ في وجه سلطان جائر. و الثورة في تونس قامت في وجه الظلم و الطغيان الذي حكمنا لعقود بقوّة الحديد و النار ترهيبا من الدخول في معارضة الحاكم و التشويش على حكمه. و لذلك فإنّ إسقاط الفلم بأحداثه الإيرانيّة على واقعنا التونسيّ لا يستقيم بتاتا و لا يعنينا من قريب أو بعيد. و ليس بين إيران و تونس قواسم مشتركة على المستوى الاجتماعيّ و الثقافي رغم أنّنا مسلمون عموما، و ليس في ذلك غرابة فأبناء تونس لا يشبهون حتّى أشقّاءهم العرب في السعوديّة مثلا. فلماذا كلّ هذا الخوف و كلّ هذا الترهيب للتونسيين من "شبح" الدين و المتديّنين و الحال أنّ الصورة العامّة أثبتت أنّنا وصلنا إلى درجة من النضج و الوعي و التسامح و التنوّع الثقافيّ ما يحمينا من شرور التطرّف و التزمّت. بالأمس القريب، نوّه النهضويّون في تونس بالمثال التركيّ و تبنّوه منهجا لحكم معتدل إن وصلوا إلى السلطة. و تركيا بلد مسلم علمانيّ تسيّره حكومة ذات توجّهات إسلاميّة بقيادة أردوغان الذي نجح في تحقيق قفزة إقتصاديّة ، و لم نسمع في عهده الذي استمرّ لعشر سنوات بسياسات تغتصب حرّيات الأتراك و مكاسبهم. فأيّهما أقرب إلينا النموذج التركيّ المطمئن أم النموذج الإيرانيّ "المخيف"؟ نشكر لقناة نسمة مساعيها لإنارة العقول التونسيّة و لكنّنا نأسف لما أهدرته من طاقات و ما أثارته من ضغائن، و كان الأجدر أن تبذل إمكاناتها لإنجاز تحقيقات أو أفلام كرتونيّة تصوّر لنا ما وقع من تجاوزات في تونس طيلة العقود السابقة، لأنّ الذاكرة الجماعيّة مطالبة بحفظها لتكون درسا للقادمين من أبنائنا و أحفادنا. و الأمثلة التي يزخر بها ماضينا القريب و البعيد لا تعدّ و لا تحصى و كلّها صالحة لتحويلها إلى أفلام سنمائيّة ومسلسلات تلفزيونيّة و تقارير وثائقيّة... و لكن من سيقنع المخرجين و المنتجين بالعمل عليها و هي خالية من مشاهد الحمّام و النساء العاريات يمارسن الجنس في البيوت المتوارية خلف أزقّة المدينة "العربي". كان للمخرجين صولات و جولات في هذا اللون من الأعمال، فهل ستقودهم الثورة إلى تنويع إنتاجهم بما يخدم المجتمع التونسيّ و يشير إلى جراحه لعلاجها. لا نرى ذلك مستحيلا ما دام القائمون على الشؤون السمعيّة البصريّة لا يضعون لأنفسهم خطوطا حمراء حتّى و لو تعلّق الأمر بالذات الإلاهيّة و المقدّسات عموما. و لكنّنا نعتقد أنّ التونسيّين أذكياء بما يكفي للتمييز بين الرسائل التي تصلهم فيقرؤوا و يفهموا ما يناسبهم و يناسب مستقبل أبنائهم، و يلقوا الرسائل الأخرى التي كُتبت بعقول رديئة في سلّة المهملات. عبد الرزاق قيراط.