89 مليون دينار كلفة التعداد العام للسكّان    ذياب : يجب العمل على إنجاح تجربة الشركات الأهلية    وزير الداخلية يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    رفع الدعم تدريجيا عن هذه الأدوية    الديوانة تحجز سلعا مهربة فاقت قيمتها ال400 مليون    دقاش: افتتاح فعاليات مهرجان تريتونيس الدولي الدورة 6    وزير الفلاحة: المحتكرون وراء غلاء أسعار أضاحي العيد    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده    خلال نصف ساعة.. نفاد تذاكر مباراة الأهلي والترجي في «نهائي إفريقيا»    إيطاليا ترفع درجة الخطر بعد أمطار غزيرة سببت فيضانات    نابل : حجز كمية من المواد الكيميائية مجهولة المصدر ومنتهية الصلوحية    حاولوا سرقة متحف الحبيب بورقيبة الأثري...القبض على 5 متورطين    القبض على عنصر إجرامي خطير مفتش عنه دوليا في هذه المنطقة    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    مجلس أوروبا بتونس: تقدّم مقترح تعاون مع البرلمان في مجال مكافحة الفساد    هل التونسيون معنيون بالمتحور الجديد للكورونا Flirt؟    تأجيل النظر في ملف اغتيال الشهيد محمد البراهمي    الكاف: مهرجان ميو يحتفي بفلسطين    القيروان انقاذ طفل سقط في بئر    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    الإعلامي زياد الهاني يمثل أمام القضاء..    وزارة الفلاحة تدعو الفلاحيين الى القيام بالمداواة الوقائية ضد مرض "الميلديو" باستعمال أحد المبيدات الفطرية المرخص بها    خلال شهر أفريل : رصد 20 اعتداء على الصحفيين/ات من أصل 25 إشعارا    القيروان: الاحتفاظ ب 8 أشخاص من دول افريقيا جنوب الصحراء دون وثائق ثبوت هويّة ويعملون بشركة فلاحيّة    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    إتحاد الفلاحة: المعدل العام لسعر الأضاحي سيكون بين 800د و1200د.    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    حجز 900 قرص مخدر نوع "ايريكا"..    البرازيل تستضيف نهائيات كأس العالم لكرة القدم    قابس: عدد الأضاحي تراجعت هذه السنة    سوسة: وفاة شاب غرقا وانقاذ شابين اخرين    بعد تسجيل الحالة الرابعة من نوعها.. مرض جديد يثير القلق    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    حريق بمستودع بين المروج 6 ونعسان    انتخاب تونس عضوا بالمجلس الوزاري الإفريقي المعني بالأرصاد الجوية    إسبانيا تمنع السفن المحملة بأسلحة للكيان الصهيوني من الرسو في موانئها    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    ذهاب نهائي رابطة ابطال افريقيا : الترجي يستضيف الاهلي برغبة تعبيد الطريق نحو الظفر باللقب    عاجل : ليفربول يعلن رحيل هذا اللاعب نهاية الموسم    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    بطاقة إيداع بالسجن في حق مسؤولة بجمعية تُعنى بمهاجري دول جنوب الصحراء    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    الجزائر تواجه الحرائق مجدّدا.. والسلطات تكافح لاحتوائها    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    غزة.. سقوط شهداء في غارة إسرائيلية على مدرسة    الشرطة الفرنسية تقتل مسلحا حاول إضرام النار في كنيس بشمال غرب البلاد    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف: الدخول للمتاحف والمواقع والمعالم الأثرية مجانا للتونسيين والأجانب المقيمين بتونس    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنّها شَغَلَتِ التّونسيين... وتعلّقتْ بها الآمال في انتظار واقع أفضل
نشر في الحوار نت يوم 18 - 10 - 2011


عبد الحفيظ خميري باريس18/10/ 2011
رجعت في هذه الصّائفة إلى تونس، وكان لي موعد مع الحركة التي أحببتها، وانخرطت في صفوفها تلميذا وطالبا، وتشردت من أجلها، وكتبت محنتها طيلة سنوات المنفى الطّويلة، هذه السّنوات الطّويلة التي كنت قد ابتعدت فيها عن تنظيمها في المهجر، هذه الحركة الّتي كتبت محنتها في روايتي ومازلت أكتب... عدت لتونس فوجدت أن هذه الحركة قد ملأت الوطن، وشغلت ناسه: رجاله ونساءه، شبابه وبناته، شيوخه وعجائزه، عامته وخاصّته، ساسته وإعلاميه، مثقفيه وفنانيه... ملأت تونس بمدنها وقُراها وأريافها، ومن ذلك قريتي الغاليّة "بودرياس" الّتي كان لي فيها مع أهلها وناسها سهرات رمضانيّة مع شبابها وشيوخها، كان موضوع السّهرات "حركة النّهضة" والتّحدّيات التّي تواجهها وستواجهها، وماذا يمكن أن تقدّم لشباب القرى والأرياف وقد تعلّقت بها الآمال ؟...
حركة النّهضة تُشغل التّونسيين، وتعيد ترتيب الخريطة السّياسيّة في تونس:
في الصّحف والمجلات وفي الإذاعات وفي الفضائيّات... في السّر وفي العلن وعلى صفحات "الفيس بوك" " والتّويتر"و"اليوتوب" و"النات"... تعالت أصوات في جهرها، وخفتت أصوات في سرّها، تنافح عن النّهضة منافحة المحبّ أو تحفر لها كرها وحقدا وتروغ عنها كما تروغ الثّعالب، صراحة أو سرّا دون وهن أو نصب، بالمرصاد تقرأ النّوايا وتدبّر المقالب وتحيك من الكذب والكيد مسرحيات وتنتج الأفلام وتلوّث الهواء.. وكما تعالت أصوات مغرضة تعالت أصوات محبّة ومنصفة من أبناء النّهضة وأنصارها والمؤمنين بأفكارها والمستقلّين أو حتّى من أعدائها المنصفين الّذين قالوا فيها كلمة حقّ، أصوات تنافح وتكافح وتكتب وتردّ، وتشرح للنّاس برامجها وترّد على الحاقدين والمغرضين كيدهم، ولكن الملاحظ أنّ المدافعين كثيرا ما سقطوا في ردّات فعل غير مبرمج لها، وغير متفطن للّعبة القذرة الّتي تحيكها الأطراف المُتعلمنة والمُتصهينة، والمُتعفّنة بمزابل الحقد الإيديولوجي والعلمنة المزكومة من أجل إشغال أبناء النّهضة ومناصريها فيما لا ينفع تونس والتّونسيين، ويمنعهم عن البناء والتّأسيس.
قوى متربّصة تكيد كيدها في قنوات ك"نسمة" المتجرئة على الذّات الإلهيّة بحجّة حرّيّة التّعبير الملوّثة بكلّ أنواع الحقد المعلمن القديم والجديد، وغيرها من القنوات والأفلام السّاقطة فنّيا وإبداعيا وأخلاقيا، هذه القوى تريد الالتفاف على بركان الثّورة من خلال تدجينه، مرة بالتّأجيل ومرّة بالمناداة بالاستفتاء، ومرّات ومرّات بتخويف الشّعب التّونسي من النّهضة حتّى يخلو الجوّ لعبيد العلمنة وكوادر التّجمع وعناصر البوليس السّياسي، وجيوب اليسار الانتهازي التي كانت العقل المدبر لنظام بن علي، أن تفعل بالبلاد ما تشاء.. فكثيرا من رموز العلمنة ووجوه اليسار المتطرف أستثني هنا بعض المناضلين اليساريين، وعلى رأسهم حمه الهمامي الّذين زاد احترامنا لهم لنزاهتهم مربوطة بأجندات أجنبيّة ومستعدّة للتحالف مع الشّيطان الأكبر، من أجل أن تُفوّت الفرصة على النّهضة حتّى لا تصل للحكم أو تشارك فيه.. وما تأخير الانتخابات إلّا دليلا على ما يسعى إليه العلمانيون وإخوانهم اليساريون من الوجوه اللامعة في حكم بن علي، تعضدهم في ذلك القوى المتصهينة من الفرنسيين والأمريكان، والّتي لا يخدم مصالحها وصول الإسلاميين للحكم في تونس، وستعمل قوى الجذب هذه موحَّدَة لخنق النّهضة لو استطاعت لذلك سبيلا، فإن لم تفلح بحكم تفطن الشّعب التّونسي لدسائس هذه العصابات، فستعمل قوى الرّدة هذه على تأخير الانتخابات من جديد، لا لشيء إلاّ لأنّ إجراء الانتخابات سيكون نهاية لهذه الأحزاب الطّفيليّة الّتي انتعشت في عهد الديكتاتور، وشاركته استبداده، وأعطته يومها الضوء الأخضر لذبح الإسلاميين ووأدهم أحياء... وقد اتفقت هذه الأحزاب، وتعاهدت هذه الرموز والزعامات المشوهة في مرآة الشعب التونسي، على الكيد جهارا وخفية للنهضة وغيرها من الأحزاب الوطنيّة والشخصيات المستقلّة النّزيهة، لأنها تدرك أن إجراء الانتخابات ليس في مصلحتها، لأنها ستترجم مدى "قزميّة" وفقر وضحالة هذه الأحزاب من الرأس المال البشري ومن حبّ التّونسيين لها، عندما تقول الجماهير التّونسيّة كلمتها وتدلي بصوتها وتصدع باختيارها، وها هي انتخابات المجلس التّأسيسي تقترب، ومعها يرتفع نبض الشّارع في انتظار ما ستسفر عنه صناديق الاقتراع.
إن المتأمّل والدّارس لما يجري في الواقع اليوميّ أو العالم الافتراضيّ، يجد أنّ في كلّ من المغرضين والمنافحين خير، فالآخرون مهما بلغت مؤامراتهم وقبحهم السّياسي فهم مرآة للنّهضة، وعلى ضوء نقدهم وخبثهم وهنا لا أقصد بالآخرين القوى المتصهينة بل أقصد الأحزاب الوطنية التي تختلف أجندتها السياسية مع أجندة النهضة تسدّد النّهضة وتقارب وتتبصّر طريقها وبرامجها، وتراجع نفسها ومواقفها وسياساتها تعديلا وتصويبا لبوصلتها في خضمّ التّحدّيات الّتي تواجهها، فتصلح ذاتها وتصلح ذات بَيْنِها، وكما نعرف فالحقّ لا يستميت، ولا يتجلى إلّا في حضور الباطل، والنّور لا يتلألأ إلّا في حضور الظّلام، والخير لا يسود إلّا في حضور الشرّ، وهذا لا يعني أنّ أبناء المشروع الإسلامي ملائكة، وأنّ أعداءهم شياطين، فالسّياسة فنّ المرواغة، ولكنّه فن بامتياز حين يكون وفيّا لهويّة البلاد ومصالح العباد، وبالضّدّ تتمايز الأشياء..
إن في حضور الخصم والمنافس النّزيه خيرا ما بعده خير، فذلك هو قانون التّدافع على هذه الأرض من أجل أن تتطوّر الرؤى وتنضج البرامج، ويرتقي الأداء في الأفعال والأقوال، وتستقيم المناهج وتتشكّل الرؤى، وتتطوّر الأفكار في إطار بلورة المشروع الموعود الّذي سيكون سفينة السّلام.. السّفينة الّتي سيعبر بها المجتمع التّونسي بحر الحياة من ضفّة الديكتاتورية المطلقة الّتي تجسدت منذ الاستقلال، إلى الضّفّة الأخرى حيث شواطئ البرّ والأمان والديمقراطية والحريّة والعدالة والقانون واحترام كرامة الإنسان وعقله وذوقه.. شواطئ الحرّيّة الّتي ينشدها كلّ تونسي محبّ لبلده وشعبه وأرضه بعد الثّورة... وهنا حبذا لو أسفرت الانتخابات عن مجلس تأسيسي يجمع ثلاثة أو أربعة أحزاب وطنيّة لكي تتولى إدارة البلاد وكتابة دستورها، وتكون النّهضة طرف فاعل وقوي ببرامجها وتنفيذ هذه البرامج...
تقترب انتخابات المجلس التّأسيسي، ولا تزال حملات التّشويه متواصلة، فما شارك قياديّ من النّهضة في برنامج تلفزيّ أو إذاعي إلاّ وسئل: من أين لكم بالمال والتّمويل؟ سؤال يطرح يوميا على النّهضة، وتُستثني منه الأحزاب الأخرى الّتي تلقت مساعدات تقدر بالملايين، وما أموال القذافي الّتي ضخّها على بعض الأحزاب التونسية إلّا أكبر دليل على ذلك... وهكذا فالكثير من الجمعيات ذات التّوجّه العلماني والليبرالي، هي الأخرى تلقت أموالا من أجل الوقوف بالمرصاد للنهضة ومحاربتها في السّر والعلن، والتّأليب عليها وتتبع أخطائها وتضخيمها وتهويلها، كلّ ذلك فقط من أجل حصارها والتّضييق عليها، وتأليب المجتمع التّونسي عليها، والتّخويف منها حتّى لا تصل إلى الحكم... وقد نسي هؤلاء المهاجمون والمغرضون والحاقدون، هؤلاء الّذين لم يستفيدوا من دروس الماضي القريب والبعيد، بأنّ هذه الهجمات على حركة النّهضة ورموزها، لن تزيدها إلّا قوّة وحضورا في الشّأن العام، فهي إشهار مجاني، يجعل النّاس يقبلون عليها، ويهتمون بها، وبما تطرحه من رؤى وبدائل في صورة ما وصلت للحكم...
إذن اجتمع الدّاخل والخارج حبيبا منافحا كان أو عدوّا مهاجما على النّهضة، وامتلأت صفحات الفيس بوك بهذا التّدافع والنّقاشات والحوارات الّتي سقطت في التّضليل والتّجريم والتّهويل والكذب والخداع مرّات ومرّات... إلى ذلك كانت تونس مسرحا بعد الثّورة للكثير من الضّيوف المرغوب فيهم وغير المرغوب من دول غربيّة، فشهدت تونس زيارات لوفود غربية: أمريكية وأوروبيّة، تبحث عن موطن قدم لمصالحها وتكريس ثقافاتها في تونس، ولا تخفي خوفها من وصول حركة النّهضة إلى الحكم أو حتّى المشاركة في هذا الحكم، فتتالت الوعود بالمساعدات، ورُصدت الكثير من الميزانيات من أمريكا وفرنسا وكثير من الدّول الأخرى إلى الجمعيات (الجمعية التّونسية للنّساء الديمقراطيات تلقت دعما ماليا من جهات مانحة أوروبية بمبلغ قدره 691 ألف دينار... وقد شرعت هذه المنظمة العتيدة والمناضلة في برنامج عمل مدروس ضد الإسلاميين، وقد شمل هذا البرنامج بعد أن تجنّدت له النّخب المتصهينة، فعقدت ندوات وأديرت حوارات، وأقيمت حفلات ومسرحيات وأُنتجت أفلام لعلّ أبرزها هو فيلم نادية الفاني، كذلك طبعت نشريات وجرائد ومجلّات من أجل رسم صورة مخيفة ومرعبة عن حركة النّهضة وعن الإسلاميين عموما... فلم يتوقف الكيد للنّهضة لا في المدن ولا حتّى في الأرياف*...
لماذا شغلت حركة النّهضة التّونسيين دون غيرها؟:
في ضوء ما قيل فإن حركة النّهضة قد شغلت الجماهير، فغصّت بأبنائها وأنصارها ملاعب كرة القدم، لأنّها خيار نابع من هويّة البلاد وتاريخها وقيمها وإسلامها، وليست تيّارا وافدا من خارج البلاد، يحمل قيما غربيّة يساريّة أو علمانيّة معادية لعقيدة الشّعب وتاريخه وإسلامه وهويته العربيّة.. وما نزول الآلاف من التّونسيين في كافّة المدن احتجاجا على الفيلم الّذي بثته قناة نسمة إلّا دليلا جديدا على تمسّك التّونسيين بهويتهم العربيّة الإسلاميّة...
إن حركة النهضة شغلت النّاس لأنّه قلّما وجدت عائلة في تونس لم تمس، بسبب انتماء واحد أو واحدة منها للنّهضة، وهؤلاء المنتمون كانوا من خيرة الشّباب والرّجال والنّساء والطّلّاب والتّلاميذ، فهم الرّصيد النّضالي الّذي يشهد عليه، ويفتخر به كلّ تونسيّ بأنّ تونس لم تعدم الرّجال في كلّ العصور، وبأنّ أبناء النّهضة أول النّاس الّذين تصدوا لإرهاب سلطة بن علي، وسطّروا بنضالهم وصمودهم أكبر الملاحم الّتي لا بدّ أن تدوّن في الكتب والروايات والأشعار والمسرحيات والأفلام، لكي تبقى رصيدا معرفيا وجماليا للأجيال القادمة...
إن حركة النّهضة شغلت النّاس لأن ذاكرة الشّعب التّونسيّ حيّة، ولم تمت، وهذا ما رأيناه في الاستقبالات الجماهيريّة الّتي حُضيَ بها الإخوة المهجّرون إثر عودتهم إلى تونس، فكلّما عاد أحد الإخوة من المنفيين، وجدت المطار يغص بأهله وأحبابه وأصدقائه، بل ولقد جاء الكثير من أبناء وبنات تونس لاستقبال هؤلاء المهجّرين دون سابق معرفة...
إن حركة النّهضة شغلت النّاس، لاستشهاد كوكبة من أبنائها ممن قضوا نحبهم ظلما وعدوانا في السّجون وخارج السّجون وفي المنافي، ولم يستسلموا للطّاغيّة وعصاباته من البوليس السّياسي ومن التّجمعيين والكثير من رموز اليسار، فقائمة الشّهداء تطول من قيادات حركة النّهضة ومن قواعدها والمتعاطفين معها...
إن حركة النّهضة شغلت النّاس لأن الشّعب ظلّ متعاطفا معها، ومع ما تعرّض له نساء إخوتنا وبناتهم وأخواتهم من تعذيب وهرسلة وتجويع وإجبار الكثير منهن على الطّلاق، وما قضيّة الحجاب والمحجبات ومنشور 108 إلّا غيض من فيض... فقد ضربت أخواتنا بصبرهن أروع الملاحم، وسطرن بصمودهن المعجزات، فلم يبدّلن، ولم يغيّرن ولم يتخلين عن أزواجهم رغم كلّ المغريات... ولنا في هذا قصص رائعات للوفاء والثبات على العهد للنّهضويات الّذين يعرفن تونس من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ليس حبّا في السّياحة ومعرفة المدن واكتشاف المواقع الأثرية، بل لأنّ أخواتنا كنّ يتنقّلن عبر المدن التّونسيّة من سجن إلى سجن، لزيارة أزواجهن وإخوانهن وأبنائهن...
إن حركة النّهضة شغلت النّاس، لأنّ أبناء النّهضة سواء في عهد بورقيبة أو عهد بن عليّ، هم أوّل من خرج للشّارع في مظاهرات استمرّت شهورا تنديدا بالظّلم والاستبداد، في زمن غرست فيه المعارضات الكرتونيّة الصّفراء رأسها في الرّمل والتّراب، وسقطت طمعا في إغراءات بن علي لها، مرّة يغريها بالأموال ومرّة يغريها بالاعتراف بها... نعم إنّ صمود أبناء النّهضة في الدّاخل سطّر لوحة من لوحات الصّبر على البلاء، هذا البلاء الّذي صبّه بن علي وحاشيته مدعّمة من اليسار الانتهازي على كلّ عائلة سجد فيها شابّ أو تحجّبت فيه فتاة.. ورغم كلّ هذا التّنكيل صبر الإسلاميون حتّى جاءهم نصر الله، وما هروب بن عليّ بتلك الطّريقة إلّا حدث ربّاني قالت فيه السّماء قولتها.
لم يسقط أبناء النّهضة في العنف وردة الفعل رغم ما حاق بأبنائها وبناتها... فمما يُروى في مدن تونس وقُراها مما وقع للإسلاميين من الأهوال، وما مورس عليهم من شتّى أنواع التّرهيب، تُحبّر فيه الكتب والمجلّات وتمتلئ به المجلّدات، ولعلّ ما لم تنجح فيه حركة النّهضة في الخارج، هو أنّها طيلة عشرين سنة لم تكتب مظلمتها، وهي تحت هذا البلاء والتّعذيب والهرسلة، وتشفّي بن علي وأعوانه من مناضليها، فهي لم تدوّن مظالمها ولم تُؤرخ لمحنتها ولم تُؤرشَف ما حدث لأبنائها... فاليوم بعد الثّورة هناك حالة نَهَم كبرى، وإقبال على القراءة في تونس من خلال الإقبال الملاحظ على المكتبات، ولكن للأسف فإنتاجات الإسلاميين ضئيلة في مجال الفنّ والإبداع، إذا استثنينا كتب الأستاذ راشد الغنوشي وبعض الكتب الأخرى الّتي تعد على الأصابع... ومما يدلّ على إقبال التّونسيين على الكتب الّتي ألفها أبناء النّهضة، أو كُتبت عن النّهضة أن رواية الأديب سمير ساسي "برج الرومي: أبواب الموت" قد صدرت طبعتها الثّالثة، ولم يمض على نشر الرّواية أكثر من ستّة أشهر... وهي رواية نقل فيه كاتبها ما تعرّض إليه طيلة اعتقاله الّذي دام أكثر من عشر سنوات.
مما ذكره لي بعض الإخوة في القصرين على إرهاب البوليس السّياسي، أنّهم يقتحمون بيوت الإخوة في الغداء والعشاء، ليروا ماذا تطبخ زوجاتهم... فقد دخلوا مرة على أحد الإخوة كانت زوجته تطبخ "هرقمة بكرعين نعجة"... نظروا في محتوى الأكلة تغلي تحت النار، والتفتوا للأخ ساخرين منه:
والله هاكْ تَفَرْهَدت وتَحَسَّنَت أُمورُك ووَلِّيت تَأْكُل فِ"الهَرْقَمَة"..
ثم بكلّ بلادة وهمجية أخذوا "الطّنْجَرَة" التي تطبخ فيها الأكلة، وألقوا ما فيها رأسا على عقب أمام الدار..
إنّ حركة النّهضة شغلت النّاس، لأنّها هي الحركة الجماهيرية التي ظنّ الكثير من أنواع الطّيف السياسي أنّها اندثرت، طيلة هذه العشرين سنة من السّجن والتّشريد، ولن يقوم لها قائم ولم يعد لها حضور أو وجود، وما عادت تقوم لها قائمة، ولمّا رأوها فجأة تقوم عملاقة من وسط جروح أثخنت أبناءها، ومَقاتل في الصّميم ضربت مناضليها، تقوم عملاقة في وسط أحزاب كرتونية لا جماهيرية لها، راقبتها العيون وشدّت لها الانتباه وتوافد إليها الرّجال والنّساء من أحرار شعبنا وشبابه، متوسمين فيها مركبة النّجاة وسفينة نوح، والجَمّال الذي سيقود قافلة الدّولة إلى برّ الأمان والتّنميّة والحرّية، فالإسلاميون بعد أن اكتووا بالظلم لن يكونوا ظالمين، وبعد أن ناشتهم عجلة الاستبداد لن يكونوا مستبدين، وبعد أن روعتهم ممارسات بن عليّ وجنوده، لن يؤمّموا شطر الإقصاء والظلم والتّرويع، وبعد أن ذاقوا مرارة الجوع والخصاصة لن يكونوا محتكرين ومُجَوّعِين. هذا ما يأمل فيه قطاع كبير من الشّعب التّونسي في حركة النّهضة... فهل يكون أبناء النّهضة في مستوى الأمانة والتّحدّيات، هذا ما ستكشفه الأيّام؟...
إن حركة النّهضة شغلت النّاس لأنّ أبناءها في الخارج في المجتمعات الغربية التي استقبلتهم، اندمجوا اندماجا إيجابيّا ومنتجا وفاعلا، وكانوا سبّاقين في أوساط الجالية الإسلامية إلى تأسيس المدارس والمعاهد لتدريس اللّغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة.. فاليوم أبناء النّهضة هم رسل سلام وحوار وبناء وعلم ومعرفة في أكثر من خمسين دولة، وإن لم يقدّم أبناء النّهضة في الخارج لحركتهم إنتاجا يذكر في الإبداع والكتابة وتخليد محنتهم وتدوينها، فإنّهم قد كانوا منحة خير وبركة على الجاليّة الإسلاميّة في الغرب عبر تجربة تأسيس مدارس اللّغة العربية والشريعة الإسلاميّة الّتي حضنت أبناء الجيل الثّاني والثّالث في الغرب، وحفظتهم من الذّوبان...
إن حركة النهضة شغلت النّاس، لأنّ هؤلاء المظلومين من أبناء الشّعب التّونسي، لم يجرّبوها في إدارة حكم البلاد أو المساهمة فيه، منذ أعلنت عن الوجود في 6 جوان سنة 1981، وبالتّالي فإنّ إقبالهم عليها هو إقبال الظمآن على واحة فيها ماء وظِلّ، يتخيّلها بأحاسيسه ومشاعره وعطشه، وهو بعدُ لم يرشف من مائها رشفته الأولى، ولم يكتشف أداءها واقعا ملموسا، ولهذا فإنّه يتخيّل حركة النّهضة كبيرة في انفتاحها وطموحها، لكي ترقى بالمجتمع التّونسيّ وتتقدّم به في كلّ مجالاته، ويتخيّلها رائدة بمؤسساتها وبعدالتها وبنزاهتها، وتمثيلها لكلّ النّاس حتّى أولئك الّذين لا يرون فيها آمالهم وأحلامهم، يرونها ذلك الكيان والقلب والمؤسّسة المتفاعلة مع مشاكل النّاس، وما يواجهونه من تحدياتهم اليوميّة في المأكل والمشرب والمسكن، والحياة الطيّبة في العلم والاقتصاد والثّقافة والفن... عقد يُنضّم كلّ آمال وأحلام التّونسيين من المعاق والمسكين والأرملة واليتيم إلى الفلاح إلى العامل والموظّف، ومن الحرفيين والتّجار ورجال الأعمال إلى المثقفين والفنانين والمبدعين والرّياضيين...
لمثل كلّ هذه الأحلام والآمال والطّموحات والأماني شغلت حركة النّهضة اهتمام التونسيين، لأنّهم ببساطة ينتظرون منها منهجا مغايرا للسّائد وبديلا لما كان عليه السّاسة المتعاقبون في الحكم والتّسيير، بديل يُجذّر الانتماء ويوسّع دائرة الانفتاح على المواطنين وهمومهم ومشاكلهم، يتخيّلون حركة النّهضة نهوضا بالتّونسيين، ونموذجا راقيا يرتقي بهم في المستقبل القريب لمصاف الشّعوب المتقدّمة، حتّى تكون تونس منارة للدّول الّتي اهتدت بثورة شعبها وشبابها.. ثورة الشّباب التّونسي الرّائدة الذي أهدى لحركة النّهضة، ولكلّ الأحزاب المغضوب عليها في عهد بن علي الحرّيّة والوجود على السّاحة السّياسيّة، هذه الثورة الّتي هي حدث ربّانيّ، جاء ليُغيّر بها الكثير من التّرتيبات والمسلّمات في المنطقة العربيّة، حتّى يكون الشّعب مصدرا لكلّ السّلطات...
إذن في ظلّ هذه الحرب الشّعواء على حركة النّهضة تتّضح مسألة الولاء والبراء، لتجعل نصرة هذه الحركة واجبا شرعيّا، نعم واجبا شرعيا مهما اختلفنا مع توجّهات أصحاب القرار فيها... *
* كواحد من قرية من قرى تونس، فإنني ألفت انتباه قيادة النّهضة لأهمية هذه القرى والأرياف، ورد الاعتبار إليها فقد هُمشت في عهد بن علي، واستفرد بها "القوّادة" والمخبرين، كما لا يفوتني أن أنبّه أن بقايا التجمعيين و"القوادة من المخبرين" الذين ينشطون في الأرياف، ويتقاضون رتبهم كأعوان في الغابات، هؤلاء يواصلون تخويف المواطنين من النّهضة وعدم الانضمام إلى صفوفها، لأنه في حالة انتصارها سيقع انقلاب العسكر عليها، وتعود الأمور كما كانت في عهد بن علي أو أشد، وكل من انخرط في النهضة أو انتخبها سوف يلقى عليه القبض من جديد، ويزجّ به في السجن عاجلا غير آجل، وهذا ما ينطلي على أغلب سكّان هذه القرى والأرياف... وعليه فلا بدّ من حملات توعوية لهؤلاء المواطنين، حتّى يتخلّصوا من وصاية العهد البائد، ويمارسوا قناعاتهم واختياراتهم دون تخويف أو قيد أو رقيب...
* لهذا المقال جزء ثان بعنوان " أخطار في الطّريق يجب التّنبيه إليها" ينشر بعد انتخابات المجلس التّأسيسي بإذن الله...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.