( النرويج) تعليقات خطّها القلم و انقدح بها الفكر تفاعلا مع الأخت الفاضلة زهيرة، التي انشدّت ذات مرة إلى أدب جبران حتى شعرتُ أنها تقمّصته وجوديا، فأصبحت مقالاته هي مقولات الوجود لترسم فيها وجودية مفارقة، ربّما تؤدّي بصاحبها إلى حالة غياب وجودي، و صاحبها في لا حياة في الحياة و في لا وعي في الوعي .. أستسمحها بتجميع ما تفرّق و توحيد ما تجزّأ و تشكيل ما تبعثر من تلك الومضات، لعلّ بعضنا يجد فيها فائدة : 1. أظن أن ثنائية نحن/أنتم في هذا السياق يعبّر عن ارتباك فكري من جبران. و إذا تأسّس القول على هذه الثنائية فمن الطبيعي، سيكون القول فيها مشحونا بنظرة سلبية تجعل من الحدّين (نحن – أنتم ) متضادين، متصارعين، نقيضين. و من الطبيعي أن أي تنظير على هذه الأسس سينظّر إلى شبكة العلاقات الاجتماعية من خلال منظار أسود، ينغمس في الثنائيات المتناقضة. فليس بالضرورة أنّ الذي ينظر بعين الصداقة سيواجه بعين العداوة،إلا في حالة واحدة هو أن صاحب القول يعتبر نفسه هو (الانسان الكامل) الوحيد و هو الذي يملك الحقيقة و قوله لا تعقيب عليه، و قول الآخرين هو قول ( الانسان الناقص) دائما و الذي يحتاج إلى موجّهات و بركات الانسان الكامل. فهل بهذا الأسلوب نتعلّم أو نُعلّم الحقيقة. هذا امعان في الأنا التي ترى ذاتها مالكة لوحدها الحقيقة بل هي فوق الحقيقة و هكذا تسقط مقالة جبران لأنها تؤسس للجبر و الاستعلاء و الاستكبار. 2. ليست المشكلة الاستفادة من هذا الأديب أو ذاك. فالحكمة ضالة المؤمن. و أعلم أن الغربة فعلت فعلها في نفس جبران و عندما تشتد وطأة الغربة على أحدنا سيلجأ إلى ما يخفّف عنه آلامه النفسيّة و غربته. و لكن في رأيي الانغماس في هذا التراث المُثقل بأوجاع الذات المغتربة كأدب جبران ، ستنغمس معه أرجلنا أكثر في أوحال الغربة و لن تحررها. بدليل أن جبران لم يتحرر منها إلا وهما في وجودية متعالية و صوفية مفارقة. فالذات الواعية تبحث عن التوازن و كلا من الوجودية و الصوفية لا تحققان ذلك. نعم نقرأ و نطلع على جميع التراث الأدبي الانساني و لكن بعقلية نقدية تعرف الذات فيها أهدافها و غاياتها. فالأدب كما يقول محمود المسعدي مأساة أو لا تكون . و ليس بالضرورة أن يكون سرد المأساة في صيغة أدبية مساهما في تقديم الحلول إلا من منظار الاستفادة من تلك التجارب و عمق غربتها و أثرها في غلق أبواب الأمل في الحياة . 3. أستسمحك عذرا أختي الفاضلة زهيرة في نقد جبران من جديد. لأنني : أولا: أؤمن بحاجة الانسان إلى قراءة الأدب. فحاجة الأدب للعقل و الروح كحاجة الجسد للشراب و الطعام ثانيا: أن للأدب دور كبير في تغيير العقليات و تغيير المجتمعات أو تأبيد المآسي و الهزائم. و أعود إلى مقالة جبران و ثنائياته : المنزل- الطريق/ الماضي- المستقبل/ الاقامة- الذهاب/هنا- هناك/ المحبة- الموت.. أشير سريعا إلى الخطأ الوجودي في بعض هذه الثنايات فالمنزل لا يقابله وجوديا الطريق،و المستقبل لا ينفكّ وجوديا عن الماضي، فالماضي جزء أساسي في المستقبل و المستقبل جزء أساسي أيضا في الماضي. فمن خلال الماضي نصنع المستقبل، و مستقبلنا سيكون ماضيا لنا في لحظة زمنية معينة. أما الاقامة فليس مقابلها الذهاب اطلاقا. و بين هنا و هناك و قبلهما و بعدهما مسافات. و عندما أكون أنا هنا ففي الوقت نفسه أنا هناك بالنسبة لك أنت، و عندها تتداخل أسماء الاشارة لتتغيّر دلالاتها و تسير عكس ما يراه جبران. أما المحبة و الموت فليستا ثنائيتين لا متطابقة و لا متعارضة وجوديا. و لا يمكن أن نختزل أدوات التغيير الكلي (كل شيء) في هذين فقط. فالتغيير عملية معقّدة لا تحيط به مفاهيم الوجودية المتعالية أو الصوفية المفارقة ، إلا عندما نحوّل التغيير إلى كلمات ننثرها في الهواء و نترقّب منها أن تمطرنا السماء ذهبا و فضّة من خلال ثنائيات عقيمة. و الله أعلم 4. ليس من طبعي الانخراط في حملات تشويه لهذا الأديب أو غيره. و إنما هو تفاعل ايجابي مع اخوة و أخوات. و النقد الموضوعي و العلمي هو الذي يدفع إلى التحرر من قيود العجز، بينما المديح و اعلاء قيمة هذا أو ذاك حتى يعلو عن كل نقد، قول لا يستسيغه العقل في حد ذاته. و أنت أكيد اطلعت على مسيرة جبران الأدبية و علينا أن نقيّمها تقييم علمي و موضوعي. و كل تجربة أدبية تثري الحياة و لكنها لا تتدعي أنها تحمل الحقيقة. فالمعجبون هم من يمنحونها الصفة السرمدية و أنها هي التي تحكي باسم الحقيقة. و إذا سقطنا في هذا المطب فنكون قد انغمست أقدامنا في وحل الحيف و التحيّز و عندها تنقطع مسيرة المعرفة و العلم الذي يُبنى على التراكم و النقد. فجبران ربما يجد فيه المغتربون بعضا من الراحة النفسية، و يجد فيه غيرهم عجزا و دعوة لليأس، و آخرون تعالي مبالغ فيه عن الواقع و استسلاما له، و غيرهم تحريرا للروح من مكبلات البديهيات العقلية .. و تتعدد القراءات. في قرائتي لجبران أستحضر جميع هذه الصور و أُعمل عقلي قدر ما منحني الله من "عطيّة" التحليل و النقد. و الله أعلم . 5. في تجديد نقد مقولات جبران: مقولة اليوم فيها جزء من المشروعية، و لكن في ظني المتواضع لا ترتقي أن تكون مقولة تشدّ النظر، أو تجعل منها مقولة ابداع . فهي خفيفة الوزن العقلي. لأن العلاقة بين المنطوق و المقصود لها أوجه أربعة : أ. منطوق مقصود : يمكن أن تضيع معه المحبة أيضا ، و ربما يكون مقصوده هو ذلك. و عندها تضيع المحبة حقيقة . ب. منطوق غير مقصود : يمكن أن يكون المنطوق غير ما تحمله الكلمات الظاهرة و التي التقطها السمع. و هي ربما تسبّب خدشا في المحبّة ، إلا أن امكانية الجبر ممكنة. ت. مقصود يُنطق : هو عندما يتطابق المُفكّر فيه مع ما يُنطق، و هنا يكون الفكر و القول متطابقين و عادة تُسمى هذه شجاعة و وضوحا. و هي تعبّر عن الحقيقة الواقعة و صورة المحبة هنا هي كما تعبّر عنها ارادة المقصود و لا خوف من ضياعها. ث. مقصود لايُنطق: و هو المُضمر و المخفي و عادة عندما لا يُنطق المقصود فإما لحالة حذر أو خوف أو عدم اكتراث به و يُتجنّب النُطق لعدم معرفة بمآل القول و هي صورة من صور الشك. و الله أعلم 1. عندما يبلغ الشعور بعُلو " الأنا " إلى درجة تتوحّد فيه مع الوجود، ليُختزل الوجود في الأنا. فكل الوجود تُعبّر عنه الأنا و لا يستطيع الوجود أن يُعبّر عن الأنا. هذه قمة الاستعلاء و الذي يولّد حتما استعلاء حتى عن الحقيقة ، لأن الحقيقة في هذه الحالة هي "الأنا" و لا غير. فمقابلة الأنا مع النحن تشير إلى حالة وجودية تكون فيها الأنا/الذات متضخّمة، و ما يصدر عن نحن/أنتم/الجمع هو نقيض ما يصدر عن الأنا/الذات/المفرد. و ما نجده في مقولة جبران اليوم. و المتقابلات التي استخدمها : اليقظة/الحلم – أنا/ أنت العالم- حبة رمل/الشاطئ- اللامتناهي/المتناه .. دليل على حالة غير سوية بالمعنى الفيزيقي و النفسي، فأن يستعلي قول الحلم على قول اليقظة دليل آخر على الحالة التي تردّى فيها جبران ليواجه اليقظة بالحلم، فهو دليل عجز نفسي و هروب إلى الحلم من وهج اليقظة. ربما يكون الحلم ملاذا مؤقتا أو بداية لفعل جديد خاصة أنه بالحلم يتم الانجاز و التقدم . و لكن مقولة جبران و متقابلاته لا تجعل من الحلم خطوة للانجاز و تحقيق الذات بل هي "خيلاء وجودية" لا تحقق حلما و لا توقظ نائما. و الله أعلم 2. أنا لا أقول ذلك . أنت تتعاملين معه من وجهة نظر أدبية و أحاسيس " برد اليقين المغشوش"( في نظري) التي يضفيها على المكلومين من الغربة و أنا أتعامل معه من وجهة نظر فلسفية باعتباره أحد ممثلي الفلسفة الوجودية في جانبها الاستشراقي الموغل في اليأس و الاحباط و العجز.و هو ما أوجّه إليه رماح النقد. فكل أديب يُمثل وجهة نظر فلسفية، و أدبه يبشّر بها و يزرعها في سلم القيم. و هنا مكمن القوة/ والخطر معا في الأدب عموما.