اللافت في ما جاء في الحوار الذي أجراه رئيس الحكومة مهدي جمعة البارحة مع القناة الوطنية، وقناة نسمة، تأكيده أنّ الحكومة تتعرّض إلى جملة من الضغوط، بعضها بسبب الأوضاع الاقتصادية، وبعضها الآخر بسبب الأوضاع الأمنية المتقلّبة، إضافة إلى الضغوط التي تمارسها أطراف مختلفة حتى تضع هذه الحكومة في خدمتها. وكان مهمّا أن يضع رئيس الحكومة النقاط على الحروف منذ البداية بتركيزه في مفتتح الحوار التلفزي على أنّ المهمة الأساسية لحكومته هي إنجاز الانتخابات القادمة التي ينبغي أن "تكون شفّافة ونزيهة مشيرا إلى أنّ مصلحة الوطن تكمن في وضوح الرؤية وفي إجراء الانتخابات قبل موفّى السنة الحاليّة". ولعل جمعة أراد من خلال ذلك تذكير بعض الأطراف بأنّ هذه هي مهمته الأساسية حتى لا يشغلوه بقضايا تتجاوز إمكانات وصلاحيات الحكومة أو قد تعطلها عن العمل وتنفيذ تعهّداتها الوطنيّة الكبرى.. ويتأكّد ذلك من خلال ردّه على سؤال يتعلّق بخارطة الطريق، فأشار إلى أن الحكومة جاءت بشرعيّة انتخابيّة من خلال الحصول على ثقة المجلس الوطني التأسيسي وشرعيّة توافقيّة، وأنها ملتزمة بهما معا، وهو ما يعني أن هذه الحكومة مسؤولة أوّلا أمام المجلس التأسيسي، وأن الالتزام، بخارطة الطريق يجب أن يكون في إطار التوافق، وأكد في نفس السياق، أنّ هذه الحكومة لها "استقلاليّتها وتتحمّل مسؤوليّتها في أخذ القرارات".. وهو رد في اعتقادي على من يتوهم أنّ هذه الحكومة ستكون أداة طيعة، يوجهها ويتحكم فيها كما يريد. أعتقد أنّ جمعة وضع إطارا واضحا وجيّدا لحواره وظهوره الإعلامي الأوّل، عندما أوضح هذه النقاط التي تحدد طبيعة ونوعية العلاقة التي تربطُ حكومته بالرباعي الراعي للحوار، وبالهياكل الشرعية وهي أساسا المجلس التأسيسي. وهذا التأطير مهمّ جدا، حتى لا تتمادى بعض الجهات، في تقديم طلباتها، لهذه الحكومة، وحتّى توقف الضغوط الهائلة التي تمارسها عليها، من أجل الاستجابة لهذه الطلبات.. فكأنّ جمعة أراد أن يقول .. نحن مطالبون بإجراء انتخابات قبل نهاية السنة تكون نزيهة وشفافة.. لذلك رجاء لا تثقلوا علينا الطلبات، خاصة وأنّ الوضع الاقتصادي الذي تواجهه الحكومة صعب، والمطلوب لم يعد إجراءات ترقيعية، بل حلول جذرية، كمراجعة منوال التنمية وإعادة النظر في منظومة الدعم بتوجيهه إلى مستحقيه من الفئات الضعيفة والهشة.. اعتقد أن رسالة جمعة كانت واضحة وهو يطلب من الشعب أن يساهم في رفع التحديات الاقتصادية عبر فتح باب الاكتتاب الداخلي، بعد أن بلغت الديون الخارجية 23,5 مليار دينار وهذه القروض ذهبت خلال ثلاثة سنوات إلى الدّعم وخلاص كتلة الأجور".. وقال جمعة إن الوضعية الاقتصادية للبلاد اصعب مما كان يتصور، وان حكومته "تقوم بعمليّة تدقيق للبنوك العموميّة لتحسين مردوديّتها وإعادة هيكلتها موضحا أن المؤسّسات العموميّة التي تعاني من خسائر هامّة سيتمّ اتّخاذ إجراءات لدعمها". ولا أدري كيف ستقرأُ تصريحات رئيس الحكومة حول مفاجآته بصعوبة الوضع الاقتصادي، خاصة وأنه كان وزيرا للاقتصاد في حكومة لعريض، إضافة إلى أنّ صعوبة الأوضاع الاقتصادية هي العامل الأساس الذي ارتكزت عليه المعارضة واشتغلت على تعميقه، حتى تقنع التونسيين بفشل الحكومة السابقة، وهذا معلوم بالضرورة بالنسبة إلى جمعة.. على كل، اعتقد أنّ هذه المناسبة فرصة كي يقف التونسيون على حجم وثقل المشاغل التي كانت تتحملها الحكومة السابقة لوحدها، وتعمل جاهدة على تجاوزها وتأمين تواصل دفع الأجور والمستحقات المالية للعاملين في مختلف القطاعات.. وفي جميع الحالات، فإنّ ما أدلى به جمعة ليس فيه كما نرى طرحا جديدا، فالمسائل التي تطرّق لها تكاد تكون معلومة خاصة بالنسبة إلى المتابعين، وما طرحه بعد شهر من تسلمه لمهامه، ليس فيه أي إنجاز يذكر عدى التحسن الطفيف في الوضع الأمني، وهذا مفهوم بالنسبة إلى حكومة لم يستوعب وزراؤها بعد الملفات التي بين أيدهم.. وحتى الحديث عن صعوبات اقتصادية ليس مفاجئا فكلنا يعلم هذه الحقيقة، ولعلنا في ذلك أفضل من كثير من الدول التي عاشت فترات انتقالية ما بعد ثورية، والحمد لله أننا لم نصل في بلادنا إلى إعلان الإفلاس مثلما حصل مؤخرا في أوكرانيا، وما حصل من قبل في مصر ما بعد الانقلاب. قلت إنّ هذا الوضع الصعب معلوم وليس فيه جديد، والمسؤولية الأساسية يتحملها اتحاد الشغل الذي كاد أن يحرق البلاد بالإضرابات والاعتصامات. والمطلوب من رئيس الحكومة، في اعتقادي أن يقدم لنا حلولا ومعالجات فعلية، وهذا دوره، لا أن يتحدث عن صعوبات.. فالحديث عن الصعوبات مهم، ولكن على السيّد مهدي جمعة أن يضع تشخيصا دقيقا عن مصادر تلك الصعوبات وأن يضع كلّ الأطراف السياسية والاجتماعيّة أمام مسؤولياتها التاريخية والوطنية. لقد انتهى اليوم وقت إضاعة المجهود الوطني في المناكفات والتجاذبات الحزبيّة والاحتجاجات العشوائيّة مثلما حدث مؤخراً في قطاع النقل، وعلى كل الأطراف أن تمنح حكومة جمعة فرصتها كاملة لكي تتحرّك في اتجاه معالجة الطوارئ والمشاغل التي أوصلت الاقتصاد الوطني التي مثل تلك الصعوبات. حكومة جمعة، حكومة وفاقية وهي مستقلة ومحايدة، ولن تخدم أيّ أجندة حزبيّة، وأعتقد أنّ مهدي جمعة قد وجّه البارحة رسائل واضحة للسياسيين بأن يكفوا عن النظر الضيّق وأن يتركوا الفريق الحكومي يُباشر ملفاته والقضايا المطروحة. حكومة جمعة ليست لخدمة أيّ حزب ولن تكون أداة لتنفيذ أجندات فئوية أو إيديولوجيّة، وستعمل على تنقية المناخ الانتخابي على قاعدة الكفاءة ونظافة اليدين والاستقلالية وحياد المواقع الاداريّة ذات الصلة وتحسين الأوضاع الامنيّة دون انغماس في تصفية حزبيّة او سياسيّة لهذا الطرف أو ذاك. المهندس مهدي جمعة، بدا واضحا في رسم خطوط عمل فريقه الحكومي والكرة الآن في ملعب السياسيين والأحزاب بأن يقوموا بواجبهم وأن يساهموا في فتح الطريق أمام العمل الحكومي لرفع الصعوبات الماثلة لا وضع المزيد من العراقيل والصعوبات والطلبات التعجيزيّة أو ذات الطابع الحزبي في طريقها.