دخل، والإمام يخطب وأفكار كثيرة تدور في رأسه عبثا حاول أن يتركها خارج المسجد، دخل وفي ذهنه أن يوم الجمعة ذاك هو أول يوم تُفتح فيه صناديق الاقتراع في أول انتخابات تشريعية تونسية بعد سقوط الطاغية! دخل وهو يفكر في أيتام التجمع وفلوله الذين كانوا مجرّد عسس ومخبرين على إخوانهم ومواطنيهم، يحصون أنفاسهم ويكتبون فيهم التقارير... من دخل إلى المسجد الفلاني؟ ... وماذا قال الإمام "العلاني"؟ ... ومَن مِن المهاجرين تكلم مع أحد المهجّرين؟ دخل وهو يرى أناسا في المسجد من إخوانه وبني وطنه، كانوا يكنّون له في قلوبهم ودّا تنطق به عيونهم ولا يخرج من شفاههم خشية العسس! دخل إلى المسجد وعن يمينه وشِماله أناسا يقابلونه الآن بالترحاب ويهشّون في وجهه ويبادلونه الحديث كلما سنحت الفرصة، وكانوا من قبل لا يجرؤون أن يردّوا عليه السلام حتى يلتفتوا يمينا وشِمالا! دخل إلى المسجد وهو يرى شبابا "معفين للحاهم ومقصّرين لثيابهم" كانوا إلى وقت قريب في عوالم أخرى، وأصبحوا اليوم يفتون ويحرّمون! ويزندقون أعلاما ويبدّعون فطاحلا! ... الديمقراطية كفر والانتخاب حرام! دخل المسجد وفي خلده أن شعبنا أنجز "ثورة" لم تكتمل، وأهدى الحرّية لمن ناضل في سبيلها ومن حاربها! دخل وفي ذهنه أن "ماكينة" تجمّع "الأوغاد" قد عادت للعمل وهي تبتزّ المهاجرين وتحثهم على الالتفاف حولها لإحكام الخناق عليهم مجددا، والعودة إلى ماضي الاستبداد، وإن تظاهر الآن محرّكو "الماكينة" بمظهر "الحملان"، حتى يعبروا من منافذ الديمقراطية التي تركها "التسامح" مشرعة لمن يستحقها ويقدرها قدرها ومن يسعى للدخول منها ثم إعادة إحكامها من خلفه! انتهت الخطبة ورفع الناس أيديهم بالدعاء خلف الإمام، شرد صاحبنا من جديد بذاكرته إلى سنوات الجمر، سنوات محاكم التفتيش والنوايا يوم كان والده يؤمّن خلف الإمام في صلاة الجمعة، فلمّا جاءت الفقرة الخاصة من دعاء الجمعة "لسيادة الرئيس زين العابدين بن عليّ" خفض الوالد يديه ولم يحرّك شفاهه بالتأمين! ... حركة إلتقطها العسس ودُوّنت فيها التقارير وأرسلت بسببها دعوات من مراكز الأمن للوالد الرافض لنظام بن عليّ! نعم حصل هذا وأكثر منه في تونس زمن "بورقيبة وبن علي"، ولكن ذاكرة التونسيين قصيرة! ثم يشرد صاحبنا ويسأل نفسه هل يعي مواطنوه في هذا المسجد، ماذا يعني سكوتهم أو مساندتهم لعودة منظومة القهر والاستبداد؟ كيف لا يهبّون جميعا يحرّضون الناس على المشاركة الفاعلة في الشأن العام كي يحافظوا على حريتهم وكرامتهم؟ يقوم إلى الصلاة ويركع خلف الإمام فيرى أن أصابع رجليه متقدّمة على خط تسوية الصّف فيرجع إلى الخلف حتى يستوي، ثم يشرد مجدّدا هل يريد نبينا صلى الله عليه وسلم منا أن نسوّي صفوفنا لتكون جميلة وحسب ، أم أن الأمر تربية لما بعده؟ وهل يشيد ربّنا بالصفوف التي هي كالبنيان المرصوص فقط ليقدم لنا صورة جميلة؟ ثمّ يتذكر صاحبنا بعض الشباب الذين لم يفهموا من الصفوف إلا رسمها! ... قد يدفعك أحدهم بغلظة لتستوي في صفّ الصلاة، والويل لك إن رأى بين رجلك ورجله شبه فُرجة فإنه سيدوس على رجلك ويسدّها سدّا محكما حتى لا ينفذ منها الشيطان! فإذا انقضت الصلاة غابت معاني الصفوف وسدّ الفرج! ... بل وتُركت الفُرج مُترعة ترتع فيها شياطين الإنس والجنّ والإستبداد والدكتاتورية! لأن تسوية الصفوف وسدّ الفرج في المسجد فيها نصوص واضحة! أما خارجه فتحضر نصوص أخرى وفقه آخر! ... "ما حكم الانتخاب؟" ... "الديمقراطية حرام!" ... "إن الحكم إلاّ لله"! "وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ"! وغير ذلك من النصوص التي تلقى في غير مواضعها ومقاصدها! يسلم الإمام فيَهمّ صاحبنا بالانصراف على عجل ليواصل سدّ الثغور بما استطاع، وإذا به يسمع أحد مواطنيه يسأل الآخر: "هل انتخبت اليوم" فيردّ مواطنه: "لا لم أفعل ولن أفعل منْ أنتخبُ؟؟ ... هل أنتخبُ فلانا (سماه)"؟ ويضحك ساخرا! مرّ صاحبنا بجنبهما فأراد السائل الأول أن يشركه في حوارهما، فردّ :"نحن في المسجد اخفضا صوتيكما وهمس في أذن من لا يريد أن ينتخب "فلان" إذا أنت تنتخب التجمّع بصمتك أو مقاطعتك للانتخاب، ... سلام! طبعا سيقولون صاحبنا المسكين هداه الله شارد عن ذكر الله في صلاته، ويسيّس المساجد!!