يشير علماء النفس إلى أن أحد أبرز متطلبات تعديل السلوك غير السوي، استدعاءه من اللاوعي إلى الوعي و التركيز عليه حتى تتم عملية التعديل إلى الأحسن. و أن كل عملية “ديمومة إقامة” السلوك في منطقة اللاوعي و عدم سحبها إلى الوعي، لتسليط النظر عليها و تحرير الذات من تلبيساتها، هو عملية مشبوهة، خاصة في المراحل الزمنية الفارقة في حياة المجتمعات و الأمم. فكلما انكشف ارتباط الفعل باللاوعي، كلما كان الفعل ملتبسا و المراد منه عكس ما يُنطق، بل هو عين ما يُطوى. فمن يسحبنا إلى دائرة الخوف و سجننا بين عودة الاستبداد أو الارهاب، هو تلبيس للسياسة لنيل مكاسب سياسية بأدوات غير سياسية. و من يسحبنا إلى الاصطفاف الايديولوجي و التكفير هو تلبيس للمشهد الاجتماعي بأدوات هجينة و مدمّرة للنسيج الاجتماعي الوطني. أما من يسحبنا إلى الثورجية أو الخضوع السياسي هو قضاء على ما بقي من الدولة و الوطن. فالاصطفاف المطلوب اليوم هو مع الدولة و الوطن. و كل ما ناقض ذلك، يُعدّ “مشبوها” سياسيا، و ربما يُلحق الوطن و التجربة التونسية إلى ما تمّ دفع تجارب الربيع العربي الأخرى إليه من أنين و أوجاع، و الخلاص منها يتطلّب دماء، و دمارا، و انهيارا كبيرا، الخاسر الكبير فيه الوطن. و الناظر في الخطاب للأحزاب السياسية التونسية في حملاتها الانتخابية القائمة هذه الأيام، يُلاحظ تباينا في المنهجية و الخلفيات، و إن كانت الأحزاب السياسية تدعي بأنه اختلاف في البرامج. و يمكن لنا القول بأن معظم هذه البرامج تستهدف تقديم حلولا لمعضلات الواقع التونسي، و التعبير عنها لا يختلف في ملامحه الأساسية بين المكونات السياسية التونسية إلا في الخطاب. لذلك في تقديرنا، و إذا أردتنا تبيّن الفروق بين رؤى الأحزاب السياسية، يجب اعتماد آلية مغايرة غير آلية النظر في البرامج. و لا ندعي أن ما سنبيّنه هنا هو الآلية الوحيدة أو المثالية، و لكن من الآليات التي تمنحنا قوة التمييز كمقدمة أساسية للاختيار. فالمشهد الانتخابي يبرز توجهين أو منهجيتين أساسيتين في التعامل مع الشأن السياسي: منهجية تبني رؤيتها على أساس الرهان على الوعي بأهلية الشعب و متطلبات المواطنة، و تؤكد على زرع الثقة في النفس، و الايمان بقدرة الشعب على الاختيار المناسب. و أن البناء يتطلب وعيا حادا، ينطلق من الرهان على الانسان-المواطن، الذي يعي متطلبات الجمع بين تحقيق التغيير المنشود و الحفاظ على كيان الدولة. و لهذه المنهجية منطقها الذي يتأسس على تعميق الحرية و جعلها المكسب الأول. و يعتمد على آلية القانون في التحكيم، و التشاركية في التسيير، و الوحدة الوطنية في التدبير، و التوافق كمنهج لبناء التغيير. أما المنهجية الثانية فهي تتقوّم على أساس الوصاية و عدم نضج الناخب و عجزه عن تقدير المصلحة. وهي تنبني على قاعدة الارتهان لحالة الخوف من المصير المشابه لبعض حالات الربيع العربي، حتى تدفع بها إلى حالة مرضية، تّخضع المواطن و الوطن إلى الإنشداد و الخضوع للقوة (الموهومة) للواقع (الموهوم). فهي تدفع الوطن إلى مزيد من تضييع الوقت في الصراعات السياسية التي تتأسس على الاصطفاف الأيديولوجي، و الثارات التاريخية و الحقد السياسي. و هي حالة يُراد منها “تطويل” المرحلة الانتقالية و اسنادها بعملية “تهرئة” مخطط لها بإحكام لقوى التغيير بمختلف مكوناتها الثورية و المتدرجة و العاقلة. و هذه المنهجية تستهدف اسقاط الجميع في “مستنقع” استمرارية الفوضى، و منع استعادة الدولة لعافيتها بطريقة التغيير الذاتي العاقل. و أمام الشعب التونسي اليوم فرصة تاريخية، لتستعيد الدولة عافيتها، و المواطن كرامته، و الوطن حيويته، و التاريخ دورته الحضارية. فالخيار على أساس سيادة القانون، و الحكم التشاركي، و الوحدة الوطنية، و العقد الاجتماعي المانع هو جسرنا إلى المستقبل. و بذلك تبقى الرايات السياسية مرفوعة، و الخيار لصاحب الحق، يُعطيه لمن يستحق.