أرأيتم..؟ أكيد رأيتم.. لكنّكم تنتظرون أن أصف لكم المأساة بكلماتي الباكيات... هل انتهت رحلة أبو الطّفل "إيلان"، أشهر لاجئ غريق شاهده العالم، بتلك النهاية المرعبة كما رأيناها مباشرة على الهواء بإهداء عائلته إلى موج البحر بعد أن فرّ بها من براميل الأسد.. لكن رغم الكارثة، فإنّ البحر كان به رحيما، حيث ألقى إليه بجثث قرينته وطفليه على رمال شواطئ تركيا، فالتقطهم، وعاد بهم إلى بلدته "كوباني" ليواريهم التّراب في بلد الفرار، ويبقى هو حيّا لوحده يواجه الأقدار.. دعوني أروي لكم باقي القصّة إذن، ولتنفطر قلوبكم.. عند الدّفن، وضع "عبد الله الكردي" طفليه في حجره ساعة وهو يبكي، ويقبلهما، وهو يعلم يقينا أنّه لن يسمع صوتهما أبدا ولن يشتري لهما لُعَبًا أبدا، ولن يذهب بهما إلى المدرسة أبدا... ثمّ وضعهما بنفس اليقين في القبر.. والتفت إلى زوجته حبيبته وهي ممدّة، فجثى فوقها، وعانقها طويلا وهو يبكي بحرقة، وفتح الكفن، وقبّلها في فمها وفي عنقها، كما كان يقبّلها في رومنسية وهي حيّة، وجسّ جسدها بيديه كالمجنون، كالملهوف، كما كان يفعل وهي متعطّرة له في فراشه، فعل ذلك وهو يعلم أنّه سيلجأ إلى الصّوم الحتمي بعد أن يواريها التّراب.. لمّا خاطر عبد الله في البحر، لم يكن أبدا يحلم بحياة الرّفاهية، ولا بشقراء أوروبية، كما يحدث لكثير من الغابرين في البحر المتوسط، بل خاطر ومعه حبيبة عمره وطفليها في مهمّة إنقاذ لقصّة حبّ ابتدأت منذ عقد في بلدة كوباني.. كان يعشقها حد الجنون، وبالمقابل، هي أيضا كانت تحبّه، وكانت نتيجة الحبّ، أن أهدت له من أرحامها طفلين جميلين، وبقيت له رشيقة جميلة كما يريد، يتغزّل بها صباحا مساء.. كان في قريته يحاذر، و ما كان ليخاطر، أو يغادر، لكن في نهاية الأمر، عزّ عليه أن يرى يوما زوجته حبيبته، تردمها وطفليها البراميل الأبابيل، أو تموت تتلوّى تحت براثن الجوع ، أو يغتصبها داعشيّ خبيث، تحت تهديد السّلاح ذات ليل بهيم، فأخذهم وتيمّم البحر.. كانت تجلس في الزّورق تقابله، وفي حضنها أحد طفليها، وفي حضنه الطفل الآخر، وعيناها تغرق في عينيه العاشقتين المغامرتين، وتبتسم له في حبّ وأمل، وكان هو يمنّيها من خلال نظراته برغد وأمن وأمان، وباستمرار قصّة الحبّ التي بينهما، ولم يدر أنّه يمنّيها على شفا حفرة من الألم.. وفجأة تدخّل الموج، وأنهى قصّة الحبّ، وأخذها الدّمشقية الفاتنة، وأخذ معها الأطفال، وأنهى كلّ الأحلام... لا تبكوا، ولا تلوموني إن سالت دموعكم، فالقصّة وجدتّها ملقاة في إحدى زوايا قلبي، فزادت جرحا إلى جراحي، وألما إلى آلامي... مخلوف..