أنطلق في هذا المقال من محاضرة ألقاها أحمد شبشوب, الأستاذ والباحث التونسي القدير في علوم التربية, أثناء المؤتمر الوطني الرابع لتعلّمية العلوم أو فلسفة تعليم العلوم. Didactique des sciences ou épistémologie de l'enseignement comme elle a failli s'appeler
نظّمت كلية العلوم في مدينة صفاقسالتونسية سنة 1998 ، مؤتمرا، عنوانه "'التربية العلمية للتلاميذ: أيّ عوائق يجب تجاوزها؟" وألقى الأستاذ محاضرة، قال فيها: "في الواقع نحن ننتمي إلى ثقافة ما زالت شديدة التأثّر بما هو سحريّ و/ أو ما هو وراء الطبيعة مع العلم أن التعليم المكثف للعلوم العصرية مازال حديث العهد في تونس: في سنة 1875 بدأت مدرسة "الصادقية" تنشره لدى النخبة، والمفروض أن الإصلاح التربوي لسنة 1958 قام بتعميمه على كامل التونسيين، لكن علينا أن ننتظر قانون جويلية1991 ليصبح التعليم إجباريا حتى سن السادسة عشرة، ثم قانون التوجيه سنة 2002، ورغم تعليمه الطويل مازال التونسي المتوسط يعتمد في حياته اليومية على طريقة تفكير, في إدراك العالم وتفسيره, تتداخل فيها النتائج المادية والأسباب غير المادية وهذا مخالف للتفكير العلمي".
أبدأ بتعريف التفكير العلمي: يعتمد منهجية تتألف من المراحل التالية: - الملاحظة : تنبع الملاحظة من نظريات مسبقة عند العالِم وهي لا تحدث صدفة كما يعتقد الكثيرون في أسطورة حادثة التفاحة عند "نيوتن". عينُ العالِم, عينٌ واعيةٌ و مدركةٌ وليست كعيون غير العلميين والعامة. - الإشكاليات: تمثل مداخل البحوث العلمية وتأتي بعد الملاحظات الصادرة من العلماء بعد تفكير وليس صدفة. - الفرضيات : تطرح قبل البحث وهي استشراف لنتائجه لكن تبقي رهينة التجارب, تؤكدها أو تنفيها. - التجارب: يقوم بها العالِم أو الباحث أو التقني ويتحرى فيها الدقة والأمانة العلمية. - النتائج: يجمعها العالِم أو الباحث أو التقني ويتحرى فيها الدقة والأمانة العلمية. - تحليل النتائج و تفسيرها: هي أهم مرحلة لأنها الأصعب ولا يقوم بها إلا العالِم أو الباحث الملم بالنظريات العلمية السابقة. - الاستنتاجات : هي خلاصات البحوث العلمية الذي ينشرها العالِم أو الباحث في المجلات العلمية المختصة أو يلقيها في المؤتمرات العلمية الجامعية لتوضيح رؤيته الجديدة للآخرين.
يبدو لي أنه لا يوجد فصل ميكانيكي بين هذه المراحل لا في الزمن ولا في الترتيب، بينما يوجد بينها تداخلٌ وتدافعٌ وتفاعلٌ وأخذٌ وردٌّ وتغييرٌّ في الترتيب.
بعد هذه المقدمة, نحاول مقارنة منهجين سائدين في العالم: التفكير العلمي والتفكير الديني: - ينبني التفكير العلمي على الأرض فهو أرضي وعلى الإنسان فهو إنساني صرف يحرّكه الشك )الشك طريق إلى مزيد من الشك و ليس طريقا إلى اليقين(، ويحركه أيضا الخطأ والصواب والتطور والاختلاف في وجهات النظر وهو يحمل تاريخا وفلسفة وإيديولوجيا. يستطيع الإنسان أن يجدد ويضيف فيه بلا حدود ويعيد بناء أسسه ويفنّد نظرياته القاصرة أو غير العلمية.
- أما التفكير الديني فهو آت من "السماء"، فهو سماوي وإلهي و غيبي، وهو صواب لا يحتمل الخطأ، ويقين يقود حتما إلى مزيد من اليقين، وهو ثابت في نصه متحول في تفسيره. يستطيع الفرد أن يجتهد داخل دائرة صدقه دون أن يمس ثوابته.
- يتصف التفكير العلمي بالشفافية والتحدي فهو يعرض نفسه متطوعا للنقض على صفحات المجلات المختصة وفي المؤتمرات العلمية لكل من استطاع إلى ذلك سبيلا, لا يحمل جنسا ولا جنسية ولا هوية ولا وطنية ولا عصبية ولا لون ولا عِرق ولا دين. يراجع نفسه بلا خجل ويتخلى في أكثر الأحيان عن الأفكار السابقة التي كان يمجدها في يوم ما إن أثبتت التجربة خطأها.
- يتعالى التفكير الديني على التفكير العلمي بنسبه غير البشري (الله مصدره وليس الإنسان)، و يقينه المطلق وعدم التزامه بالزمان والمكان (صالح لكل زمان ومكان)، وعصبيته للمؤمنين به وتكفيره للمكذبين به من غير المؤمنين، وإقصائه للمخالفين له حتى لو كانوا متدينين (الكفر ليس الإلحاد، المسلم كافر بالمسيحية واليهودية ولا يؤمن إلا بالإسلام دينا غير محرّف على الأرض أما المسيحي فهو كافر بالإسلام. الملحد لا يؤمن بكل الأديان السماوية ولا يؤمن بوجود إله أصلا).
- يقبل بالتفكير العلمي كل العالَم، ويؤمن بالتفكير الديني بعض العالَم. يعرض الأول نفسه على الدحض والتعديل ويطالب الثاني بالتسليم والتقديس دون جدل.
خطان متوازيان ولو حدث أن تواجدا في شخص واحد فهو ثنائي التفكير، ولا ضرر في ذلك عند عظماء العلماء المتدينين مثل الفيلسوف المسلم الكاتب والطبيب "ابن سينا" (980-1037) والمعلم الثاني بعد أرسطو الفيلسوف المسلم "الفارابي" (872 - 950) والراهب المسيحي عالم النباتات والأب المؤسس لعلم الوراثة "مندال" (1822-1884).
أما الضرر الجسيم - حسب رأيي - فيكمن في الخلط بينهما، وهذا وارد في عقول بعض المتدينين حين يستشهدون بالعلم لتقوية إيمانهم ولو عكسوا لأصابوا، وكأن العلم في أذهانهم أعظم شأنا من الإيمان، أما بعض المتعصبين من العلمانيين (بفتح العين وليس بكسرها لأن المفهوم مشتق من كلمة العالَم و ليس من كلمة العلم كما يعتقد الكثيرون. العلمانيون بفتح العين هم الذين يؤمنون بهذا العالم الأرضي ويثقون في الإنسان وقدرته على صنع مصيره بنفسه)، فهم يتنافسون في محاربة المقدس وتكذيب الدين بالعلم وهذه تجارة خاسرة لأن الإيمان إحساس ذاتي لا يخضع للقياس والتجارب العلمية.
خلاصة القول حسب اجتهادي المتواضع: للعلم منهج, من مشي فيه واحترم قواعده, حقق المعجزات، وللدين باب من دخل فيه وصدّق معجزاته وَجَدَ فيه راحة باله.
هذان النمطان من التفكير يستطيعان التعايش إذا احترم كل واحد منهما الآخر، لأن غاياتهما السامية تتمثل في تحقيق القيم الإنسانية النبيلة على الأرض, من عدالة وتضامن وصدق وإخلاص وسلم, ومقاومة القيم الهدامة - السائدة منذ ظهور الإنسان على الأرض - من ظلم وجشع وكذب وخيانة وحرب.
العلم "عمومي مشترك" والدين "ذاتي واجتماعي في نفس الوقت". أنت حر في دينك تمارسه كيفما يشاء ربك وتشاء أنت في علاقة عمودية، ولن تأتي فيه بجديد مهما علا شأنك. أما العلم فتمارسه كيفما يشاء اتفاق العلماء وتشاء أنت في علاقة أفقية، لذلك تستطيع أن تبدع في مجالك وتثبت صحة فرضياتك فتُجازَى على قدر إبداعاتك أو تُكذّب فرضياتك فيستفيد الآخرون من فشلك ومن نجاحك.
الرسالات الدينية موجهة للبشرية جمعاء فهي ليست حكرا على المتدينين أما العالَم الإنساني المادي المحسوس فهو مِلك للعلمانيين ولغيرهم. من المفروض أن يكون العَلماني "متدينا محتملا" بالنسبة للمتدين المعتدل والمتسامح، ويكون المتدين "عَلمانيا محتملا" بالنسبة للعلماني المتفتح والمتفائل.
الإمضاء: "أنا أكتب -لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع- بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى و"على كل مقال سيّئ نردّ بمقال جيّد لا بالعنف اللفظي أو المادي أو الرمزي".