قد لا ينتبه النّاس إلى يوم هو عند جزء كبير من التونسيين ذو أهميّة بالغة!... يوم الجيش التونسي؛ أو يوم عيده. وقد تميّز هذه السنة بمرور ستين سنة كاملة على تأسيسه... إنّه يوم الرّابع والعشرين (24) من يونيو / جوان من كلّ سنة... إنّه اليوم الذي اتّفق على إحيائه عيدا للجيش رغم مخالفته تاريخ تأسيسه الذي كان في الثلاثين من نفس الشهر... وفي الصفحات الاجتماعيّة إشارات إلى هذا اليوم ومقالات عنه!... وقد استوقفني مقال زميلي الأسبق المختار بن نصر، فحرّضني على الكتابة، لولا دواعي جعلتني أتردّد كثيرا!... فقد لا أكتب بنفس الحبر الذي كتب به مختار... وقد لا يُسمع لكلماتي كما تسمع كلمات مختار!... فمختار حديث عهد بالمؤسّسة وقد خرج منها برتبة عميد، ناطق باسم وزارة الدّفاع الوطني... وأنا (عضويّا) قديم عهد بالمؤسّسة وقد خرجت منها "فاسدا" برتبة نقيب!... تردُّدٌ خفّفه حرصي على مصلحة بلدي - وإن خفِي ذلك على بعض "الوطنيين" - ثمّ أبطلته فقرة قديمة راجعة إلى يوم الاحتفال بعيد جيشنا سنة 2012، تعليقا على نصّ بعنوان (اعتذار ...الدولة التونسية لضحايا براكة الساحل)؛ قلت فيها؛ وقد كان الكلام في تلك الأيّام يخرج غير مكترث لردود الفعل، فقد كان الجميع مؤقّتا: [هنيئا لأهلنا العسكريين المظلومين في ما عُرف بقضيّة "برّاكة الساحل"... ولكن أين الحديث عن المجموعة الأمنيّة 87، مجموعة (الإنقاذ الوطني) التي منها الشهيد محمّد المنصوري رحمه الله؛ وأين حقوقها!... هل أكلت المجموعة يوم تعامل أعضاؤها مع من تعاملوا بثقة! أم أنّها أكلت يوم قلّ ضجيجها وكثر استماعها للغة العقل!... لا خير في حكومة ولا في رئيس دولة لا يستجيب للمطالب إلّا تحت الضغوط!!! ولا خير فيّ وفي العسكريين التابعين للمجموعة الأمنيّة 87 إن لم نكن شوكة ثابتة صلبة باستمرار في حلق من لا يسمعون أصواتنا حتّي نزيل عنهم الصمم الذي ألمّ بهم!!!... وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله]... سأتكلّم إذًا سائلا الله أن يوفّر لي حسن السماع والفهم والقبول، مؤكّدا أنّي كغيري أحبّ بلدي وأحبّها خيرا من غيري، وأنّي [أقدّم نفسي غير متكبّر؛ كسرا لجرأة "وطنيّة" قد تتطاول عليّ] كنت الأوّل سنة التخرّج بالمدرسة التطبيقيّة لمختلف الأسلحة سنة 1980، وأنّي عملت بأهمّ مناطق بلادنا (الصحراء) خمس سنوات كاملة، وأنّي عملت بها متطوّعا، وأنّي كنت في رأس قائمة الترقية لرتبة نقيب في جانفي 1985، وأنّي حزت على رضاء رؤسائي وشهائد تشجيعهم واعترافهم لي بالكفاءة وعلى حبّ مرؤوسيّ أو الكثير منهم، فأقول: لا يشكّ أحد في رسالة جيشنا الوطني الباسل ولا يشكّك فيها إلّا جاهل، ولكنّ ذلك لم يمنع من حصول هنات يجدر بنا الانكباب عليها كي لا تكون احتفالاتنا مجرّد باقات ورد وقبلات منافقة ترهق ميزانيّة الوزارة!... فمؤسّستنا كانت على مرّ فترة الاستقلال مُهانة بجهل النّاس لها وبكره المسؤول!... فبورقيبة مثلا كان لا يحبّ ضبّاط الجيش السامين وكان يتحوّط لهم ويحسب لهم ألف حساب لولا شيخوخة مذهبة للبّ أوقعته في يد أشرّهم على لإطلاق!... وابن علي كان لا يحبّ الجيش ولا يطمئنّ إليه بسبب شعوره بالنّقص فهو لم يقد - كما سمعنا من كبارنا ضبّاط الصفّ - مجموعة قتاليّة أبدا، وبسبب عدم شعوره بالانتماء الفعلي، فقد كان حسب ما يحكي تاريخه جاسوسا مزروعا فيه وعليه... وأمّا الوزراء الذين مرّوا بساحة المؤسّسة فقد كانوا منفّذين لإرادة "الكبير" وقد كانوا يستغلّون تلك الإرادة حتّى ليخطب الواحد منهم في نساء الضبّاط بقلّة حياء استثنائيّة: "من شعرت بظلم زوجها فلتأتني مباشرة تشكو لي مظلمتها"!... وأمّا الأمن التونسي فقد كان يرى الجيش عدوّه الأوّل وكان لا يقصّر أبدا في التنكيل بأفراده كلّما وجدوا السبيل إلى ذلك!... ثمّ إنّ الجيش مع صنائعه البيض التي لعلّ أبرزها عدم انخراطه في الثورة المضادّة، بالإضافة إلى وقفاته المجيدة في أحداث 78 وأحداث قفصة سنة 80 وأحداث الخبر نهاية 83 بداية 84، لم يسلم من الوقوع في "الإثم" حتّى لكاد المواطن في الحوض المنجمي سنة 2008، لا يفرّق بينه وبين عناصر الأمن التي كانوا يسمّونها يومئذ كرها ".... الحاكم"!... ولو دقّقنا وصدَقنا لوجدنا أنّ "الإثم" الذي وقع فيه جيشنا مفهوم الدواعي والدّوافع، فقد عملت الماكينة القياديّة التي حُبّب إليها كره مؤسّسة الجيش على إفراغه من كلّ صاحب مروءة؛ لولا ستر الله تعالى وضرورة تمضية قدره... فقد حصدت قضيّة المجموعة الأمنيّة وقضيّة برّاكة الساحل خير عناصر الجيش الوطني؛ أقرّ النّاس بذلك أم امتنعوا... لقد حصدت تلكم القضايا أغلب المتفوّقين معرفيّا وأخلاقيا وأحسنهم سمتا وقدرة قياديّة وأكثرهم إخلاصا للمؤسّسة وللبلاد وأكثرهم حبّا لهما... ثمّ ما لبثت الوسائل المبيدة نشطة حتّى كانت حادثة الحوّامة التي ذهبت بخيرة قادة تلكم الفترة وغيرها من الوسائل الرّهابيّة التي استعملها لنّظام الحاكم والتي جعلت بعض الكرام يتخيّرون لأنفسهم الابتعاد عن المؤسّسة!... ثمّ جاءت الثورة، فكانت ريح الحريّة مساعدة على مواصلة تطهير مؤسّستنا من خيرة من فيها، ولقد رجوت أن يتوقّف النّاس عند أغلب الاحتفالات بتشييع شهدائنا الأبرار ليلحظ - وأغلب قادة جيشنا السامين أهل صخب وطرب ومعاقرة - قرآنا يُتلى وصلاة تُؤدّى وخمارا به صاحبته تتوشّح وتكبيرا يعطّر الأجواء، ليطرح السؤال الذي لا يجرؤ على طرحه "الوطنيون" لمَ ينشط "الإرهاب" في صفوف هؤلاء الصالحين من جنودنا وضبّاط صفّنا وضبّاطنا!... نحتفل بستّينيّة جيشنا الأبيّ ونهنّئ كلّ مخلص فيه، غير أنّا نشدّد على ضرورة إصلاحه بوجود المصلحين فيه ومن حوله ومن فوقه!... غير أنّا نؤكّد على إرجاع المظالم ونحمّل الدولة ولا سيّما الأحزاب التي تسمّي نفسها كبرى، العاملة فيها، مسؤولية تسوية حالات الأحياء منّا التي تزداد سوءً كلّما تقدّمت السنّ بنا، وقبل ذلك تسويّة وضعيات عائلات الشهداء والمعوّقين... غير أنّا ندعو إلى مراجعات العلاقة بين مؤسّستنا وبقيّة المؤسّسات والمجتمع نفسه، فلا يتّخذها البعض عدوّة ولا يتّخذها الآخر بجهله نوعا من الطفيليات يعيش على حسابه!... بدون النّظر إلى هذه الأمور وغيرها كثير؛ يظلّ الاحتفال بتأسيس الجيش أو بمرور ستّين سنة على تأسيسه ضربا من إهدار المال العام، وتظلّ الكلمات ضربا من اللباقة السلبيّة الخادمة للذّات على حساب الوطن الحبيب... وبالأمس القريب احتفل العرب بستّينية النّكبة!... والله من وراء القصد...
عبدالحميد العدّاسي، ضابط من المجموعة الأمنيّة 1987