بالفيديو: قيس سعيّد: هم رفضوا الانتخابات التشريعية واليوم يتهافتون على الرئاسية    القمودي: مؤامرة تُحاك ضدّ تونس    نشاط للهيئة العليا لوزارة أملاك الدّولة    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    روسيا تشهد اليوم تنصيب بوتين رئيسا.. وأميركا تتغيب عن الحضور    أولا وأخيرا .. دود الأرض    الصحة العالمية تحذر من شن عملية عسكرية في رفح    قراصنة يخترقون وزارة دفاع بريطانيا ويصلون إلى رواتب العسكريين    بالفيديو: قيس سعيد: تم اليوم إعادة حوالي 400 مهاجر غير نظامي    سعيد.. سيحال على العدالة كل من تم تعيينه لمحاربة الفساد فانخرط في شبكاته (فيديو)    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    النادي الصفاقسي يوضح تفاصيل احترازه ضد الترجي    صادرات قطاع القوارص ترتفع بنسبة 15,4 بالمائة    معبر راس جدير والهجرة غير النظامية أبرز محاور لقاء قيس سعيد بوزير الداخلية الليبي    جامعة كرة القدم تحدد موعد جلستها العامة العادية    ياسمين الحمامات.. القبض على تونسي وامرأة اجنبية بحوزتهما كمية من المخدرات    هل يساهم تراجع التضخم في انخفاض الأسعار؟.. خبير اقتصادي يوضّح    طقس الليلة: مغيم مع هبوب رياح قوية في كافة مجالاتنا البحرية    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    عاجل/ تفاصيل مقترح وقت اطلاق النار الذي وافقت عليه حماس    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    عاجل : القاء القبض على السوداني بطل الكونغ فو    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    تعرّض أعوانها لإعتداء من طرف ''الأفارقة'': إدارة الحرس الوطني تُوضّح    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    صادم: قاصرتان تستدرجان سائق سيارة "تاكسي" وتسلبانه تحت التهديد..    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اجتماع أمني تونسي ليبي بمعبر راس جدير    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وريقات في الهواء أو مذكرات عابر بمهرجان «كان»
بقلم: الطاهر الشريعة
نشر في الشعب يوم 30 - 10 - 2010

إنّ هذا المقال لم يكتب أصلا لينشر ولا ينتمي في الحقيقة إلى نوع عادي من الأدب الصحافي أو النقدي ولذلك تراه غريب الشكل مهلهل التركيب يجاذبك الحديث في صعيدين مختلفين تماما...
إنّما هو فقرات مقتطعة من مراسلة خاصة بين الكاتب وزوجته فقرات لنقد أفلام شاهدها أو تسجيل ملاحظات حول أصحاب تلك الأفلام والممثلين فيها وفقرات أخرى هي الواردة في النص بالأحرف السميكة ذات طابع شخصي عاطفي ما كنّا لنبقيها لولا ما رأينا فيها من اضاءة للفقرات الأولى واشعاع عليها بنواحي من شخصية الكاتب لهجتها والانسياق مع جوّها الخاص.
9 ماي 1963 (الدقيقة 30 بعد منتصف الليل)
(هل كان ما كان بسبب مشاهدتي فيلم (»الكسوف« كما ظننت أنت؟.. لعلّ الفيلم لم (يكن أيضا سوى الحافز لهواجسي وقلقي... ولأشواق.
(كامنة في إلى الوصل والتجاوب والانسجام..)
على ايّة حال ما شعرت الاّ نادرا بالحقيقة الدفينة العميقة لناس هم مثلي ومثلك يعبّر عنها وتبلغ بمثل ذلك التوفيق العبقري وما صادفني ان أحسست بالحياة الداخلية لغيري مثل ذلك الاحساس الوجداني والذهني الكامل وما عشت إلاّ قليلا في السينما مثل تلك التجربة.
(حفيف تلك الأغصان وخفقان النسيم بين طوايا (الشجر.. أتذكرين؟)
... ثمّ كان هذا المساء على الساعة التاسعة والنصف افتتاح مهرجان السينما بمدينة »كان« بعرض اخر افلام هيتشكوك »الطيور« عرضا خارجا عن المسابقة.
إنّ هذه »الطيور« قمّة كان في الظن ان لا ترتقي! قمّة من الركاكة وسماجة الذوق والافتعال الذي لا يحتمل! ان ما يعسر تخيّله حقّا هو ما أكن لذلك الشيخ الخرف من ضحك بالناس وتطاول عليهم... ما استطاعه من ركل لكل لياقة وطرح لكل احترام للآخرين! لقد ركنت إلى النوم منذ الدقائق الأولى ونمت دفاعا وتخلصا مدّة نصف الفيلم على الأقل.
(اطمئني! لقد رأيت مع ذلك هذا النصف الأول
(من »الطيور« ومازلت أحاول تهدئة أعصابي
(المرهقة ممّا رأيت!
وعندما أطلق الشيخ المختبل العنان للمخ الإلكتروني يطقطق ويطرشق ويصفر اعلانا باخر الدنيا في هجوم الطيور لم يكن لي بد من اليقظة والجلاد!
وكان منى احتمال وصبر ما كنت بذلت مثلهما أمام الشاشة وكانت منّي سماحة أيضا ولا سماحة الأولياء اذ نفذ غمغمة وتململا كل ما علمتني السنون من لعنات قبل أن ينفذ جراب »هيتشكوك« من »الهيستيريا الوقحة«'.
انّ هذا المهرجان السادس عشر يفتتح بألعن حماقة!
(ان فندق »قراى دالبيون« له حديقة تحفة بها
كراس من خشب وطاولات صغيرة تذكرني بأثاث
فندق اللوطوس بجربة... من بعض مقاعد هذه
(الحديقة سوف اكتب لك كلّ يوم ملاحظاتي عن
(المهرجان.
10 ماي 1963 (الساعة الحاديثة عشرة)
(اشعر براحة كبيرة وحياد غريب ازاء الناس
(والأحداث والأشياء... بي استعداد سواء لخير
(وشر ما قد يكون...
ويعود بي الخاطر إلى تلك الخدعة التي لا توصف لذلك العجوز الماجن »هيتش« إلى فيلم »الطيور« واحسني خاليا حتى من غضبي على الفعلة وغيظي من مقترفها. ثمّ ما عليّ اذ كان عُتْهُ فنان كم كنت معجبا به قديما تشكل بهذا الشكل المقيت من الاستخفاف بالآخرين؟ لا سامحه اللّه ولا عفا عمّن سامحه! انّه مجرب عارف للناس ولمآربه معا وهو واثق ثقة المغامر المكرس ان ذوي الاثنين من أمثاله هم الغمر الكثر تحت كلّ سماء وانّه لا حوب على من يسومهم اي هبال! وهو يعلم انّ من له اسمه وثروته وطول يده لا خوف عليه وان تجاوز كلّ الحدود! وانّي لأتساءل في النهاية: ترى ألاَ تكون هذه الوقاحة في الضحك على الناس ومغالطتهم ضربا من الصدق؟ صدق الدب في القصّة المعروفة ولكنّه صدق على كل حال (وأي صدق غيره ينتظر من »هيتش« اليوم؟ فلسان حاله يصرخ: »أيّتها الجماهير الحمقاء من المشاة انّكم بالضبط ما أعتقد، وسينماؤكم وفنونكم ومهارجكم وخزعبلاتكم كلّها مثلكم وعلى قدركم تماما! هاكم هي ملكزة ملخبطة القموها وتمرغوا في لعابكم وارتعشوا وهرجوا ولا تنسوا ان تصفقوا لي من فوق الحساب فأنا »هيتشكوك«!« نعم لم لا يكون هذا التصرّف صدقا؟
11 ماي 1963 (العاشرة والنصف صباحا)
(»كان« ومهرجانها؟ هما هما... شمسا ومناخا
(واهلا (تلك الحسان المسرولات بل تلك
(السراويل الرشيقة المحشوة حسانا.. أؤكد
(لك ان الشان على أقصى طرف من خلاف
»برلين ومهرجانها المنافق!).
من ناحية البرنامج يتواصل نفس الحمام »الأيكوسي« أو نفس »الشكشوكة« ان شئت! فبعد تلك الصفعة إلى الجمهور من السيد »هيتشكوك« حظينا بفترة من السرور والراحة السليمة المنعشة بفترة متعة ومرح على الطريقة الايطالية وذلك بمشاهدة فيلم »سرير العرس« للمخرج »فيريري« أنّّه فيلم لا يحكى وقد أبدع تمثيله »اوقو طونليزي« الذي كان مدهشا بواقعيته حتى في مواقف الهوس الصرف وإلى جانبه »ماينا فلادي« كما لم أرها قط على الشاشة جمالا وواقعية أيضا وتأثيرا.
(أنا وجدت هذه الرسالة من أحسن ما جاء في الفيلم ورأيتها ملاحظة دقيقة مؤثرة... وأنت، (ما رأيك؟
17 ماي 1963 (الواحدة والنصف صباحا بحديقة الفندق)
(انّ هذه الليلة ليلة قلق. لعلّ شيئا منه (كان بعد يساورني البارحة وأنا احدثك عن (فيلم »الخطيبين« لقد نمت من السادسة إلى (التاسعة مساء. ثمّ دخل الفارسي عائدا من (مشاهدة فيلم في »المهرجان الموازي« عنوانه (»الجلود الحيّة« (Pelle viva). (فيلم ايطالي رائد قال عنه أنّه في مستوى »سارق الدراجات« (Le voleur de bicyclette) لست نادما على التفريط في مشاهدته على كل (حال. لقد كنت قاتم المزاج وكانت غيوم تملؤني ، (ما كان لي معها ان افتتح لمآسي الكادحين من (عمّال المصانع »الميلانية« الذين يحدث عنهم (الفيلم.
(دخل الفارسي اذن وايقظني. وتعشينا معا في (مطعم الفندق ثمّ عرض عليّ التنزّه قليلا في (المدينة وهكذا عرفت الليلة فقط ناحية (من مدينة »كان« وأرصفة مينائها. رأيت لأوّل (مرّة وعن كثب سفن أصحاب الملايين التي لا (يعرفها الناس الاّ في الأفلام. بياض ناصع (وخشب فيس ومجالس عريضة النوافذ (وميادين للرقص وسطوح للتحمم بالشمس (رصفت فوقها الكراسي الطويلة أو المناضد (والافرشة المطاطية الوثيرة... مليارات رأسية (جنبا لجنب تتراقص في لطف بينما تلاطفها (موجات خافتة من بحر سجين تحت أضواء (الرصيف القائمة على سوقها الحديدية الطويلة (كأنّّها الحراس الواجمون ورأيت أيضا في (ناحية متوازية من الشاطئ جماعة من الفتيات (والملاحين الأمريكان يرقصون على أنغام مذياع صغير طريح على الرمل.. ومرّرنا في منعرج من (منعرجات المرفا قريبا من »الكزينو« البلدي فرأينا (فريقا من السينمائيين منهمكا في النقاط مشهد (ليلي.
(كان بعض الشرطة عن بعد من ميدان التصوير (يحولون سير الطوارئ من سيارة ومارة قلة.. (توقفنا ردحة مهتمين ثمّ واصلنا سيرنا وقد طالت (علينا استعدادات الجماعة ومارأينا بينهم ممثلين (ممّن نعرف لتغذية اهتمامنا... وبعيدا من هناك (بعض الأزواج المنزوين في عناق وهمس وكأنّّهم (غابوا عن الدنيا والناس غياب الأضواء والصخب (عن تلك البقاع.. كان هدوء وكان سكون كأنّه (السلام.. وحينا جلسنا على العشب وانطنا (الظهر إلى نخلة حالمة. انّ لمدينة »كان« اسمطة (من النخيل الجميل وآداما من العشب الطف من (حرير.. أشجار لم تستطع عناية الناس بها ان (تشوهها فهي تستعيد اذا ما جن الليل سحرها (وجمالها كلّّه وتتباعث من الأرض وان بين (الخمائل أضواء تخالط ألوان الزهور في جناس (بديع.. نعم كان الجو سكونا وجمالا هذه الليلة وأوّل هذه الأفلام الثلاثة عنوانه.
(علينا وحولنا فما ان (ترى انسا (لدينا ولا جنا.
(يسايرنا إلاّ سماء نجومها معلقة فيها الى حيث (وجهنا وأحسست انّي أنعم (بذلك الهدوء وآنس ذلك الجمال الساكن وتداخلني لذة ما أرى دون (نظر وما يرف في سمعي في مثل الهمس... ولكن (ذلك كلّه لم يتملكني تماما.. ولأقشع ما كان (يملؤني من غيوم...
وأخيرا أراد الأوبة صاحبي فتراجعنا الخطى (نحو الفندق. وقد طلع الى غرفته منذ حين (وبقيت أنا أجرّر بقيّة من وقتي في هذه الحديقة (النائمة.. بعض الوقت.. ريثما أحرق ما تبقى (لي من سجائر.. ريثما أحدث قليلا عن قلقي (الذي لا أعرف سببه وقد تعرفين.. ريثما (يعاودني النوم أو استحضر بعض العزم فاقف (وآوى إلى الفراش واراوده..
(نعم.. ان بي الليلة قلقا يشبه قلقك (أحيانا عندما تبعدين.. (لا أشعر بأي ألم.. فهذه الليلة مريحة كأحلام الطفولة وان (امتناع النوم عنّي ليزيد في دقّة شعوري بالراحة (التي يوحي بها هذا السكون حولي وهذه (الأنوار للمدينة الناعسة.. ولكنّي أفكّر فيك... (وان أفكاري التائهة القاسية أحيانا ليست (كلّها من جنس هذا السكون..
18 ماي 1963 (العاشرة صباحا)
(الغواني في »كان؟ طبعا لفتن نظري وأكثر (من نظري أحيانا. تسأليني كيف هنّ؟
(خذي أي عدد من مجلّة »سيني ريفو« أو (مجلة »سيني موند« لتتصورّي!.. أنهنّ (حسان ومن كلّ البلدان وشهيات كالإثم نفسه.. (يسيرات في الظاهر سخيات كأنهنّ ما (عرفن عكاسا ولا مناعا.. يسكن ويقتتن (ويكتسين أو/لا يكتسين)؟ ويعبثن ويمرحن (وقحات مقهقهات في بحر »كان« الأزرق (الجميل.. وكل ذلك غالبا »بسحر أجسامهنّ« (كما يقال بعرق الجبين في كسب الناس (أرزاقهم أعني بنفس البساطة ونفس الأمانة (والجد في الظاهرة! يتنقلن من عائل إلى آخر (كما يبدلن راقصا بآخر في سهرة عادية. (ذلك أمر هنا لا يكاد يلتفت إليه أحد عدا (بعض الغرباء مثلي وحتى هؤلاء لا يطول (إلتفاتهم أكثر من يوم أو يومين.. الحياة في (»كأنّ أيّام المهرجان السينمائي تتسّم بطبيعة (في الشذوذ تتلاشى معها أقصى طاقات (الاستغراب بسرعة ذوبان الثلج في صيفنا«. (وان »مهرجان برلين« ليبدو لي افرد من القطب (تزمتا ونفاقا ازاء هذا المجتمع الدافئ المتفتّح (في وقاحة تشبه البراءة المطلقة!
(غواني »كان«.. طبعا.. افهم معنى (ابتسامتك! ولكن صدقيني ان الشهوة التي (يثرنها وهن يثرن فعلا! هي على قدرهنّ (تماما: أي أنّها ليست خطر ولا أهم وخصوصا (ليست اخلف اثرا من ميلك الى اقحوانة (تقطفينها بطرف البنان من بين الأعشاب الخضر (وانت تتنزهين أو من حركة أسنانك تقظم (العنبة وشفتيك تمتص رحيقها في لذّة ولهو (معا.. نعم هي شهوة من جنس شراهة الأطفال (للذيذ الطعام ومثلها في سرعة الانبثاق (وسرعة الإنطفاء معا أو هي من جنس النكتة (اللذيذة تعبّر في حديث الندامى بين كأسين (فتستطيبها النفوس ويمرح لها الجمع دون اهتمام (كبير ودون قصد بتاتا...
(ثمّ ماذا في الأمر حقيقة؟.. إنّما هو قدّ (أو نهد يمرّ أمام البصر فيخطر بالبال ضمّ أو (هي شفاه تستهوي القبل أو أعين تضحك (ساهية في غزلها عن خبثها نفسه.. خذي (مثلا ما أراه في هذه اللحظة بالذات.. هنالك (أمامي بإحدى شرفات الطابق الثاني من (الفندق.. جسد ناصع البياض عليه »بكيني« (أحمر يغازل الشمس.. بصري العابر بين (خط جملة وأخرى قد استوقفه هذا الجسد (وهي وقفة مستعذبة ولا شك.. وقد يتبعها (خاطر خفيف عابر كتخيّلي الآن سريرا وراء (تلك الأرداف التي لا أراها وبابا مغلقا من (وراء ذلك السرير وسردابا ومطلعا يؤديان إلى (ذلك الباب. ولكنّني في نفس الوقت أكتب (وأواصل أفكاري عن غواني »كان«.. أؤكد (لك: ليس لذلك الجسد المستسلم هناك (لأشعة الشمس من وجود عندي أكثر من هذا (العصفور أنّي أراه فعلا على غصن البرتقالة (التي تظلّني).. قلت ماذا في الأمر؟ قد أو (صدر أو شفاه أو عيون.. أشياء لطيفة (مستحبة.. لكن أهي مغرية؟.. نعم ولا!.. (هي مغرية لكن اغراءها خاطف خفيف ينقصه (النفاذ.. ان التاثر الجدّي العميق هو الذي (ينقص..
19 ماي 1963 (منتصف الليل)
انّ اليوم كان محمّلا مفعما مكتضا إذ شاهدت فيه فيلما قصيرا وثلاثة أفلام طويلة ومراجعة نظّمتها »خزينة الأفلام الفرنسية« دام عرضها ثلاث ساعات ورأيت فيها منتخبات من أفلام »جاك فايدار« و»روني كلار« و»مارسال كارني« وغيرهم.. فاعترفي مادام اليوم يوم أحد! انّ المهرجان استجمام مريح!...
انّ البرنامج في الجملة متن وازداد قيمة يوما بعد يوم.. فقد شاهدنا بعد أفلاما هي تحف عبقريّة وأفلاما أخرى مستواها معلن عنها للأيّام القريبة المقبلة (مثل فيلم الفهد) للمخرج الايطالي »لوكينو فسكونتي« عن رواية الكاتب »دي لمبدوزا« الشهيرة)...
سوف احدثك عن كلّ ذلك في فرصة أخرى عندما أشعر بنفسي أميل إلى الحديث.. بقلم اخف...
20 ماي 1963 (الخامسة والنصف ظهرا)
أكتب إليك الآن وأنا في بهو الصحافة من قصر المهرجان وهو حجرة مستطيلة كادت تكون سردابا لولا أنّ أحد جانبيها مكوّن كلّه من استار عظيمة من الزجاج الشفاف ولو لا أنّ ضوء الشمس وزرقة البحر الذي يشرف عليه البهو يحولانه إلى شرفه فسيحة الأرجاء. أمّا الجانب المقابل فقد صفقت ازاءه مكاتب صغيرة عليها راقنات انّي اكتب لك على أحد هذه المكاتب بينما أسيادنا الصحافيون يتكتكون على الراقنات بشتى لغات البشر لكسب استجمامهم في خليج الزهور! وفي الوسط ممشى لا يتسّع لأكثر من أربعة مارّة... على اليسار إلى الجانب الزجاجي نضدت مائدة طويلة وغطيت بأزار أبيض وعليها عدد كبير من الصحن الصغيرة فيها زيتون مملح ومن الأباريق المملوءة ثلجا... كلّ ذلك استعدادا لحفل الشراب الذي سيتبع الندوة الصحافية بعد حين. في ناحية من البهو بدا تجمع الصحافيين شيئا فشيئا، فهم بعد كتل وزمر يتجاذبون أطراف الحديث وأسلحتهم مشهورة من أقلام وكناشات ومصورات وآلات سينمائية ومسجلات للصوت متدلية إلى الجانب.. أنا والقوم في انتظار أعظم فرقة من كبار الشاشة ونجومها وهي فرقة فيلم »الفهد« (le guépard) أي المخرج »فيسكونتي« الممثلون لأدوار البطولة في هذا الفيلم العملاق.. بعد حين اذن سيدخل الى هذا البهو »بورت لنكاستر« (دور الأمير »صلينا« في الفيلم) و»آلان دولون« (دور طانكراد) و»باولو صطوبا« (دور شيخ المدينة) و»قوفريد ولومباردي« الشاب الثري المغامر الذي انتج الفيلم (ملياران من الليرات الايطالية!) وستدخل بينهم طبعا »كلوديانا القومية كانت«! (نعم ينبغي الاحتراز في التذكير بان كلوديا كاردينال تونسية الأصل.. اذ يشاع بين العارفين هنا بلهجة المداعبة طبعا لكن يشاع ان جيراننا الايطاليين تحمر عيونهم غيرة عندما يذكر ذلك!.
فلنكن عظاما كراما أسخياء كما قال الآخر ولنقل فقط »كلوديانا القومية كانت« حتى لا نثقل على جارتنا ايطاليا!)...
انّي متلهف لسماع »فيسكونتي« يجيب على أسئلة الصحافيين (وأسئلتي أنا أيضا اذا أسعفني الإلهام وتناساني خجلي الركيك!) وانّي في شوق كذلك إلى رؤية ذلك العملاق الوديع »بورت لانكاستار« الذي أذكر عنه لقاء وحوارا كان له معنا سنة 1957 حول الفيلم »ملح الأرض« (le sel de la terre) الذي انتجه سنتها رغم معارضة الرجعيين الأمريكيين وأصحاب الأموال، وأذكر تصريحاته الجريئة النبيلة.
»نعم! ولكن ما علاقة هذا بما نحن فيه يا سيدتي؟«.
حول ظروف انجاز الفيلم في جوّ مكهرب بين تضامن نقابات عمّال المناجم من المكسيكيين وحماسهم من جهة وغضب شركة المناجم وسلطات ولاية »نيومكسيك« من جهة ثانية وكذلك اراءه حول شتى أصناف الرقابة والمضايقات التي تعتري المجتمع الأمريكي وتختنق بها انطلاقات التّعبير ويكبت من أجلها الكثير من طموح ذوي النوايا الطيبة... لأجل ذلك ترينني جئت مبكّرا لأحضر هذه الندوة الصحافية.
أمّا عن الفيلم نفسه الذي شاهدته هذا الصباح في حصّة الحادية عشرة فلا أراني أستطيع أن أقول عنه سوى شيء واحد: انّه عظيم! نعم. العظمة هي أقوى شعور يتملك الناظر عند مشاهدة »الفهد« انّ الفيلم شيّد على هيئة لوحة جليلة بعثت للحياة في ارجائها الشاسعة فترة من التاريخ ومجتمع كامل بأمراضه ومناقضاته ولكن بجلاله وأمجاده أيضا وبأبهته وأهوائه، هي لوحة خارقة الروعة تحسين اذا تتأملينها بقطر كامل يختلج كالكيان الحي الجبّار صقلية ومناخاتها الجرداء، المغبرة الكثيرة الحصى وسهولها الشاسعة القاحلة التي تضج فيها الصراصير وتسيطر عليها شمس قاسية كأنّها حاضرة ليل نهار في بهجة مواكب الآلهة.. ان »فيسكونتي« قد توفق قطعا في هذا الفيلم إلى أروع اخراج سينمائي منذ ادار الكاميرا لأوّل مرّة في حياته وان »الفهد« لفيلم عظيم حقّا. أمّا مشهد الرقص الذي كانت سبقت شهرته عرض الفيلم وكثر الحديث عنه وعن امتداده الخارق للعادة (الحقيقة انّه يدوم اقل من الساعة على الشاشة) فأنّي كنت انتظره باحتراز يشبه الخوف الشديد (وانت تعلمين نفرتي من الرقص ومشاهده عموما) واذا بي أخرج من مشاهدته وكلّي اعجاب وتقدير ودهشة معا لكوني لم أسأم ولم أشعر لحظة واحدة بطول من أي نوع... والحال أنّه مشهد يدوم عشرات الدقائق فعلا، انّي أعتقد أنّه لم يسبق في تاريخ السينما كلّّها ان بلغ أحد مثل هذا التوفيق بعينه وانّه لمشهد يمتنع وصفه وسوف يبقى ولاشك من القطع الممتازة التي يتمثّل بها بين الأجيال المقبلة من المخرجين والمشاهدين والدارسين على السواء بقدر ما بقيت »معركة« فيلم »الكسندر نفسكي« خالدة تذكر كلّما ذكر الاعجاز في السينما.
(انّي أتوقّف عن الكتابة هنا فالناس بدأوا (يتزاحمون فجأة، ويجتهدون في امتلاك أماكنهم، (الندوة ستكون حافلة شيّقة وسوف أعود (فأروي لك ما جرى فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.