في مثل هذا اليوم قبل 22 سنة أي يوم 22 أوت 1994 وقد كان يوم إثنين كذلك رزقنا الله ابنتي الكبرى آلاء. لست كما سبق وذكرت في مناسبات سابقة ممن يحتفل "بعيد" ميلاد لنفسه أو لزوجته أو لأبنائه بقطع النظر عن الموقف من ذلك، وما يصحبه عادة من جدل. ولكن هذه المناسبة حين تأتي تحمل معها ذكريات مرحلة تاريخية مهمة من حياتي وحياة زوجتي وأسرتنا الصغيرة حينها وتعطي فكرة عن حياة "المشردين" من أوطانهم. حيث كان زواجنا في الغربة بالسودان، و"تنقلت" آلاء في بطن أمها من السودان إلى ألبانيا عبر جدةوأثينا ثم عادت من ألبانيا للسودان عبر أثينا وبيروت وبقيت شهرين إضافيين في الخرطوم ومنها طارت إلى فرانكفورت 10 أيام قبل ولادتها، أي يوم 12 أوت 1994 على متن الخطوط السودانية، في الرحلة التي كان برفقتنا فيها الأخ محسن الجندوبي وزوجته الأخت رشيدة النفزي وولديهما، والأخ كمال خذر. طلبنا اللجوء في مطار فرانكفورت وبعد يومين تقريبا فرّقوا بيني وبين زوجتي حيث أخذوها من المطار للمستشفي لأنها كانت على وشك الولادة، ومن المستشفى حولوها إلى "كامب/ مخيّم" وهو مقرّ لثكنة أمريكية تعود لزمن المراقبة العسكرية على ألمانيا، تمّ تخصيصها لللاجئين في منطقة "شوالباخ"* قرب فرانكفورت حيث يُجمع اللاجئون ومن هناك يتم توزيعهم على كامل أنحاء ألمانيا. بقيت بعد زوجتي في المطار أياما معدودات حتى استكمل إجراءات طلب اللجوء ويُقبل الملف من حيث الشكل ليسمح لي بدخول ألمانيا وانتظار الرّد النهائي. ثم حولوني إلى نفس "الكامب" المذكور وهناك وجدت زوجتي بعد أن انقطعت أخبارها عني ولم أكن أعلم إن كانت وضعت حملها أم لا. يوم الجمعة 19 أوت سلمتني إدراة المخيم خريطة وعنوان طبيب نسائي وطلبوا منّي أخذ زوجتي للفحص والمراقبة وكانت تلك أول مرة أتنقل فيها على التراب الألماني بحرية، وأصاب فيها بأول صدمة عند خروجنا من "المخيم" حيث اعترضنا سائق شاحنة أشغال ورفع صوته وقام بحركات بذيئة مصدرها بالأكيد العنصرية وكره الأجانب!
عنوان العيادة بعيد نسبيا على امرأة حامل في أيامها الأخيرة ورجل غريب عن البلاد وعن ثقافة الوصول للعناوين استعانة بالخرائط... وصلنا بفضل الله وعونه أمام العيادة وكنا نعتقد أن بابها سيكون مشرعا ولكنها كانت موصدة! وقفنا أمامها ثمّ هممنا بالرجوع "خائبين" لو لا أن أمرأة جاءت بدورها للعيادة فدخلنا في "شفاعتها"! أجرينا الفحص وعدنا "للكامب" ومعنا موعد الفحص القادم مباشرة بعد عطلة نهاية الأسبوع أي يوم الإثنين ... صباحا كنا في الموعد، وحدثنا الطبيب ببعض عوارض الوضع فأعطانا تحويلا لمستشفى لا نعرف اتجاهه. عدنا طريقنا كالعادة مشيا وسلمنا ورقة التحويل لإدارة "الكامب" فطلبوا من زوجتي أن تبقى مكانها ولا تتحرك حتى تأتي سيارة الإسعاف! أخذتنا السيارة إلى مستشفى في مدينة "باد زودن"* وهي من ضواحي فرانكفورت هالنا منظر المستشفى والنظافة وحسن المعاملة والإستقبال وغرف التوليد المجهزة بما لم يسبق للعين أن ترى أو تسمع مقارنة بتونس وألبانيا والسودان! حوالي السابعة مساء حل ركب "آلاء"... بقيت معها وأمها بعض الوقت.... كنت فرحا بالمولودة وبسلامة زوجتي وفي الآن نفسه أحمل همّ عودتي وحدي "للمخيم" الذي لا أعرف اتجاهه ولا كم يبعد من هناك! كان معي بعض الماركات أوقفت تاكسي وسلمته العنوان وسلمت أمرى لله! بلغت مقصدي بمبلغ يزيد عن العشرين مارك قليلا! بقي المشكل كيف أعود لزيارة زوجتي وابنتي! ... من الغد رافقني الأخ كمال خضري، حاولنا حسب ما شُرح لنا أن نذهب بالقطار فعجزنا عن قطع التذكرة من "الآلة العجيبة" التي تُحدّد عليها وجهتك وتضع فيها المال فتعطيك التذكرة! فقررنا الذهاب على الأقدام والإستعانة بالخريطة ولكننا ارتكبنا "جرما فادحا" كنا نجهله وهو الدخول في الطريق السريعة الممنوعة منعا باتا عن الراجلين! وقد أعذرنا الله بجهلنا فسلم من الحوادث ومن العقاب وأغلب الظن أن سوّاق السيارات قد تم تنبيههم للحذر من راجلين في الطريق السريعة بين النقظة كذا وكذا وهو ما يحدث عادة وبصورة آلية في مثل هذه الحالات! ومع ذلك لم نصل إلا بعد أن سرنا طويلا وتفطرت أقدامنا ثم استعنا بتاكسي في نهاية المشوار، ولا أذكر كم كان المبلغ، ولا كيف عدنا، والراجح أننا عدنا بتاكسي! المهم أنني تمرست قليلا في الأيام اللاحقة وعرفت شيئا ما كيف أتعامل مع "آلة التذاكرالعجيبة" بعد أن ابتلعت لي أكثر من مرة ماركات ولم تسلمني التّذكرة! وقد أكون ركبت مرات دون تذكرة "امْرُسْكِي" ... ومرة أخرى يعذر الله جهلي ويسلّم! وبعد أن حصل الاعتقاد عندي أن كل قطار يأتي إلى محطة "آشبورن"* التي أركب منها يذهب إلى "باد زودن" حيث المستشفى، ركبت قطارا وجهته مدينة أخرى لا أعرف إلى اليوم أي مدينة كانت وأغلب الظن عندي أنها "كرومبارق"* فهي أيضا من ضواحي فرانكفورت شرق "بادزودن". ولما غادرت القطار لم أجد المكان هو المكان! وبعد مسير سألت إمرأة كانت تهم بركوب سيارتها عن مستشفى مدينة "باد زودن" ولما عرفت أنني "تائه" وعرفت قصتى أخذتني بسيارتها وأبلغتني مقصدي! وكان يبدو من حوارنا أنها أمرة مثقفة تتكلم الإنقليزية وربّما الفرنسية، فعدّل موقفها معي موقف سائق سيارة الأشغال الذي واجهنا بعنصريته البغيضة! بعدها حفظت "درسي" وأصبحت الطريق ميسرة حتى عادت معي زوجتي وابنتي "آلاء" إلى غرفتنا الصغيرة والمؤقة في المخيم! وباتت "آلاء" فوق طاولة الأكل! ومن المشاكل التى عانينا منها أن زوجتي لم يكن معها ما تلبس غير فستان وحيد وضعته لحسن الحظ في حقيبتي، فقد ضاعت حقيبتها لأنها مرّت إلى فينّا حيث كانت رحلتنا مقررة! وبعد أن رفض أعوان الخطوط السودانية السماح باصطحاب الحقيبة إلى غرفة المسافرين بسبب الإكتظاظ الشديد داخل الطائرة، كأننا نركب حافلة خطوط داخلية في الخرطوم! بعد أن أصبح عمر آلاء 17 يوما تم تحويلنا إلى مدينة "كولونيا"* وهناك أنزلنا على متن سفينة في نهر الراين بقينا بها أسبوعين، يتم إخراجنا منها كل صباح بشكل غير محترم حيث يقتحم أعوان الحماية والتأمين الغرف دون استئذان ليأخذوا اللاجئين إلى الإدارة لإتمام إجراءات اللجوء ولا يستثنى أحد من إزعاجهم حتى الذي أتم إجراءاته. ومن سفينة نهر الراين بمدينة كولونيا حُوّلنا إلى ثكنة هي الأخرى أمركية قديمة في مدينة "ديرن"* غرب ألمانيا حيث بقينا حوالي 3 أشهر، ومنها حُولنا يوم 1 ديسمبر 1994 إلى مدينة "ترويسدورف"* فقد ركبنا حافلة "الترانسفار" في الصباح ولم نصل إلا عند المغرب رغم أن المسافة لا تتجاوز 60 كم، لأن السائق تنقل إلى قرى عديدة ليوزع على كل قرية حصتها من اللاجئين واختار أن تكون مدينتنا هي آخر الرحلة مما أصابني بالصداع وأرهق زوجتي وابنتي الصغيرة. كل لاجي ينتظر حظه يوم "الترانسفار" ليُحصّل مأوى محترما ومساعدة تمكنه من عيش محترم، أو تستمر "تعاسته" فالأمر يختلف من مقاطعة لمقاطعة ومن مدينة لمدينة! وهو ما يتناقله اللاجؤون من أخبار بينهم فيُهنّأ بعضهم ويُعزّى آخرون! سلمنا السائق إلى مقرّ البلدية "رات هاوس"*، ومن النوادر أنني اعتقدت أنه هو سكننا الجديد، ورغم نظافته وأناقته كنت أسرّ لزوجتي بأنه غير لائق فهو يشبه النزل وليس فيه استقلالية! ... وبعد أن انتهت إجراءات التسجيل في المدينة الجديدة أخذونا "لسكننا" وشاء الله أن يكون "مخزنا" جماعيا، أغلب سكانه من ضحايا حرب البلقان من البوسنيين والألبان وفيه بعض الجنسيات الأخرى. وقد كان مقسما من الداخل ببعض الحواجز الخشبية والستائر وأما المطبخ والحمامات فجماعية مثل أغلب الأماكن المخصصة لطالبي اللجوء! كل أصوات أو ضجيج أو دخان سجائر نسمعه ونستنشقه دون رغبة منّا ولم يكن حينها التدخين ممنوعا في الأماكن العامة! وخاب أملنا في أن تؤخذ حالة الرضيعة في الإعتبارفنحصل على غرفة مستقلة بمرافقها! ونحن في هول صدمة السكن الذي انتظرناه طويلا، إذ بزوجتي تصاب بهستيريا من الضحك حتى خشيت عليها، إذ انتبهت قبلي إلى "الكراتين" الفارغة فاستنتجت أن المساعدة ستكون في شكل "كراتين" فيها مواد غذائية مرتين في الأسبوع ولا يحق لنا أن نختار ما نقتات عليه طيلة سنة كاملة، وسنكون مجبرين على استهلاك مواد ليست من تقاليدنا وعاداتنا في الطعام. وهو ما دفعني للتفكير في العودة للسودان إذا لم يكن من ذلك الوضع مخرج! وبالصبر والتأقلم فرّج الله ومازلنا إلى يومنا هذا في نفس المدينة، وفيها تعلمت آلاء وحصلت على الباكالوريا بتقدير ممتاز، وهي الآن بصدد إعداد بحث التخرج في مادة الكيمياء البيولوجية! آلاء هذه هي التي كانت سنة 2006 التقت الشاعر الصديق البحري العرفاوي وكانت يومها طفة في الثانية عشر من عمرها ودار بينهما حوارا وثّقه الأستاذ البحري في قصيد بعنوان "آلاء" وأصبح أغنية شهيرة من أغاني فرقة الشمس الموسيقي تؤديها الفنانة الشابة رحاب العزّابي! أسأل الله أن يصلح آلاء وأخت آلاء وإخوة آلاء! وكل عام وهم وأمهم بخير! والحمد لله رب العالمين!