بمناسبة مهرجان " سيكا جاز " ولما كانت اليوم قافلة السفير الفرنسي (مقيمها العام بتونس) تجوب شوارع مدينتي الحزينة وصفارات الانذار تخرق صمت سمائها ، وعلم بلاده يرفرف بين جوانح سيارته الاستعمارية الفارهة ، وزياراته التفقدية للرعايا ولمؤسسات الدولة التونسية " المستقلة " بالمدينة ، مزّقني احساس رهيب بالمهانة والضّيم ، وتاكدت ان تونس دولة مستعمرة استعمارا مباشرا ، ورفرفت روحي رغبة في المقاومة من أجل التحرّر الوطني وحق تقرير المصير ، لم اشعر بالاستعمار بمثل ما شعرت به اليوم رغم اني كنت مدركا جيدا اننا خلال النصف قرن التى تلت ما سمى ب " بالاستقلال " نعيش تحت استعمار غير مباشر وبمقيمن عامين من بني جلدتنا (بورقيبة ثم بن علي ) ،و لذلك قاومنا. وانتصرنا فعلا يوم 14 جانفي 2011 ، ولكن انتهى الحلم بسرعة ، ففرنسا التى عرضت على بن على المساعدة لقتلنا قبل هروبه بيوم او بعض يوم ، لم تتركنا لحالنا ، فكان تدبير مقتل بلعيد ثم البراهمي في وقت قياسي ( فيفري وجويلية 2013) وبدأ "الحشد الشعبي " لانهاء التجربة ، وحضر سفيرفرنسا في اعتصام الخيانة بباردو واحتفل مع من يحكموننا اليوم باعلان اغتيال تجربة التحرر الوطنى لهذا الشعب ، وانهاء فسحة السيادة القصيرة التى وفرتها الثورة ، وسخروا امكانات الدولتين التونسية والفرنسية لتزوير ارادة الناخب التونسي الذي تربي على قابلية الاستعمار فكان هشا اصالة وثقافة وفقرا وجهلا ، فأزاحوا به زورا كل ما تبقى من نفس ثوري ، وجاءت حكومة الصيد كنسخة معدلة من الحكومة المخضرمة للغنوشي بعيد الثورة ، ففشلت سريعا لان ما حدث حقّق قفزا مبطّنا للمجتمع التونسي على العقل الفرنسي الاستعماري التقليدى الذي طالما حكمنا بواسطة وكلاء محليين ، فتم تعويض الصيد ب "فتى" لا باع له في السياسة ولا في الاخلاق ولا في ادراة الدولة ولا في التعامل مع مكونات المجتمع الجديد ، فكان لا يشبهنا في شىء وانفلت زمام الامر بسرعة ولم تنجح فرنسا في انتاج نسخة معدلة من "بن علي" ، واتضح جليا مدى فساد النخبة العائدة التى كانت تحكمنا ، وانها لن تصمد طويلا في جوّ فيه ولو جزء يسير من الحرية ، وان هذا الرهط من الحكومات لا ينمو الا في ظل الاستبداد والعصى الغليظة التى لم تعد متاحة ، وبعدما اتضح من صراع العصابات داخل حزب فرنسا وحتى داخل القصرين الرئاسي والحكومي والفراغ الكبير في السلطة والافتقار الى رجال دولة حقيقيين ، ادرك المستعمران الدولة التونسية اصبحت بين ايادى " مرتعشة " لا يعول عليها ، وان العدو الآكبر الذي فعل كل ما يلزم لطرده من الحكم وتقزيمه (النهضة )، اصبح الحاكم بالقوة بمجرد الحضور، مما دفع فرنسا اليوم الى حكم تونس بصفة شبه مباشرة بواسطة سفيرها الذي يؤدى بوضوح دور المقيم العام اثناء فترة الاستعمار المباشر لبلدنا . ستبدأ المقاومة المدنية لا شك ..وسنتحرر لا شك ..ولن يستغرق ذلك قرن من الزمان كما كان في السابق ، بل سنوات قليلة وربما اشهر بل ربما اقل من ذلك بكثير ... المقلق حقا هو : هل اعددنا البديل ؟