شراكات لمناهضة تهريب المهاجرين    سعيّد يقلّد صاحب جائزة نوبل للكيمياء الصنف الأوّل من وسام الجمهورية.. تكريم رئاسي للبحث العلمي والكفاءات    عمّار يتلقّى دعوة لزيارة الدوحة    صفاقس: إنهاء تكليف كاتب عام بلدية العين    نحو توريد كميات من اللحوم المبرّدة    تطاوين.. ارتفاع عدد الاضاحي مقابل ارتفاع في اسعارها    جندوبة: السيطرة على حريق أتى على 3 هكتارات من حقول القمح    مصر.. مصرع 9 وإصابة 9 آخرين في حادثة سقوط حافلة بنهر النيل    المحمدية: الكشف عن مستودع معد لإخفاء السيارات والاحتفاظ بنفرين    صفاقس : نقص كبير في أدوية العلاج الكيميائي فمن يرفع المُعاناة عن مرضى السرطان؟    دربي العاصمة يوم الأحد 2 جوان    تقليد السيّد منجي الباوندي المتحصّل على جائزة نوبل للكيمياء لسنة 2023.    صفاقس : كشك الموسيقى تحفة فنية في حاجة الى محيط جميل    عاجل/ محكومون بالسجن بين 6 و16 سنة: ضبط 3 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم    التضامن: حجز 100 صفيحة من مخدر القنب الهندي    عاجل/ البرلمان يصادق على قرض جديد بقيمة 300 مليون دولار    سيدي بوزيد: جداريات تزين مدرسة الزهور بالمزونة (صور)    التوقعات الجوية لهذه الليلة    يُخفي بضاعة مهربة داخل أكياس نفايات !!    20 مسماراً وأسلاك معدنية في بطن مريض    سيدي بوزيد: برمجة ثرية في الدورة 21 لملتقى عامر بوترعة للشعر العربي الحديث    سعاد الشهيبي تستعد لإصدار "امرأة الألوان"    في مهرجان "كان": كيت بلانشيت تتضامن مع فلسطين بطريقة فريدة    توزر: تمكين المدرسة الابتدائية طريق المطار من تجهيزات رقمية    رئيس منظمة ارشاد المستهلك يدعو إلى التدخل السريع في تسعير اللحوم الحمراء    البريد التونسي ونظيره الموريتاني يُوقّعان اتفاقية تعاون    بسبب مذكرة الاعتقال ضدّ نتنياهو: المدعي العام للجنائية الدولية يتلقى تهديدات    البطولة الانقليزية: نجوم مانشستر سيتي يسيطرون على التشكيلة المثالية لموسم 2023-2024    متعاملون: تونس تطرح مناقصة لشراء 100 ألف طن من قمح الطحين اللين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : وليد كتيلة يهدي تونس ميدالية ذهبية ثالثة    الرابطة المحترفة الأولى (مرحلة تفادي النزول): حكام الجولة الحادية عشرة    النادي الصفاقسي: اليوم إنطلاق تربص سوسة .. إستعدادا لمواجهة الكلاسيكو    الاحتفاظ بتونسي وأجنبي يصنعان المشروبات الكحولية ويروّجانها    عاجل/ مدير بالرصد الجوي يحذر: الحرارة خلال الصيف قد تتجاوز المعدلات العادية وإمكانية نزول أمطار غزيرة..    كوبا أمريكا: ميسي يقود قائمة المدعوين لمنتخب الأرجنتين    موعد تحول وفد الترجي الرياضي الى القاهرة    الموت يفجع حمدي المدب رئيس الترجي الرياضي    إحداث خزان وتأهيل أخرين واقتناء 60 قاطرة لنقل الحبوب    وزير الفلاحة : أهمية تعزيز التعاون وتبادل الخبرات حول تداعيات تغيّر المناخ    إختفاء مرض ألزهايمر من دماغ المريض بدون دواء ماالقصة ؟    اصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب شاحنة خفيفة بمنطقة العوامرية ببرقو    بدأ مراسم تشييع الرئيس الإيراني ومرافقيه في تبريز    صلاح يُلمح إلى البقاء في ليفربول الموسم المقبل    الرئاسة السورية: تشخيص إصابة أسماء الأسد بسرطان الدم    عمرو دياب يضرب مهندس صوت في حفل زفاف.. سلوك غاضب يثير الجدل    الدورة 24 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون تحت شعار "نصرة فلسطين" و289 عملا في المسابقة    وزير الدفاع الأميركي: لا دور لواشنطن بحادثة تحطم طائرة رئيسي    سليانة: معاينة ميدانية للمحاصيل الزراعية و الأشجار المثمرة المتضرّرة جراء تساقط حجر البرد    عشرات الهزات الأرضية غير المسبوقة تثير الذعر في جنوب إيطاليا    قبلي: تخصيص 7 فرق بيطريّة لإتمام الحملة الجهوية لتلقيح قطعان الماشية    منوبة.. إيقاف شخص أوهم طالبين أجنبيين بتمكينهما من تأشيرتي سفر    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    الشاعر مبروك السياري يتحصل على الجائزة الثانية في مسابقة أدبية بالسعودية    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا صدرت مبادرة المطالبة باعتذار فرنسا عن حزب معارض؟
من رفض الاعتذار إلى حجز الذاكرة (2/1): بقلم: سالم الحداد
نشر في الشعب يوم 13 - 02 - 2010

شهرت الساحة السياسية تجاذبات وصلت إلى حد التقاذف بين باريس وتونس حول قضيتين تاريخيتين: المطالبة باعتذار فرنسا لتونس حول الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي زمن الاحتلال، والمطالبة بفتح تحقيق حول اغتيال الزعيم النقابي الوطني فرحات حشاد، وهو الملف الذي تحاشى النقابيون المطالبة بفتحه منذ فجر الاستقلال ربّما خوفا من النظام أو مجاراة له.
فما هي خلفية المطالبة بفتح هذين الملفين في الظروف الراهنة؟ وإلى أي مدى ستكون فرنسا مستعدة لتلبية هذه الرغبة التونسية الوطنية والتعامل بصفة علمية وموضوعية مع هذين الملفين بقطع النظر عن التداعيات السياسية التي قد تنتج عن إزاحة اللثام عن الوجوه المقنعة في فرنسا أو في تونس؟
I اعتذار فرنسا لتونس عن ماضيها الاستعماري
أولا إشكالية الطرح في تونس
قام بهذه المبادرة الأمين العام للاتحاد الوحدوي الديمقراطي الاستاذ أحمد الإينوبلي وهو محسوب سياسيا على الموالاة في ظرف تميزت فيه العلاقة بين تونس وباريس بشيء من التوتر على خلفية وضع الحريات في بلادنا، وهذا ما جعل بعض أجنحة المعارضة تشكك في مصداقية هذه المطالبة وتعتبرها رسالة غير مباشرة بعث بها قصر قرطاج إلى قصر «الشانزيليزي» عن طريق قناة شبه رسمية لتلفت انتباهه إلى إمكانية إزعاجه، إن هو واصل الاستماع إلى أصوات المعارضة السياسية أو أصوات المجتمع المدني أو حتى الانشغال بالشأن التونسي الداخلي، فهذه المهمة يتكفل بها النظام دون غيره.
وقد تصاعد التجاذب إلى درجة التقاذف بالتهم بين أطراف وطنية، فالاتحاد الوحدوي اعتبر المشككين في دعوته «حركيين جدد» أي من بقايا الحركة الوطنية الجزائرية التي تصدت لجبهة التحرير (الجزائرية) ورفضت القطيعة مع فرنسا . أما المعارضة فقد اعتبرت الاتحاد الوحدوي بوقا من أبواق النظام العديدة، تولّى مهمة طرح هذه القضية للتغطية على تجاوب بعض الأوساط الفرنسية مع البعض من مطالب المعارضة التونسية التي ما فتئت تتعرض للتهميش .
كل هذا أمر وارد وغير مستغرب وليس من المستبعد أن يكون هذا الطرح موحى به أو موعز به أو حتى مملى، وهي طريقة ديبلوماسية معروفة تتوخاها الدول عندما تريد أن تبعث برسائل مشفّرة ، غير مباشرة لمن لا تجرؤ على مواجهته (أو تتفادى) وفي نفس الوقت ترفض أن تتنازل له.
كما أنه ليس عيبا أن يستغل أي تيار سياسي أية ثغرة أو أية فرصة تسمح بها الظروف لطرح رؤيته السياسية، شريطة ألا يكون ذلك على حساب المصلحة الوطنية والقوى الديمقراطية. والسؤال المطروح هو: هل تسقط هذه القضية لأنّها وردت عن طريق قناة رسمية أو «شبه رسمية» ولأسباب مطعون فيها؟
إنّ الخطر كل الخطر أن يكون اعتراض المعترضين يتجاوز الشكل بما فيه من ملابسات ظرفية إلى المضمون أي إلى التشكيك في جوهر المسألة الاستعمارية، وإذاك لا نجد أنفسنا أمام «حركيين» بل أمام طابور خامس . وحسب معرفتي فلا أعتقد أن هناك من ينزع هذا المنزع، ولا أتمنّى وجوده.
في اعتقادي أنه مهما كان موقع الطارح وخلفيته ومهما كان موقع المعترضين وخلفياتهم فإن هذه الإشكالية في حاجة إلى توضيح لأنها تتعلق بماضينا وحاضرنا بل وبمستقبلنا، وهي قضية حق وقد يكون أريد بها باطل، إلا أنها تبقى قضية حق، حق الشعوب المضطهدة التي عانت وما زالت تعاني من ويلات القهر السياسي والابتزاز الاقتصادي والاستيلاب الحضاري التي مارستها ضدها الإمبراطوريات الاستعمارية. والحق عند الأمم لا يسقط بتقادم الزمن. وقديما قيل: «ما ضاع حق وراءه طالب».
لكن عمّ ستعتذر فرنسا؟ ولماذا؟
ثانيا الاعتذار عن الجرائم الحربية : متى ولماذا ؟
ظهرت قضية الاعتذار للآخر بعيد الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها الحلفاء على المحور، وقد ارتبطت أساسا بالمسألة اليهودية، حيث كان اليهود عرضة للاضطهاد الذي سلطه عليهم النازيون والفاشيون وقبلهم الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا. وقد لعب الرأسمال اليهودي دورا فاعلا في هذا الانتصار مما شجعهم على المطالبة باقتسام الغنيمة مع المنتصرين فكان لهم ما أرادوا، فالكنيسة التي اضطهدت اليهود طوال قرون أصدرت صك الغفران سنة 1965وبرأت اليهود من دم السيد المسيح حجتهم في ذلك أن اليهود الحاليين ليسوا مسؤولين عن الجريمة التي ارتكبها آباؤهم .
أما الطبقة السياسية في أوروبا فقد اعترفت بالمجازر التي ارتكبها النازيون والفاشيون ضدهم وأقرت بالمحرقة بالرغم من أن هذه المسألة مازالت محل خلاف بين المؤرخين. وكانت حكومة ألمانيا الغربية برئاسة المستشار أدناور هي التي اعترفت بشكل رسمي سنة 1951 لليهود بالمحرقة التي أقامها النازيون وعبرت عن استعدادها للتعويض. ولم يكتف بقية السياسيين الأوروبيين بالاعتراف بل اعتذروا أيضا باسم شعوبها وعوضوا لمن تعرض ولمن لم يتعرض للاضطهاد والتعذيب.
وفي خضم هذا التعاطف مع اليهود وقع خلط متعمد بين اليهود ضحايا القتل والتعذيب والصهيونية كتيار عنصري استعماري فرض نفسه في أوروبا وأجبرت زعماءه على تسهيل احتلال قلب الوطن العربي خدمة لمصلحة الطرفين. وكان الصهاينة أنجب تلاميذ النازية والفاشية فسلطوا كل أنواع القهر التي كانوا عرضة لها بل قدموا إضافة جديدة عندما أجبروا سكان فلسطين على الرحيل حتى يهودوها ويستوطنوها، إذاك فتحت لهم المضخات المالية الأوروبية والأمريكية لتموّل المشاريع الاستيطانية. وهكذا ابتزت الصهيونية الغرب سياسيا واقتصاديا وغرست فيه عقدة الإحساس بالذنب إزاء اليهود التي ما زال يعاني منها.. ورغم ما أبداه الشعب الفلسطيني من صمود وما قدمته مقاومته من تضحيات وما ارتكبته الصهيونية من مجازر فإن القبضة الصهيونية على الفعاليات السياسية في أوروبا وفي أمريكا مازالت قوية، ولم تستطع أن تحررها من الخوف من كابوس الصهيونية إلا بشكل محدود. ومن المفارقات العجيبة أن يكون اليهود التحرريون أشد مناهضة للجرائم الصهيونية من رجال السياسة في الدول الغربية .
ثم طالب الصينيون باعتذار اليابان عن الجرائم التي ارتكبوه من الاحتلال، فكان لهم ذلك سنة 1995 وكان اعتراف الأتراك بالجرائم التي ارتكبتها الدولة العثمانية هي أهم الشروط التي وضعتها أوروبا لالتحاقها بالاتحاد الأوروبي.
أما الكونغرس الأمريكي فإنه لحد الآن لم يعترف بالجرائم التي ارتكبها الأوروبيون الغزاة ضد الهنود الحمر في أمريكا.أما جريمة هوريشيما فمسكوت عنها.
وباستثناء الاعتذار لليهود فإن أوروبا عموما لم تقدم أي اعتذار آخر، بل الأغرب من هذا أنها كانت تعتبر التوسع الاستعماري الذي مارسته دولها في القرن التاسع عشر متنافسة ومتحالفة ابتزازا لثروات دول العالم الثالث وبحثا عن الأسواق عملية تمدينية هدفها إخراج إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من المرحلة البربرية المتوحشة إلى مرحلة التمدن والحضارة. والسؤال الذي يجب أن يطرح هو : هل كان التمدين هدفا من الأهداف الإستراتيجية للحملات الاستعمارية؟ هل تحرك الاستعماريون رأفة بالشعوب المتخلفة حتى يخرجوها من ظلمات الجهل والتخلف إلى نور المعرفة والتقدم؟
وبقطع النظر عن الأهداف والنوايا، فكيف تعامل الغزاة طيلة تواجدهم في المستعمرات؟ هل توخوا طريقة أخرى غير القتل والتشريد ومصادرة الممتلكات والاستيطان ومحو شخصية الشعوب والأمم؟
نعم إن القارئ الموضوعي لتاريخ العلاقة بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها لا يمكن أن ينكر أن الأقطار التي اجتاحها الاستعمار هي أكثر تطورا من الدول التي بقيت في منأى عن الهيمنة الاستعمارية وهذا يعود إلى عدة أسباب منها :
1 أن أي حوار سواء أكان سلميا أو حربيا، باردا أو ساخنا لابد أن تنتج عنه عملية تلاقح فكري وتثاقف، وهذا ما حصل في كل الحروب القديمة والمعاصرة ، مع اسكندر المقدوني حامل حضارة اليونان إلى العالم ، مع الفتوحات الإسلامية التي استفاد منها الفاتحون وأفادوا مع الحروب الصليبية التي كانت منطلقا للنهضة الأوروبية ومع حملة نابوليون على مصر التي فتحت أنظار العرب والمسلمين على المدنية الأوروبية.
2 إن الحملات الاستعمارية لم تخل من بعض القيادات المستنيرة سواء أكانوا من رجال السياسية أو من رجال الفكر الذين يحملون بذور الفكر الإنساني الحر من ناحية ويريدون من ناحية أخرى أن يلمعوا صورهم وصورة أوطانهم حتى وهم يمارسون قهر الشعوب. وفي هذا السياق يمكن أن نذكّر بدور القائد العسكري جول فيري الذي نادى بإجبارية التعليم ونابوليون الثالث الذي سعى لتحويل المستعمرة الجزائرية إلى مملكة عربية تابعة لفرنسا لها دستورها وأنشأ بعض المدارس العربية الفرنسية.
غير أن الشجرة لا يمكن أن تحجب الصحراء والشمعة لا تنير ظلام الليلة الحالكة السواد.
فما هي أهم ملامح الظاهرة الاستعمارية في ربوع المغرب العربي؟
منذ 1830وطئت أقدام أول جندي فرنسي تراب القطر الجزائري وبعد أن استولت فرنسا على القلب مدت جناحها شرقا فاستولت على تونس سنة 1881 وبعد 30 سنة تحرك جناحها الثاني غربا فضم القطر المغربي سنة 1912 وفي كامل المغرب العربي وجدت رصيدا هائلا من الثروة والبشر فاستغلتهما جميعا في حربها مع ألمانيا وفي تركيم ثرواتها الاقتصادية فزادها ذلك اعتزازا برؤيتها الثاقبة البعيدة عندما اختارت المشروع الاستعماري سبيلا للقوة والتوسع، ولم تكتف بالاحتلال العسكري واستغلال الثروات الطبيعية وتسخير الطاقات البشرية، بل أوهمها جنون العظمة والغرور إلى استبدال هوية البشر وصياغة كائنات بشرية جديدة فرنسية فكرا وسلوكا . فما هي أهم ملامح الظاهرة الاستعمارية الفرنسية؟
ثالثا : عمّ ستعتذر فرنسا ؟ ملامح الظاهرة الاستعمارية
1 الغاية تبرر الوسيلة
إن هدف الاحتلال كما أقره المحللون واعترف به السياسيون هو فتح أسواق جديدة أمام فائض الإنتاج الرأسمالي الفرنسي وابتزاز ثروات الشعوب المستولى عليها.
من أجل تحقيق هذا الهدف كانت الجزائر أول ضحية تسقط في مخالب النمر الفرنسي المتعطش للتغلب على الأخت العدوة اللدود ألمانيا. فشنت حربا لا هوادة فيها لم يسلم منها لا البشر ولا الحجر ولا الشجر، استقدمت لها أعتى ضباطها وأخص بالذكر الجنرال السيئ الذكر بوجو Bugeaud الذي حل بالجزائر يوم 14 ماي 1840 وانتهج ما عرف في ذاك الظرف» بسياسة الأرض المحروقة « فهو لا يقتفي أثر المقاومة الجزائرية عندما تهرب بل يسبقها إلى المناطق التي يمكن أن تلتجئ إليها، فيعمد إلى تدمير عمرانها وحرق غاباتها. وإذا اضطر المقاومون للجوء إلى الكهوف والمغاور فإنه يشعل فيها الحرائق فيبيد كل ما فيها ومن فيها، وحتى المستسلمون فكثيرا ما يتعرضون للإبادة الجماعية.
ولم يكن هذا السلوك حدثا عرضيا بل خطة إستراتيجية، فعندما نقده بعض المعترضين على هذه السياسة رد عليهم قائلا : «أتحمل مسؤوليتي وأقول لكم إن احترام القواعد الإنسانية سيطيل أمد الحرب إلى ما لا نهاية».الم
2 الاستيطان
إن الدعامة الثانية للإستراتيجية الاستعمارية هي الاستيطان، فالانتصار العسكري لا يمكن أن يكتب له الاستمرار ما لم يصاحبه ويسنده حضور بشري فاعل. ولتحقيق هذا الهدف توخت سياسة التفريغ والشحن ولا يتأتى لها ذلك إلا من خلال السيطرة المنظمة والواسعة عسكريا ومدنيا ، لتأسيس قاعدة إقليمية وإدارية ، مع تشجيع الهجرة الاستيطانية قصد بناء القاعدة الديموغرافية لتدعيم القوة العسكرية فتسهل بذلك عملية تدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الجزائري. وهكذا باشرت هذه الإدارة ومنذ السنوات الأولى للاحتلال سياسة استيطانية شرسة وواسعة جندت لها كل الإمكانيات المادية والبشرية عسكرية ومدنية.
فهي تفرغ المناطق الخصبة من أصحابها بحد السيف أو بحد القانون ثم تشحنها بفائض العاطلين الذين رمت بهم البورجوازية بعد أن غصت بهم المدن الأوروبية الكبرى وقد صرح بوجو Bugeaud وهو يمارس هذه السياسة «يجب أن يقيم المستوطنون في كل مكان توجد فيه المياه الصالحة والأراضي الخصبة ، دون الاستفسار عن أصحابها» .وقد جنبت هذه الهجرة المكثفة الفتن الداخلية التي يمكن أن تحدث عن انتشار البطالة في أوروبا. وهكذا حققت فرنسا عن طريق الاستيطان جملة من الأهداف: إسناد القوات الحربية، امتصاص البطالة في أوروبا، السهر على تسيير المشاريع الاستعمارية الجديدة ، تغيير البنية السكانية للجزائر ضمانا لاستمرارية وجودها.
3 الغزو الثقافي
أدركت فرنسا أن استمرار وجودها في القطر الجزائري لا يمكن أن يضمنه تفوقها العسكري ولا تقدمها الاقتصادي، فالغلبة العسكرية رهينة اختلال موازين قوى محلية ودولية. والتقدم الاقتصادي تحكمه مجموعة من الآليات تعود أساسا إلى القدرة على اكتساب المعرفة والسيطرة على التقنية واستثمار الثروات، واستيعاب هذه الآليات ليس مستحيلا وخاصة لدى شعب متعطش للعلم، لذا خططت وسعت إلى أن تتجاوز الميدان العسكري والاقتصادي وأن تضرب في العمق، عمق كيان المواطن العربي في الجزائر فتستهدف فكره وذاكرته وعواطفه، وبذلك تستكمل ربط الحلقات الثلاث العسكرية والاقتصادية والثقافية لكل ظاهرة استعمارية.
وإذا كانت فرنسا استخدمت في المعركة العسكرية أعتى جنرالاتها وأوسعهم خبرة، وأطلقت في المعركة الاقتصادية يد البورجوازية الناهضة فإنها في المعركة الثقافية اعتمدت أحدث الدراسات في العلوم الاجتماعية والتاريخية والحضارية واللغوية والثقافية لإحداث نقلة نوعية في فكر المواطن العربي وعاطفته، وهو ما يسمى بالغزو من الداخل.
وقد توخت فرنسا في مقاومتها للهوية نفس الطريقة التي توختها في زرع الاستيطان وهي التفريغ والشحن، فلا يشحن إلا الوعاء الفارغ. فقد عملت على تفريغه من مخزونه الحضاري وتهميشه وشحنته بمقوم بديل مناهض لمقومات هويته العربية الإسلامية. وفي هذا الإطار ظهرت العديد من الدراسات حول الأمة واللغة والخصائص العرقية للبربر وأخيرا انتهوا إلى أن البربر لا علاقة لهم لا بالقارة الإفريقية ولا بالعرب، فهم أحفاد الغاليين. ولعل شيوخنا ما زالوا يتذكرون. مقولة
nos ancêtres les gaulois التي كانت تشحن بها عقولهم. وتتالت أفواج الدارسين في مختلف أوضاع المجتمع الاجتماعية والثقافية واللغوية والعرقية الدينية، وكانت جامعة الجزائر خاصة هي التي أطرت هذه الأنشطة. ونتيجة لهذه الدراسات المكثفة ظهرت على امتداد الفترة الاستعمارية ثلاثة مشاريع كبرى لا تقل خطورة عن الحضور الصهيوني لو كتب لها النجاح وهي:
أ مشروع الظهير البربري 1930:
الظهير البربري : هو المرسوم السلطاني الذي أجبرت فرنسا ملك المغرب على سنه لتقسيم أبناء المغرب إلى:
سكان الأرياف (السيبة) الذين يحتكمون للعرف البربري وللقانون الفرنسي وأغلبهم من البربر
سكان المدن (المخزن) الذين يحتكمون إلى الشرع الإسلامي وأغلبهم من العرب.
هذا المشروع الذي وضع أرضيته الراهب الضابط Charles de Foucauld بما أعده من دراسات قدمها للأكاديمية الاستعمارية أسقطته الحركة الوطنية بكل مكوناتها وفصائلها السياسية والدينية ، يدعمها من سويسرا الشيخ شكيب أرسلان الذي كان يصدر مجلة «الأمة العربية» وهو أول من انتبه إلى أهمية المغرب العربي وتبنى قضاياه الوطنية.
ب مشروع التجنيس والإدماج
وهو المشروع الذي بقدر ما كان يهدف إلى تغريب أبناء المغرب العربي جملة وتفصيلا فهو يرفض منحهم الجنسية الفرنسية، لكنه يريدها للنخب المتفرنسة دون عامة الشعب. فحصولهم على الجنسية سيمكنهم من المطالبة بحقوقهم. وهذا ما ترفضه السلطة الفرنسية التي تريدهم رعايا لا مواطنين، لهم واجبات دون حقوق .وقد شهدت كل أقطار المغرب ردود فعل عنيفة سالت فيها الدماء رفضا للتجنيس ودفاعا عن هوية المجتمع العربية والإسلامية.
ج مشروع التنصير
وهو من المشاريع التي فضحت النفاق الاستعماري ، فالدولة الفرنسية رافعة لواء الحرية والعلمانية قادت حملتها الاستعمارية على الجزائر سنة 1830 أي بعد 40 عام فقط من الثورة الفرنسية سنة 1789 ذات البعد الإنساني. ولم تكتف بالاحتلال العسكري والابتزاز الاقتصادي بل عملت بالتنسيق مع الكنيسة الكاثوليكية على اجتثاث الإسلام والعودة بالمنطقة إلى الماضي المسيحي. ولتحقيق هذا الهدف ظهر الكاردينال لافيجري
LAVIGERIE على ساحة المغرب العربي بعد إقامة قصيرة في لبنان والتعرف على الأمير عبد القادر فبعث فرق الآباء البيض مقتفيا أثار الفرق الصوفية، وهو الذي مهد لاحتلال تونس وبنى كنيسة لويس التاسع الذي مات في الحرب الصليبية الثامنة. وقد أفضى النشاط المكثف الذي نهضت به الكنيسة إلى عقد المؤتمر الأفخارستي سنة1930 في مدينة قرطاج إحياء لماضيها المسيحي وتكريسا لقناعتها بتنصير المنطقة. وقد اختزل المؤرخون الفرنسيون أسباب التوسع الاستعماري في «الرغبة في الاستكشاف، الرأسمالية، التجارة ، التنصير ، التمدن والاستيطان».les 6 C
Curiosité, Capitalisme,
: Commerce, Christianisme,
Civilisation et Colonisation
ولعل هذه العوامل هي التي جعلت البرلمان الفرنسي يصوت فيما بعد بأن «الجزائر فرنسية».
هذه القناعات الاستعمارية واكبت كل مراحل التواجد الاستعماري في أقطار المغرب العربي وانطلاقا منها تعامل السياسيون مع التحركات الشعبية. ويمكن أن أشير إلى أهم الأحداث المؤلمة التي وقعت في كل من تونس والمغرب والجزائر.
ففي تونس شهدت حاضرتها أول صدام بين الشعب والقوات الاستعمارية فيما عرف بحادثة «الترامواي» أي معركة السكة الحديدية في تونس سنة 1911 والتي قمعت بكل عنف، نفي محمد علي ورفاقه نفي الشيخ الثعالبي ،مظاهرة 9 أفريل1938 ، خلع المنصف باي ونفيه لأنه أراد أن تكون تونس على الحياد في الحرب العالمية الثانية، معركة 5 أوت1947 ، تصفية فلاقة زرمدين 11 أفريل 1947 أحداث تازركة، أحداث النفيضة ، اغتيال حشاد والعديد من القيادات السياسية، معركة التحرير، تشجيع الفتنة بين بورقيبة وابن يوسف ، الغارة على ساقية سيدي يوسف وآخرها مجازر معركة الجلاء.
ولم تكن الأوضاع في المغرب الأقصى بأحسن حال من تونس فقد تعرضت قيادات المقاومة إلى القتل والنفي والتشريد بداية من عبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف الشعبية سنة 1925 إلى المهدي بن بركة الذي تعاونت على اغتياله المخابرات الفرنسية والمغربية مرورا بمحمد الخامس الذي رفض الاستجابة للرغبات الفرنسية فأزيح عن عرشه ونفي .
أما الجزائر فالوضع فيها كان أشد مأساوية، فكل القيادات الوطنية تعرضت إما للقتل أو النفي والتشريد بداية من عبد القادر الجزائري إلى قيادات جبهة التحرير مرورا بالمقراني والأمير خالد ومصالي الحاج. أما الانتفاضات الشعبية فقد قمعت بكل قسوة، ولا أدل على ذلك من المجزرة الرهيبة التي تعرض لها سكان منطقة وهران والتي سقط فيها يوم 8 ماي 1945 حوالي 45ألف غيرال 25 ألف الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى وهؤلاء غير المليون شهيد الذين سقطوا في حرب التحرير.
وقبيل الاستقلال كانت الصحراء الجزائرية الفضاء المناسب الذي اختارته فرنسا لتجاربها النووية مما تسبب في وقوع آلاف العاهات من آثار الإشعاعات ولا ننسى الألغام التي زرعت على الحدود الشرقية والغربية والتي مازالت لحد الآن تنذر بالخطر. ألم يكن كل هذا موجبا للاعتذار؟
رابعا لماذا ترفض فرنسا الاعتذار عن جرائم الحرب الاستعمارية؟
قبل أن يطرح موضوع الاعتذار في تونس فقد طرح في القطر الليبي حيث طلبت الجماهيرية من الحكومة الإيطالية الاعتذار والتعويض، فكان لها ما أرادت، إذ صرح رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني يوم 30 أوت 2008 قائلا: «إننا نعتذر أخلاقيا عما سببه الاستعمار الإيطالي للشعب الليبي من آلام وأضرار، ونتطلع لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة، فبالمحبة والصداقة لا بالاستعمار والكراهية يتحقق الرخاء ويعم السلام بين شعبينا».
ولم تكتف الحكومة الإيطالية بالاعتذار على لسان رئيسها بل التزمت بتعويض الشعب الليبي عن الجرائم التي ارتكبها أجدادهم الفاشست طوال فترة الاحتلال الإيطالي ( 1911 1943 ) أثناء ثورة عمر المختار وقد قدرت هذه التعويضات ب5 مليارات من الدولارات يقع استثمارها في مشاريع إنمائية على مدى 25 سنة.
غير أن فرنسا رفضت أن تفتح هذا الملف مع الجزائر ونفى ساركوزي أن يكون الوجود الفرنسي في الجزائر لأغراض استعمارية حيث صرح قائلا : «إن وجود فرنسا في الجزائر لم يكن بدوافع استعمارية ولكنه كان حلما حضاريا»، ثم بدأ يخفف من وقع هذه التصريحات عند زيارته للجزائر في نوفمبر 2006 حيث أعلن :»لقد عاشت الجزائر آلاما كثيرة، ووجودي الآن في هذه المقبرة يعبر عن وجود معاناة من الجانبين، لهذا لابد أن يحترم الموتى سواء أكانوا شهداء جزائريين أو موتى أوروبيين».
وعندما عاد إلى فرنسا دعا إلى اعتبار من قتلوا من أفراد المنظمة الإجرامية السرية (O.A.S) المنظمة المسلحة السرية) شهداء من أجل فرنسا)، مدعيا بأنه «إذا كان لفرنسا من دين أخلاقي فهو نحو الفرنسيين العائدين من الجزائر» . كما صرح أيضا للصحافة «لا يمكن أن نطلب من الأبناء الاعتذار عن أخطاء آبائهم؟»
كما ناقش البرلمان الفرنسي الذي كانت الأغلبية فيه يمينية في 23 فيفري 2005 مسألة الاعتذار فانقسم إلى يمين رافض ويسار أبدى استعداده على لسان الاشتراكية «سيغولين رويال» لفتح صفحة جديدة للتعاون مع الجزائر دون توضيح موقفها من الاعتذار. وأخيرا صوت البرلمان الفرنسي لفائدة الدور التمديني الذي قامت به فرنسا في مستعمراتها وخاصة في شمال إفريقيا وبالتحديد في الجزائر . وتناولته كذلك وسائل الإعلام الفرنسية بالتحليل وهي بين قابل ورافض.
وبالجملة فإن العقل الفرنسي ما زال مسكونا بنظرية التطور والبقاء للأصلح التي أفضت إلى الاعتقاد بتفوق الجنس الأبيض على الأجناس الأخرى، وهذا من شأنه أن يلقي على كاهله مسؤولية نقل الحضارة الأوروبية. وبهذا يتحول الاستعمار في نظر الفرنسيين والأوروبيين إلى رسالة إنسانية تمدينية فهم يستندون إلى قناعة كانت سائدة وهي أن القيم الأوروبية هي قيم عالمية ويجب أن تنتشر في كل العالم . أما الاعتقاد بأن الشعوب الأخرى» المتوحشة « يمكن أن تعتبر كائنات تنتمي لحضارة أخرى مختلفة فهو لم يراود أفكارهم.
وفي الوقت الذي كانت ترفض فيه فرنسا تقديم الاعتذار لمستعمراتها فإنها تؤيد النداء الصادر عن الأرمن الذين يدينون الدولة العثمانية بارتكاب مجازر ضدهم في الحرب العالمية الأولى، وتعتبر هذا الاعتراف شرطا من شروط قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. والدولة التركية العلمانية اليوم التي يسوسها حزب إسلامي مطالبة بالاعتذار للأرمن على ما اقترفه أجدادهم ، وهذا يتناقض مع تصريحات ساركوزي نفسه.
والغريب أن وزير الثقافة الفرنسي «فريدريك ميتران» رد على طلب الاعتذار لتونس بأنه لم يأت عبر قناة رسمية، وهو بهذا التلميح يشير إلى أن الاستجابة لهذا الطلب ممكنة إذا تقدمت به الحكومة التونسية وليس حزبا سياسيا يدور في فلكها. وهذا لا يعدو أن يكون مجرد طمأنة للخواطر ولا يصمد أمام مواقف فرنسا الثابتة من هذه القضية.
وإذا كان الاعتذار غير ممكن للجزائر التي كانت أول ضحية من ضحايا الاستعمار الفرنسي في إفريقيا والذي حاول أن يجرد الشعب من كل مقومات الحياة المادية والمعنوية فالأرض انتزعها المستوطنون ومؤسسات الدولة دمرت وشخصيته الحضارية محيت وتجرع المواطنون مرارة الاحتلال بكل قسوة وسالت الدماء والدموع دون رحمة طوال قرن وثلث)1830 - 1962( فكيف سيصير هذا الاعتذار ممكنا مع تونس التي كان الاحتلال فيها أقل وطأة على متساكنيها وعلى كيانها حسا ومعنى؟
إنّ الاعتذار يمكن أن يتحقق عندما تتغير موازين القوى الحالية بين أوروبا ومنطقة المغرب العربي بل والوطن العربي . فلا أعتقد أن فرنسا أو غيرها ستكون مستعدة للتكفير عن ماضيها الاستعماري إذا لم تكن مصالحها الاقتصادية والثقافية في الميزان. وهذا لا يتوفر اليوم في ظل الصراعات البينية التي شلت المنطقة المغاربية والعربية لعدة عقود، وليس هناك ما يشير إلى أنها ستتوقف أو ستتقلص، بل إننا نرى دولنا تسارع إلى أن تجد موقعا لها تحت المظلة الأميركية في معزل عن شعوبها وخارج أوطانها فهي تريد أن تراكم علاقتها بالقوى العظمى الخارجية أكثر من السعي لتمتين علاقاتها البينية وفي هذه السياسة تكريس للتبعية.
فالاعتذار بقدر ما هو رغبة من المستضعفين لإعادة الاعتبار للذات من ناحية، وتأكيد للإحساس بالاستعلاء من الأقوياء من ناحية أخرى، فهو أولا وأخيرا معادلة سياسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.