الصحبي عتيق* إنّ الدماء التي سفكت في غزة نتيجة العدوان الظالم وغير المتكافئ وإنّ الدموع الحارقة التّي ذرفتها عيون أهالي غزّة وهم يعيشون الحصار الشرس وشدّة المعاناة وصقيع الشتاء لا يمكن أن تمرّ دون وقفة تأمّل ولا يمكن أن تبرّرها الخلافات السياسية بين أطياف المشهد الفلسطينيّ، وفي الحقيقة وإذا أزحنا ما تراكم من الضّباب والغبش لنرى الصورة في وضوحها وعمقها دون خلط ولا تضليل.. إنّه صراع بين خيارين مختلفين في المنهج والأسلوب. بين خيار المقاومة وخيار المساومة: إنّ المقاومة هي الخيار الذي ضغط على الصهاينة وساهم في قلب موازين القوى لإجلاء العدوّ من غزّة ولتقدّم ورقة قويّة في يد عرفات للتفاوض فأضاف "أريحا"..فجاء مشروع "غزّة وأريحا أوّلا" . المقاومة بالدّاخل هي التي قدّمت الشّهداء والتّضحيات الجسام لتوقف الزّحف الاستيطاني.إنّ القبول بتسليم غزة لم يكن تنازلا عن طيب خاطر بل كان نتيجة لعجز عن مواجهة المقاومة المسلحة التي حررت غزة. إنّ الذين تورّطوا في متاهات "أوسلو" لم يستطيعوا الخروج منها لأنّ الخروج منها يعني إعلان الفشل ونهاية المسار ونهاية المشروع واستقالة الرّموز التّي وقفت وراءه. كان عرفات –رحمه الله- يفاوض محافظا على سلاح المقاومة باعتبارها تساهم في تحسين شروط التفاوض بل ذهب في تشبيه العمليّة التّفاوضيّة بصلح الحديبيّة في حديث له بجنوب إفريقيا ورفض المساومة على أهمّ الملفّات (القدس ،العودة ، الحدود...). أمّا عبّاس فقد عبّر عن رفضه للمقاومة حتّى بالحجارة ؟ وانتهى بوصف الجهاد المسلح بالإرهاب والحقارة وعانق أعداء الأمّة الوالغين في دماء المسلمين في الوقت الذي يتضوّر فيه الغزّاويّون جوعا وقهرا وحسرة تحت وطأة الحصار الظّالم . إنّ الخلاف الحقيقيّ ليس في "تأشيرات الحجّ " أو الأمن الداخلي أو الحضور في القاهرة أو الالتزام بالتهدئة إنّما هو في الصّراع بين خيار المقاومة والاستقلال وخيار التّفاوض والاستسلام... وتواصل مشروع "روجرز" ومخيّم داوود وقمّة فاس...و "أوسلو" .: إنّ المراهنة على الحلّ التّفاوضي والتّعويل على أمريكا هو ضرب من الخداع تمارسه الأنظمة العربيّة لتخدير الشّعوب والتّمثيل عليها وهو سراب لأنّ التّفاوض –الذي في أصله مشروع- تحوّل إلى استسلام بعد الالتفاف الإسرائيلي على استحقاقات السلام .. إنّه انحدار مفجع لأنّه حوّل التّفاوض إلى إذلال وإملاءات إسرائيلية لا تملك سلطة عبّاس إلاّ الانصياع لها كما لا تملك جرأة التّراجع لوقف الانهيار وتغيير الاستراتيجيا لأنّهم أحرقوا سفن العودة مثلما فعل طارق ابن زياد غير أنّ طارق أحرق السّفن في خيار الجهاد وهم أحرقوها في خيار التّفاوض .. انتصر طارق وهم لم ينتصروا. لقد تحولت السلطة الفلسطينية بقيادة عباس إلى قوّة تساند مشاريع تفكيك المقاومة وخنق "غزّة" والدّفع في اتّجاه توتّر شعبي يضعف من سلطة الحكومة المنتخبة بل يعمل على إسقاطها وتوخوا في سبيل ذلك كل الطرق القذرة و ما كشفه السيد محمد نزال لقناة الجزيرة يغني عن التعليق. التيه العربي أشدّ من التيه الإسرائيلي خرج النبيّ موسى عليه السلام بالشعب الإسرائيلي المؤمن لفتح فلسطين ،وبعد كلّ المراحل التي قطعوها مع موسى وما أظهره الله على يديه من معجزات آخرها غرق فرعون وجنوده و نجاة الشعب الموحّد بقيادة موسى عليه السلام أمرهم نبيّهم بدخول الأرض المقدّسة...وبعد نقاش طويل سجّله القرآن الكريم في سورة المائدة(20-26) قالوا له:"اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون"(المائدة:24) وكان الردّ الإلهي صريحا:"قال فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"(المائدة 26).. و اليوم وبعد أن تحوّل شعب الجبّارين إلى شعب مؤمن يدافع عن الإسلام والعروبة والأرض والحريّة والكرامة ويقاوم العدوان الصهيوني تاه العرب في صحراء التواطؤ المخزي والاستبداد...لقد صمتت الأنظمة العربيّة ولم يستفزّها القتل والإبادة ولا صرخات الأطفال و الثكالى و الرضّع ..بل إنّ بعض الأطراف العربيّة اتهمت المجاهدين الشرفاء بتقديم المبررات لشنّ العدوان بعد انتهاء التهدئة وإلقاء الصواريخ على مستوطنة إسرائيلية وكأنّ إسرائيل تبحث عن مسوّغات لما تفعله؟وكأنّ الحصار هو الوضع الطبيعي لغزة كما عبر عن ذلك الدكتور عزمي بشارة في تصريح لقناة الجزيرة. إن محالات كسر الإرادة بالحصار ثمّ العدوان الغاشم هو شكل من أشكال العقاب للشعب على ممارسة حقّه في اختيار من يمثله فى انتخابات حرة ومحاولة لتغليب مسار التفاوض المذل.ما كان هذا ليحدث لولا التوافق الصهيوني-الأمريكي والتواطؤ الأوروبي والصمت العربي الرسمي وخاصة أطراف المحيط الإقليمي.إنّ هذا الموقف لا يفهم إلاّ أنه تشجيع ضمني لضرب حركة "حماس" و التخلص منها أو دفعها للاستسلام و اتخاذها ذريعة للفتك بمليون ونصف من الشعب الفلسطيني.إنّ الصمت العربي عموما والمصري بصفة خاصّة يعكس الشعور بالتواطؤ مع العدوان على القطاع. من يحاصر غزّة ؟ لقد انتظر أهل غزّة فكّ الحصار وتسرّبت لهم تواشيح الأمل في الحصول على المعونات من الغذاء والأدوية وعلى تأشيرات الحج ولكنّ الإحساس المضني بالقهر والمرارة كان أقوى من الحلم فبكى النّساء والشيوخ لضياع فرصة أداء فريضة الحج قبل الموت... فضاعت الفرصة في مخاض الخيبة والانتظار وربّما يأتي الموت قبل موسم آخر للحج فتصعد الأرواح ملبيّة لائذة بربّ العباد شاكية ظلم العباد وليتحرّروا بالموت من هذا الواقع الأليم بين ظلم المحتلين و صواريخ الصهاينة وصمت الأنظمة المرتمية في أحضان القوى المعادية للأمّة، فمن يحاصر غزّة ؟ إنّها القوى التي تقف وراء مشروع المساومة .. وراء أوهام التّفاوض، إنّها القوى التي فقدت الإحساس الوطني وانخرطت في أجندة إسرائيل وأمريكا، إنّها الأطراف التي ترفض نتائج الخيارات الشعبية وتمارس الاستبداد والوصاية على مقدّرات الأمّة ومكوّناتها السياسية والفكرية. كان العرب يتابعون الانتخابات في فلسطين ليشهدوا ميلاد تجربة عربيّة ديمقراطيّة حقيقية بعيدا عن التّزييف والتّزوير ولكنهم نسوا أنّ رموز السلطة تربّوا في أحضان الأنظمة العربية و لم يتخلصوا بعد من إرثها في الاستبداد و الوصاية و رغم أن التراث عموما هو تشكّل غير نهائي و يحمل عوامل التطور و التحول غير أن الاستبداد و" الائتمان على الوطن " (والتعبير للنظام التونسي) هما أكثر العناصر ترسبا و ثباتا و"أعدلها توزعا بين الأنظمة العربية".إنّ الحصار لم يحقق أهدافه بفضل المقاومة و لما لاحت بوادر الفشل قرر العدو الصهيوني العدوان لكسر سلطة حماس وتركيعها. عبّاس في الحجّ والغزّاويون بين الجوع والقهر : القلوب في غزّة مكلومة والدّموع حارقة والجوع ناهش والقهر قاتل والحصار شرس و الدمار شامل والقتل يتربص بالجميع ولا يستثني امرأة ولا طفلا و لا شيخا ولا مريضا وممّا زاد الجرح نزفا منع المسلمين من أداء فريضة الحج فمن يقدر على ردّ حسرة النّساء اللائي منعن من الحج؟ ومن يرد جوع الأطفال ..ومعاناة المرضى ...ودَين الشهداء والأسرى ؟ ستبقى معاناة أهالي غزّة نقطة سوداء في تاريخ الأنظمة العربية وجرحا غائرا بل هو الأعمق غورا والأشدّ إيلاما وأفضل ما يقال لعبّاس في هذه المناسبة ما قاله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز : " الأفواه الجائعة أولى عند الله من البيت الحرام " أولم يقل عليه الصلاة والسّلام وهو ينظر إلى الكعبة :" ..ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك.." (المنذري) .إنّ ما يجري في غزّة إنّما هو مؤامرة..وجريمة لتفكيك الملحمة التي صنعها الشهداء والأبطال وترويج لأوهام التّفاوض المذلّ. حماس بين المبدئية والسياسة والتنظيم : إنّ حماس نجحت في اكتساب شعبية كبيرة داخل الشعب الفلسطيني بل نفذت إلى كل البيوت ورغم انخراطها في المشاركة السياسية وإدارتها للسلطة في قطاع غزّة لم تفقد قدرتها على الاستقطاب. ورغم "الفيتو" الإقليمي والدولي عليها والعدوان الغاشم على غزّة فقد أثبتت تماسكا نادرا ووحدة تنظيمية قوية. لا شك أنّ هذه القوّة الحزبية تخفي وراءها إدارة ناجحة للحوار الداخلي وديمقراطية حقيقية داخل مؤسساتها وأسلوبا فائقا في إفراز القرارات فلم يصبها الانقسام أو التآكل وبروز الشقوق المتصارعة خارج المؤسسات كما حصل في بعض الحركات الإسلامية هنا وهناك. وإلى جانب هذه الوحدة التنظيمية المساهمة في قوة حماس يمثل الوفاء للمبادئ التي تأسست عليها عنصرا كبيرا في شعبيّتها. إنّ خوض حماس غمار العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات وتسلم السلطة لم يجعلها تتنازل على "الايديولوجيا" فلم تستسلم للتكتيك السياسي على حساب الأفكار والقيم وإنّ إدارتها للسلطة لم يحولها إلى بيروقراطية ولا قوة تسلّطيّة ضدّ إرادة الشعب. إنّ حماس لم تتورّط في الفساد المالي والإداري وانتصرت لمنطق المقاومة على منطق الدولة ولم تفقد بريقها و لا شعبيتها بوجودها في السلطة. القمة العربية لن تداري المواقف المخزية: إن الفجوة بين الأنظمة العربية و شعوبها في توسع و الوضع في غزة كشف ما عليه هذه الأنظمة من خيانة لقضايا الأمّة لأنّ الإهانة التي حصلت في غزة هي إهانة لحكامها بدرجة أولى و إن الدعوة لقمة عربية لن يغيّر من الأوضاع شيئا ولن يفرز غير البيانات ولن يداري الخذلان و الصمت ولن يوقف الهجمة الظالمة فبعد كل عدوان عودتنا الأنظمة العربية بمزيد من مشاريع الاستسلام والتنازل و"مبادرات السلام" من جانب واحد في حين تضرب إسرائيل بكل المعاهدات والمواثيق و الاتفاقيات بل تحاول وتسعى جاهدة لوضع المجتمع الدولي في إطار رؤيتها مستعينة بالدعم الأمريكي واللوبي الصهيوني المالي و الإعلامي القويين. إنّ غزة هي الهامة التي رفضت الاستسلام و لم تركع و كما قال رئيس الحكومة المنتخبة إسماعيل هنية "قد يسقط مزيد من الشهداء والجرحى ولكن لن تسقط غزة". وستبقى زيارة وزيرة خارجية الكيان الصهيوني "ليفني" لمصر قبيل العدوان بقليل عار على جبين النظام المصري وليس غريبا ولا مستبعدا أن تكون أبلغته بشنّ العدوان. وفي الأخير إنّ المقاومة ولئن دفعت ثمنا باهضا اليوم و قدمت التضحيات و الشهداء والجرحى فقد زادها العدوان تجذرا وقوة و أصبحت نموذجا مأمولا للشعوب العربية وباتت رقما صعبا على مشاريع الترويض الثقافي والسياسي ونجحت في الا ستعصاء على كل محاولات الاستئصال و الإبادة."ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي ّ عزيز" صبرا أهل غزة إنّ موعدكم إحدى الحسنيين. --------------------------------- *باحث وكاتب من تونس