جاءت الوفاة المفاجئة لشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي أمس في العاصمة السعودية الرياض، لتحيي في الأذهان عتابا وشجونا يدوران منذ سنوات بخلد الكثير من مثقفي الأمة العربية الإسلامية وعلمائها بشأن موقع ودور إحدى أهم وأعرق منارات الإسلام في ديارهم، مؤسسة الأزهر الشريف. وتدعونا أخلاق الإسلام المتنور السمح أن نطلب بدءا للفقيد الراحل الرحمة والغفران من العلي القدير، منوهين إلى أن نقدنا المستمر له من منبر صحيفة العرب العالمية، وخصوصا خلال السنوات الأخيرة من قيادته للأزهر لم يكن نقدا للرجل أو استهدافا للشخص بقدر ما كان نقدا للخيارات والمواقف، والتي كان فيها من السياسة أكثر مما فيها من العلم والدين. ومع أننا نعترف بأن ما اعترى الأزهر الشريف خلال السنوات الأخيرة من تراجع واضح في الدور وانصراف عن شؤون جوهرية للأمة العربية الإسلامية، يتجاوز شخص شيخه، إلى وضع عربي إسلامي عام يتسم بالضعف والتشتت سياسة وثقافة واقتصادا، إلا أننا نعترف في المقابل بأن رحيل سيد طنطاوي يمثل مناسبة لوقفة صدق مع الذات يقفها علماء الأمة المتنورون للبحث في أسباب ذلك الضعف وإزالتها. ولسنا بوارد تشخيص كل تلك الأسباب في هذا المجال الضيق، ولكنا نستطيع أن نؤشر إلى أحد أهمها، متمثلا في عملية التسييس الواضح والفج لمؤسسة الأزهر، والتي كان المرحوم سيد طنطاوي من رموزها وأدت إلى جعل الأزهر وهو مُلك للمسلمين جميعا مجرد مؤسسة محلية مصرية، بل تابعة للحكومة المصرية، مكلفة بتوفير الغطاء الشرعي لبعض مواقفها وسياساتها وخياراتها التي عسر على الشعب المصري ومن خلفه العرب والمسلمون هضمها، ناهيك عن إيجاد سند شرعي لها. ومع ذلك "اجتهد" شيخ الأزهر الراحل أيما اجتهاد في إيجاد ذلك الغطاء، لاويا عنق المنطق و"منفقا" بغير حساب من رأسمال المؤسسة الأول؛ مصداقيتها وعلميتها وانحيازها إلى الحق أولا. وفي هذا الباب يمكن استحضار مثالين هما الأقرب والأوضح دلالة على ما آلت إليه حال الأزهر الشريف من تبعية للسياسة، وأهلها: مسألة التطبيع مع إسرائيل، وقضية الجدار الفولاذي المصري العازل على الحدود مع قطاع غزة. في المسألة الأولى كانت الحاجة ملحة إلى مؤسسة من حجم الأزهر بما لها من سطوة على القلوب والعقول لتمرير تطبيع من الكيان الإسرائيلي بدا أن الشعوب العربية الإسلامية لا يمكن بأية حال أن تتقبله. والغريب أنه في الوقت الذي نأت فيه القيادة الدينية المسيحية في مصر ممثلة بالبابا شنودة بنفسها عن التطبيع ودعاته، سقط شيخ الأزهر المرحوم سيد طنطاوي –ربما بتأثير من الضغط السياسي- في الفخ الذي نصب له على هامش مؤتمر حوار الأديان بمقر الأممالمتحدة أواخر 2008 فمد يده مصافحا يد الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الملطخة بدماء الشعب الفلسطيني، في حركة لا يمكن فصلها -مهما كانت عابرة- عن رمزيتها الكبيرة ودلالتها العميقة، باعتبارها صدرت عن المسؤول الأول عن إحدى أكبر المؤسسات الدينية في العالم العربي، لتوحي بأن تلك المؤسسات قبلت بالأمر الواقع واستكانت لظلم المحتل الاسرائيلي وتنكيله بالفلسطينيين واعتدائه على سائر العرب. ثم جاءت مسألة الجدار لتؤكد أن السياسة استكملت اختطاف الأزهر، حين أملت على شيخه الإفتاء بتحليل إقامته، وتحريم نقده والاعتراض عليه!.. ومع أن المثالين السابقين ليسا الوحيدين في سياقهما، فإنهما يدلان بوضوح على انحراف مؤسسة الأزهر عن دورها الحقيقي، بل سيرها في الاتجاه المعاكس تماما لما هو منتظر منها، كمرجعية دينية تسهر على التنوير والتحرير وإنارة السبل لما فيه خير الأمة ومصلحتها، وخصوصا حين تتداخل السبل وتشكل الأمور وتتناسل "المرجعيات" الزائفة مثلما هو حادث في العديد من أقطار الأمة العربية الإسلامية اليوم. وقد كان للأزهر الشريف بما له من تاريخ ووزن علمي وديني وسلطان على العقول، أن يلعب أعظم دور في المرحلة الراهنة من تاريخ الأمة، وذلك بأن يربأ بنفسه عن التورط كطرف سياسي بما يؤهله ليلعب دور الحكم الموثوق به وصاحب الكلمة النافذة بين مختلف التيارات والاتجاهات التي ألحق صراعها أكبر ضرر بقضايا الأمة وحقوقها، ولا أدل على ذلك من صراع الأشقاء الأعداء الذي يمزق الساحة الفلسطينية، والذين أوكل شأن المصالحة بينهم بالكامل للساسة ورجال المخابرات وكان الأزهر أجدر وأقدر على القيام بذلك الدور، او على الأقل المساهمة فيه. كذلك لا نخلي مؤسسة الأزهر من مسؤولية المساهمة في جهد تحرير أجزاء من الوطن العربي والإسلامي من الاحتلال، بالوقوف إلى جانب المقاومات الحقيقية ونصرتها ولو بالمواقف والفتاوى التي تحض على دعمها وتحرم نصرة المحتل عليها. وإذا كان ثمة من يتمسك بتقديم الدور الديني للأزهر على ما سواه من الأدوار، فإن لهذه المؤسسة شغلا عظيما ينتظر منها إنجازه، في هذا الزمن العربي الإسلامي الذي عادت فيه الأسطورة تخالط الدين وتروج بقوة وقد وجدت لها منابر مفتوحة في وسائل الإعلام وخصوصا فضائيات الشعوذة والسحر والأبراج.. بل الأدهى والأخطر أن نوعا جديدا من "الوثنية" وعبادة الرموز والأشخاص بات ينتشر في عالمنا الاسلامي، فضلا عن تيارات الشطط والغلواء التي أضرت بالصورة الحقيقية لديننا الحنيف كدين للعقل والسماحة والاعتدال، ويسّرت على أعدائه شن الحرب عليه، وما حدث في سويسرا مؤخرا من استفتاء على منع تشييد المآذن ليس سوى أحد أوجه تلك الحرب. إن الأزهر الذي نريد هو ذلك المنبر العلمي الديني المتعالي عن صغائر السياسة، المنحاز للقضايا العادلة لأمتنا، والمساهم في نشر الصورة الحقيقية لديننا الحنيف الذي يأبى الظلم ويحرّم الانحياز إليه مهما كان مصدره.. أزهرَ مقاومًا للشطط والتطرف بمخلتف صنوفه عاملا على نصرة العقل حاثا على نبذ الطائفية والمذهبية عاملا على توحيد المسلمين على كلمة سواء. وبمنتهى الصراحة نخاطب رجال السياسة، وفي مصر تحديدا، أن ارفعوا أيديكم عن الأزهر فقد خنقتموه وقتلتم دوره، وجعلتموه أشبه بشعبة صغيرة في حزب سياسي، وبذلك خسرتم دوره وحرمتم الأمة إشعاعه الذي كان له من قبل. وإنا إذ نوجه هذا النقد لمؤسسة نكن لها كل التقدير والاحترام، فإنا نجدد التأكيد على أننا لا نحمّل الراحل محمد سيد طنطاوي مسؤولية كل ما اعتراها من ضعف وتراجع، فما كان المرحوم سوى بشر يخطئ ويصيب ويمكن تصنيف الكثير من مواقفه وأفعاله في باب "من اجتهد ولم يصب". "افتتاحية صحيفة العرب العالمية".