الصحبي عتيق* مقدمة: تمثل نصوص الوحي(القرآن والسنة) المصدر المركزي والتأسيسي للمعاني والمفاهيم والقيم التي تعطي للثقافة والحضارة مشروعية الاستمرار وهي المصادر التشريعية الأصلية والمرجعية العليا التي تمنح الشرعية في الإسلام،وهي بالطبع ليست على درجة واحدة من حيث الثبوت والدلالة والقابلية للتأويل ،فهناك كليات ثابتة ومبادئ عامّة وهناك مجملات واسعة ونصوص ظنية تحتمل وجوها شتّى من الفهم والتنزيل على الواقع وتأخذ أشكالا تبعا لتجارب الإنسان و ظروف الحياة المتطورة، وهناك أحكام قطعية لا تتأثر بظروف الزمان والمكان، وهناك أشكال من التنزيل ارتبطت بعهد نزول الوحي فلا بدّ من فهمها على ذلك المعنى بحيث لا تتجاوز المقدار المأثور عن الشّارع في ذلك كمسألة التشريعي وغير التشريعي والتّعبّدي والمعلّل في الأحكام عند علماء الأصول، يقول الإمام محمّد الطاهر ابن عاشور: "ولذلك كان واجب الفقيه عند تحقّق أنّ الحكم تعبّدي أن يحافظ على صورته وأن لا يزيد في تعبّديّتها كما لا يضيّع أصل التّعبّديّة ...فإنّ كثيرا من أحكام المعاملات التي تلقّاها بعض الأئمّة تلقّي الأحكام التّعبّديّة قد عانى المسلمون من جرّائها متاعب جمّة في معاملاتهم"و في هذا المجال لابدّ من تحديد معنى شرح السنة لنصوص القرآن حتى لا يختلط ما هو تشريع ثابت بما صاغه الواقع الخاص المتلبّس بعهد التنزيل،وهناك ما تركه الشارع عفوا لا نسيانا وتركه للاجتهاد وخاصة في مجال السياسة الشرعية والمعاملات المالية وتوزيع الثروة والأدوار التي تسند للمرأة في المجتمع. وهنا لابدّ من التفريق بين: - مفهوم الدين بما هو وضع إلهي مُوحى به لا تؤثّر فيه ظروف الزمان والمكان ويعبّر عن الحق في نصوص مقدّسة. - مفهوم المعرفة الدينية وأحوال التدين الظرفية و التاريخية التي تعبّر عن اجتهاد بشري مرشحة للتغيّر و الانفتاح. والخطأ الكبير هو في إضفاء المطلق على النسبي الزمني فيؤول الأمر إلى تقديس الفهوم البشرية التاريخية أو إضفاء النسبي على المطلق الإلهي المقدّس فيؤول الأمر إلى إخضاع الثوابت و القواطع المحكمة إلى النسبية و التاريخية. ومن ثمّ يقع الاختلال و الاختلاط في الوعي بين صورة الثابت و المتحوّل..وهذا محور القراءات الحداثية المعاصرة للنص الديني وخاصّة القرآني. وأبرز أصحاب هذه القراءات الكاتب بالفرنسية د.محمد أركون- وهو فرنسي من أصل قبائلي- وقد تولى ترجمة كتبه هاشم صالح ود.عبد المجيد الشرفي وهو مؤسّس كرسي الفكر الإسلامي والحضارة العربية بجامعة تونس ود. نصر حامد أبو زيد وعلي حرب وتلامذتهم . المفاهيم الأساسية : النص(الوحي)، اللغة ،الحقيقة إنّ ما تسعى إليه القراءات الحداثية هو "أنسنة" الخطاب القرآني بمعنى نقله من مستواه الإلهي المقدس إلى مستواه الأرضي وجعله مفتوحا على المقاربات النصية ذات البعد الحداثي فيطبّقون على النص القرآني المدارس المعاصرة للسانيات كالبنيويّة وهي فهم النص من خلال تركيبته الأدبية والقرائن التي تحفه، (حامد أبو زيد) والتّفكيكية وهي الانفلات من قيود النص وإلزاما ته عبر تحطيم أسس النص وبنيته(علي حرب) والسيميائيّة وهي دراسة الإشارات وهي تشمل الكلمات و الأصوات ولغة الجسد واللوحات والنصوص(أسس السيميائية ،دانيال تشاندلر ،المنظمة العربية للترجمة) يقول نصر حامد أبو زيد : "إنّ الكلام الإلهي لا يعنينا إلاّ منذ اللحظة التي تموضع فيها بشريّا"(النّصّ، السّلطة، الحقيقة). ذلك أنّ النّصّ عند هؤلاء ليس إلاّ إفرازا صراعيّا تبلور وتشكّل عبر الزمن ليصبغ على نفسه صفة القداسة والمعنى اللاهوتي ليصبح فيما بعد مصدر الاستمداد والهيمنة... لذلك فهو ظاهرة ثقافية تتصارع فيها كل مظاهر الوعي الذي ساد المحيط الثقافي في تلك المرحلة. فالحقيقة الموحى بها لا وجود لها إنّما هي ما يصنعه الإنسان وهو يمارس عملية التعقّل والفهم عبر التاريخ، يقول عبد المجيد الشرفي: "إنّ النّاس لا يعثرون على الحقيقة بل ينجزونها" (الإسلام بين الرسالة والتاريخ) فلا وجود عندهم لحقائق ثابتة جوهرية متعالية بل هي نسبية متحوّلة حسب تطوّر الوعي وضمن سياقاته الاجتماعية والثقافيّة وليس لأيّ مصدر مهما كان أن يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة. إنّ أصحاب هذه القراءة الحداثية يعتبرون التفاسير الموروثة حول الخطاب القرآني فرضت عليه قيودا بصفته الوحي المطلق الإلهي في مصدره ولغته (أركون: من التفسير الموروث) فهذه القراءات تنظر إلى الوحي القرآني نظرتها إلى أيّ خطاب آخر وتحاول إخضاعه إلى قوانين التطوّر الاجتماعي تبعا لظروف الزّمان والمكان المتأثرة بالأبنية الثقافية للواقع. وهذه المفاهيم الجديدة للنّصّ واللغة والحقيقة تنتهي إلى: 1- نزع القداسة عن النصوص. 2- إخضاع كل شيء للنقد والمراجعة وسنن التطوّر الاجتماعي. 3- القطيعة المعرفية مع التفاسير السائدة ونقد التراث التفسيري و تبخيسه . 4- الأنسنة بمعنى استقلال الإنسان بالمعرفة ورفضه لكل بعد غيبي. 5- تطبيق المدارس المعاصرة للسانيات على النص القرآني. يتبع... -------------------------------- *كاتب وباحث من تونس