فوز رئيس المجلس العسكري في تشاد في الانتخابات الرئاسية    بعد معاقبة طلاب مؤيدين لفلسطين.. رئيسة جامعة كورنيل الأمريكية تستقيل    بنزرت.. الاحتفاظ بثلاثة اشخاص وإحالة طفلين بتهمة التدليس    نبات الخزامى فوائده وأضراره    وزير الخارجية: تونس حريصة على المحافظة على العلاقات التّاريخية والطّبيعية التّي تجمعها بالاتّحاد الأوروبي    المرسى: القبض على مروج مخدرات بحوزته 22 قطعة من مخدّر "الزطلة"    بسبب التّهجم على الإطار التربوي.. إحالة ولي على محكمة الناحية بسوسة    استدعاء سنية الدّهماني للتحقيق    أولا وأخيرا...شباك خالية    للنظر في إمكانية إعادة تأهيل عربات القطار: فريق فني مجري يحل بتونس    أم تعنّف طفليها وتسبب لهما كسورا: وزارة المرأة تتدخل    شكري حمدة: "سيتم رفع عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات في أجل أقصاه 15 يوما"    الرابطة 1 (مرحلة التتويج) حسام بولعراس حكما للقاء الكلاسيكو بين الترجي والنجم    المدير الفني للجنة الوطنية البارلمبية التونسية ل"وات" : انطلقنا في الخطوات الاولى لبعث اختصاص" بارا دراجات" نحو كسب رهان التاهل لالعاب لوس انجليس 2028    تونس تفوز بالمركز الأول في المسابقة الأوروبية لزيت الزيتون    قبلي: تنظيم يوم حقلي في واحة فطناسة بسوق الاحد حول بروتوكول التوقي من عنكبوت الغبار    هام/ وزارة التربية: "نحن بصدد بلورة تصوّر جديد لمعالجة هذا الملف"..    المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بصفاقس تواصل حملتها على الحشرة القرمزية    اللغة العربية معرضة للانقراض….    تظاهرة ثقافية في جبنيانة تحت عنوان "تراثنا رؤية تتطور...تشريعات تواكب"    قابس : الملتقى الدولي موسى الجمني للتراث الجبلي يومي 11 و12 ماي بالمركب الشبابي بشنني    عاجل : إغلاق مطار دكار بعد إصابة 11 شخصاً في حادث طائرة    سلالة "كوفيد" جديدة "يصعب إيقافها" تثير المخاوف    سابقة.. محكمة مغربية تقضي بتعويض سيدة في قضية "مضاعفات لقاح كورونا"    181 ألف بناية آيلة للسقوط في تونس ..رئاسة الجمهورية توضح    نابل: الكشف عن وفاق إجرامي يعدّ لاجتياز الحدود البحرية خلسة    الزمالك المصري يعترض على وجود حكام تونسيين في تقنية الفار    أبطال أوروبا: دورتموند الأكثر تمثيلا في التشكيلة المثالية لنصف النهائي    زغوان: حجز 94 طنا من الأعلاف غير صالحة للاستهلاك منذ افريل المنقضي    كأس تونس: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ثمن النهائي    يمنى الدّلايلي أوّل قائدة طائرة حربية مقاتلة في تونس    دراسة صادمة.. تناول هذه الأطعمة قد يؤدي للوفاة المبكرة..    عاجل/ الحوثيون يعلنون استهداف ثلاث سفن بصواريخ وطائرات مسيرة..    الزغواني: تسجيل 25 حالة تقتيل نساء في تونس خلال سنة 2023    مفزع: 376 حالة وفاة في 1571 حادث مرور منذ بداية السنة..    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    حماية الثروة الفلاحية والغابية من الحرائق في قابس....و هذه الخطة    في وقفة احتجاجية أمام مقر الاتحاد الأوروبي.. "تونس لن تكون مصيدة للمهاجرين الأفارقة"    قضية مخدّرات: بطاقة ايداع بالسجن في حق عون بالصحة الأساسية ببنزرت    السلطات السعودية تفرض عقوبة على كل من يضبط في مكة دون تصريح حج.    مقارنة بالسنة الفارطة: تطور عائدات زيت الزيتون ب91 %    الثلاثي الأول من 2024: تونس تستقطب استثمارات خارجيّة بقيمة 517 مليون دينار    الفيلم العالمي The New Kingdom في قاعات السينما التونسية    كشف لغز جثة قنال وادي مجردة    على طريقة مسلسل "فلوجة": تلميذة ال15 سنة تستدرج مدير معهد بالفيسبوك ثم تتهمه بالتحرّش..    البطولة العربية لألعاب القوى للشباب: ميداليتان ذهبيتان لتونس في منافسات اليوم الأول.    عاجل/ نشرة استثنائية: أمطار متفرقة بهذه المناطق..    بطولة روما للتنس للماسترز : انس جابر تواجه الامريكية صوفيا كينين في الدور الثاني    كتاب«تعبير الوجدان في أخبار أهل القيروان»/ج2 .. المكان والزّمن المتراخي    آخر أجل لقبول الأعمال يوم الأحد .. الملتقى الوطني للإبداع الأدبي بالقيروان مسابقات وجوائز    «قلق حامض» للشاعر جلال باباي .. كتابة الحنين والذكرى والضجيج    محمد بوحوش يكتب...تحديث اللّغة العربيّة؟    مدْحُ المُصطفى    ستنتهي الحرب !!    إذا علقت داخل المصعد مع انقطاع الكهرباء...كيف تتصرف؟    عشرات الشهداء والجرحى والمفقودين جراء قصف متواصل على قطاع غزة    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرّسالة التّاسعة: أصول الوحدة العقائديّة المرجعيّة في تونس


- مقدّمة :
لا أبالغ إن قلت إنّ الإمام مالك رحمه الله تعالى ألهمه ربّه عزّ وجلّ بكلمات كأنّهنّ ياقوت ومرجان تعتبر بمثابة قواعد ذهبيّة ومبادئ إصلاحيّة وأصول عمرانيّة استقبلتها الأمّة بالاستحسان والاستجواد واتّخذتها مرجعيّة جامعة.
إنّها عبارة عن خطوط أساسيّة مانعة وأصول معالم في طريق وحدة عقائديّة ومذهبيّة جامعة لكلّ أبناء بلدنا الحبيبة. فإلى عمق المبادرة وإلى هذه الأصول العلمية والعملية والقواعد الذّهبيّة الّتي وضعها الإمام والتي ستتناولها المبادرة الإصلاحيّة، والتي تحتاج إلى مزيد من الشّرح والتّفصيل، أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يوفّقنا لشرحها.... و هذه المُلهمات هي:
أوّلا: في العقيدة: فقد وضع قواعد أجمع عليها أهل السّنّة وما فارقها إلاّ المعطّلة والمحرّفة، ومن هذه القواعد:
في باب الصّفات: يعدّ الإمام مالك رحمه الله تعالى إماما في الإثبات أي إجراء آيات الصّفات كما جاءت في الكتاب والسّنّة دون تأويل أي كَمَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ، وإليه يرجع أهل السّنّة والجماعة في هذا الباب فهو الذي وضع قواعدها المهمّة، والتّي منها:
أوّلا: "أمرِّوها كما جاءت" عن وليد بن مسلم قال: سألت مالكاً، والثّوري، والأوزاعي، واللّيث بن سعد عن الأخبار في الصّفات؛ فقالوا أمِرّوها كما جاءت"3.
ثانيا: لاَ يُقَالُ لَهُ: كَيْفَ؟ وَ"كَيْفَ" عَنْهُ مَرْفُوْعٌ: قَالَ أَبُو الرَّبِيْعِ الرَّشِيْدِيْنِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ:"الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى"كَيْفَ اسْتِوَاؤُهُ؟ فَأَطرَقَ مَالِكٌ، وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى" كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلاَ يُقَالُ لَهُ: كَيْفَ، وَ"كَيْفَ" عَنْهُ مَرْفُوْعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ، صَاحِبُ بِدْعَةٍ، أَخْرِجُوْهُ" 4.
ثالثا: إثبات صفة الاستواء: حيث وضع القاعدة الجليلة العامّة التي تضبط باب جميع الصّفات، فقال بصيغ متعدّدة"الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والكيف مجهول، والسّؤال عنه بدعة" وفي رواية "الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة"وفي رواية"الاسْتِوَاءُ مِنْهُ مَعْلُوْمٌ، وَالكَيْفُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُوْلٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ، وَالإِيْمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَإِنِّيْ لأَظُنُّكَ ضَالاًّ".
عن جعفر بن عبد الله قال: كنّا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله، "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"5 كيف استوى؟ فما وجد6 مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعودٍ في يده علاه الرّحضاء - يعني العرق - ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال:"الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة" وأمر به فأخرج.7.
وعليه فانّ مالكا - رحمه اللّه - قائد من قيادات أهل السّنّة وعلم من أعلامهم الّذين يثبتون للّه تعالى كلّ ما أثبته لنفسه ولا يقال له كيف أبدا. ويثبت له ما أثبته له رسوله - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - دون تأويل أو تحريف أو تشبيه. بل إنّ الإمام رحمه اللّه تعالى يعدّ مرجعيّة ذهبيّة في سنّ القاعدة الذّهبيّة في إثبات الصّفات لا نزيد على ما جاء به السّمع"الكَيْفُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُوْلٍ، وَالاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُوْلٍ، وَالإِيْمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ". وهذا ما سلّم به الإمام الأشعري - رحمه اللّه – في آخر حياته فقال:" وينكرون الجدل ويتنازعون فيه عن دينهم بالتّسليم للرّوايات الصّحيحة ولما جاءت به الآثار الّتي رواها الثّقاة عدلا عن عدل حتّى ينتهي ذلك إلى رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم – ولا يقولون كيف؟ ولا لم؟ لأنّ ذلك بدعة"8 .. كما سلّم بذلك أبو حامد الغزالي – رحمه الله – في آخر حياته فقال: "فأقلّ الواجبات عليه أي المكلّف ما اعتقده السّلف ... ويعتقد أنّ الاستواء حقّ والسّؤال عنه مع الاستغناء بدعة، والكيفيّة فيه مجهولة."
رابعا: إثبات صفة العلوّ:"اللهُ فِي السَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لاَ يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ" عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ مَالِكٌ:"اللهُ فِي السَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لاَ يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ"9. وهو هنا يردّ على من عطّل صفة علوّ اللّه تعالى وزعم أنّ اللّه تعالى لا فوق العالم ولا تحته ولا في جهة من الجهات السّتّ، ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متّصل بالعالم ولا منفصل عنه أو زعم بعض الجهميّة والصّوفيّة أنّ اللّه في كلّ مكان وفي كلّ شيء أو أنّ اللّه كلّ شيء كما يزعم الحلوليّون والاتّحاديّون. وهذا كلّه باطل ومنكر عظيم. والحقّ أنّ اللّه تعالى مستو على عرشه عال على كلّ خلقه، وأنّه في السّماء، وأنّ علمه وقدرته وملكه في كلّ مكان. وهنا لابدّ من بيان مسألة قد يثيرها المعطّلة وهي أن تعرف أنّ كون اللّه تعالى في السّماء ليس ككون الملائكة في السّماء، لأنّ كونها في السّماء كون حاجيّ، فهم ساكنون في السّماء لأنّهم محتاجون إلى السّماء، لكنّ الرّبّ تبارك وتعالى ليس محتاجا إليها، بل إنّ السّماء وغيرها محتاج إلى اللّه تعالى، فلا يظنّ ظانّ أنّ السّماء تقلّ اللّه أو تظلّه أو تحيط به...فالسّماء بالنّسبة للّه فهي جهة لأنّ اللّه تعالى مستو على عرشه ، لا يقلّه شيء من خلقه.10.
خامسا: إثبات صفة نزول الرّبّ جل وعلا في موطّئه: عَنْ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ"11.
سادسا: إثبات رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة: وهو هنا يخالف المعتزلة والجهميّة: قال ابن عبد البر: سئل مالك أيُرى الله يوم القيامة؟ فقال: نعم يقول الله عزَّ وجلَّ:"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ"12، وقال لقوم آخرين:"كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ"13و14. وفي رواية ابن نافع، وأشهب زيادة: يا أبا عبد الله:"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" ينظرون إلى الله؟ قال: نعم بأعينهم هاتين! فقلت له: فإنّ قوماً يقولون: لا ينظر إلى الله، إنَّ "نَاظِرَةٌ" بمعنى منتظرة الثّواب. قال: كذبوا بل ينظر إلى الله أما سمعت قول موسى عليه السلام:"رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ"15. أفترى موسى سأل ربّه محالاً؟ فقال الله:" لَن تَرَانِي"16 أي في الدّنيا لأنّها دار فناء ولا ينظر ما يبقى بما يفنى فإذا صاروا إلى دار البقاء نظروا بما يبقى إلى ما يبقى وقال الله:"كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ"17.
وهنا يردّ الإمام على المعطّلة الّذين أنكروا رؤية اللّه تعالى يوم القيامة جملة وتفصيلا كالمعتزلة والجهميّة، ومنهم من أثبتها ولكن بدون مواجهتهم للّه وبدون أن يكون اللّه فوقهم أو أن تكون الرّؤية نوعا من العلم والانكشاف لأنّهم ينكرون علوّ اللّه تعالى فهو عندهم لا فوق العالم ولا في جهة أخرى ولا متّصل بالعالم ولا منفصل عنه ولا خارج عن العالم ولا داخل فيه18.
وهكذا انتهى مالك إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه ومن غير صرف اللّفظ عن ظاهره، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تغيير، ولا تبديل بل ولا تحريف...فالإمام هو الّذي أسّس قاعدة الكيف للّه تعالى وإجراء النّصوص المتعلّقة بهذا الباب على ظاهرها وبالتّالي على حقيقتها. فهي كما قال رحمه اللّه كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلاَ يُقَالُ لَهُ: كَيْفَ؟؟؟
عقيدته في القدر وفي هذا الباب خالف القدريّة
يثبت الإمام – رحمه اللّه تعالى – كغيره من علماء السّلف الفاضل القدر الإلاهيّ بجميع مراتبه الأربعة: العلم و الكتابة و المشيئة أو الإرادة و الخلق. قال القاضي عياض: سئل الإمام مالك عن القدريّة من هم؟ قال:" من قال ما خلق الله المعاصي". وسئل كذلك عن القدريّة فقال:" هم الّذين يقولون إنّ الاستطاعة إليهم، إن شاءوا أطاعوا، وان شاءوا عصوا"19. وعن ابن وهب قال:"سمعت مالكاً يقول لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم، قال:"إنّ الله تعالى يقول:"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". فلا بدّ أن يكون ما قاله الله تعالى"20.
يقول مالك المغرب الصّغير ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى:"والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره ، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"، يضلّ من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكلّ ميسّر بتيسيره إلى ما سبق من علمه، وقدره من شقيّ أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، خالقاً لكلّ شيء، ألا هو ربّ العباد، وربّ أعمالهم، والمقدّر لحركاتهم وآجالهم"21.
عقيدته في القرآن الكريم: وفي هذا الباب خالف المعتزلة...
القرآن هو كلام اللّه تعالى: قال ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ، وَكَلاَمُ اللهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ مِنَ اللهِ شَيْءٌ مَخْلُوْقٌ"22. فهو هنا يردّ على من زعم أنّ القرآن مخلوق أو أنّه عبارة عن كلام اللّه النّفسي. وعن عبد اللّه بن نافع قال كان مالك بن أنس يقول:"من قال القرآن مخلوق يوجع ضربا ويحبس حتّى يموت"23. وعن يحيى بن الرّبيع قال: كنت عند مالك بن انس ودخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد اللّه، ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ قال مالك:"زنديق"24. وفي رواية ...فقال مالك: زنديق فاقتلوه. فقال: يا أبا عبد الله، إنما أحكي كلاماً سمعته. فقال: لم أسمعه من أحد، إنما سمعته منك، وعظَّم هذا القول.25
عقيدته في مسمّى الإيمان: وفي هذا الباب خالف المرجئة
عن عبد الله بن نافع قال:"كان مالك بن أنس يقول:"الإيمان قول وعمل"26. وعن عبد الرزاق بن همام قال:" سمعت ابن جريح وسفيان الثّوري ومعمّر بن راشد وسفيان بن عيينه ومالك بن أنس يقولون:" الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"27. وعن أشهب بن عبد العزيز قال:"قال مالك: فقام النّاس يصلّون نحو بيت المقدس ستّة عشر شهراً، ثمّ أُمروا بالبيت الحرام فقال الله تعالى:" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" أي صلاتكم إلى بيت المقدس، قال مالك:وإني لأذكر بهذه قول المرجئة: إنّ الصّلاة ليست من الإيمان"28.
قَالَ القَاضِي عياض:"وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ مَالِكٍ:" الإِيْمَان قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيْدُ وَيَنْقُصُ، وَبَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ".
فقوله: الإيمان قول وعمل ردّا على المرجئة الّذين لا يشترطون العمل في مسمّى الإيمان. ومعلوم أنّ أهل السّنّة يضبطون مسمّى الإيمان بالإقرار القلبي له وبنيّة خالصة لمفارقة النّفاق والتّلفّظ بكلمة الإخلاص لمفارقة الكفر، والعمل بأركانه لمفارقة الإرجاء وأن يكون كلّ ذلك موافقا للسّنّة لمفارقة البدعة.
كما تعدّدت عبارات أهل السّنّة والجماعة في تعريف مسمّى الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: قول باللّسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وتارة يقولون: هو قول وعمل ونيّة، وتارة يقولون: قول واعتقاد وعمل ونية واتّباع السّنّة وكلّ هذا صحيح وسليم للرّدّ على " المرجئة " الذين جعلوه قولاً فقط.
ومن ثم فإنه يمتنع أن يكون الشّخص مؤمناً بالله تعالى، مقرّاً بالفرائض، ومع ذلك فهو تارك للطاّعات، ممتنع عن فعلها طول دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان يوما ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحجّ إلى بيته وهو غنيّ مستطيع، ولقد وصف الله سبحانه الكفار بالامتناع من السّجود فقال:" يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ"29. وعلى هذه الحقيقة للإيمان أنّه لا يشترط فيه العمل بني المروزي - رحمه الله تعالى - كتابه:"تعظيم قدر الصّلاة" و الصّلاة هي أعظم الأعمال و أعمّها و أوّلها و أجلّها بعد التّوحيد، ودلالة الإسلام وعماد الدّين ومفتاح الجنّة فهي بهذا كلّه شعار المسلمين، ومن ثمّ يعبّر عنهم بها، فيقال: اختلف أهل الصّلاة، واختلف أهل القبلة. ولعظم شأنها عنون أبو الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى - كتابه في الاعتقاد باسم" مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين" أي أنّ غير المصلّي لا يُعَدُّ في خلاف ولا إجماع.
العقيدة في الصّحابة: وفي هذا الباب خالف الشّيعة
عن أبي بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قال مالك: «الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس له سهم - أو قال: نصيب - في الإسلام» 30. وفي رواية:" من تَنَقَّصَ أحداً من أصحاب رسول الله صلّى اله عليه وسلّم، أو كان في قلبه عليهم غلّ، فليس له حقّ في فيء المسلمين، ثمّ تلا قوله تعالى:" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".فمن تنقّصهم أو كان في قلبه عليهم غلّ، فليس له في الفيء حقّ"31. وعن رجل من ولد الزّبير قال:"كنا عند مالك فذكروا رجلاً يَتّنقَّص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية:" مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ - حتّى بلغ - يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ، فقال مالك:" من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد أصابته الآية"32. وعن أشهب بن عبد العزيز قال:"كنّا عند مالك إذ وقف عليه رجل من العلويّين وكانوا يقبلون على مجلسه فناداه: يا أبا عبد الله فأشرف له مالك، ولم يكن إذا ناداه أحد يجيبه أكثر من أن يشرف برأسه، فقال له الطّالبي: إنّي أريد أن أجعلك حجّة فيما بيني وبين الله، إذا قدمت عليه فسألني، قلت له: مالك؟ فقال له: قُل. فقال: من خير النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: أبو بكر! قال العلويّ: ثمّ مَن؟ قال مالك: ثمّ عمر! قال العلويّ: ثمّ من؟ قال: الخليفة المقتول ظلماً، عثمان! قال العلويّ: والله لا أجالسك أبداً. فقال له مالك: فالخيار إليك"33. وقال رحمه الله تعالى عن الذين يسبّون الصّحابة: «إنّما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتّى يقال: رجل سوء، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين»34.
وجاء في المدارك: «دخل هارون الرّشيد المسجد، فركع ثمّ أتى قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ أتى مجلس مالك فقال: السّلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال مالك: وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته، ثمّ قال لمالك: هل لمن سبّ أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الفيء حقّ؟ قال: لا ولا كرامة، قال: من أين قلت ذلك؟ قال: قال الله: "لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ"35، فمن عابهم فهو كافر، ولا حقّ للكافر في الفيء" واحتجّ مرة أخرى بقوله تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ"36، قال:" فهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين هاجروا معه وأنصاره، "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"37، فما عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه"38.
أمّا الأرض التي يسبّ فيها الصّحابة قال رحمه الله تعالى:"لا يُجلَسُ في أرضٍ يُسبُ فيها أبو بكر وعمر".
ومن خلال هذه الأصول التي مرّت بك أخي القارئ يمكن أن نلاحظ:
سماحة هذه القواعد واعتدالها وبساطتها وموافقتها للفطرة القويمة والعقل السّليم ووضوحها وسهولتها وسلامتها من الغلوّ والجفاء والإفراط والتّفريط والشّبهة والغموض والتّعقيد والالتواء والفوضى لأنّ هذه المسائل عقيدة يجب فيها تعظيم النّصّ والتّسليم للّه ولرسوله ومن ثمّ يجب أن نعتمد فيها على الأصول الثّابتة والصّحيحة والجامعة وهي الكتاب والسّنّة وإجماع الصّحابة، من أجل ذلك لاقت تلك المقولات قبولا لدى أهل السّنّة والجماعة وصارت قواعد مُحكِمة وأصولا مُحَكِّمة...
هذه أخي القارئ بعض الثّوابت العقديّة التي لا تقبل الخلاف والجدل والتي لا تخضع للمساومة لأنّها دين وصدق نسبة للنّبيّ وصحبه التي بيّنها الإمام مالك، والمساومة عليها خيانة عظمى، وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه، وتفريط وضياع ونقض بعد غزل، وحلٌ بعد عقد، وذلّ بعد عزّ، " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ"39
أتى هذا المقال من تونس المسلمة
http://www.tunisalmoslima.com
1 الأنفال 36
2 الصّفّ 9.
3 الصّفات للدّارقطني ص75، الشّريعة للآجريّ ص314، الاعتقاد للبيهقي ص118، التّمهيد لابن عبد البرّ7/149.
4 سير أعلام النّبلاء 8/101.
5 طه: الآية 5 ....
6 جاء في لسان العرب 3/ 446: وجد عليه في الغضب يُجِدُ وجداً ومَوْجِدَة ووجداناً غضب، وفي حديث الإيمان، إني سائلك فلا تجد عليَّ أي لا تغضب من سؤالي...
7 الحلية لابي نعيم 6 /325، عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص17-18، التمهيد 7 /151، الأسماء والصفات للبيهقي ص407، قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/ 406 407: إسناده جيد. وصحّحه الذّهبي في العلوّ ص103 8 مقالات الإسلاميّين1/347.
9 مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص263، السنة لعبد الله بن أحمد ص11 الطبعة القديمة، و فِي كِتَابِه "الرَّدِّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ"، التمهيد لابن عبد البر7/138.
10 القول المفيد، شرح كتاب التّوحيد1/51.
11 رواه مالك في الموطأ 1/214 والبخاري 7494 ومسلم 1/522.
12 سورة القيامة: الآيتان 22 23.
13 سورة المطففين: 15.
14 الانتقاء ص36.
15 الأعراف: 143.
16 سورة الأعراف: 143.
17 سورة المطفّفين: 15. أورده القاضي عياض في ترتيب المدارك 2/42.
18 انظر إلى منهاج السّنّة 3 / 340 وتلبيس الجهميّة 72- 78 لشيخ الإسلام.
19 ترتيب المدارك2/ 48 شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة والجماعة لللاّلكائي2/701.
20 أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/326.
21 انظر مقدّمة رسالة الإمام في موقعنا في ركن العقيدة.
22 سير أعلام النّبلاء 8/102.
23 أخرجه ابن عبد البرّ في الانتقاء ص35.
24 الحلية لابي نعيم6/325، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعةللاّلكائي1/249، ترتيب المدارك للقاضي عياض 2/44.
25 المصدر السّابق.
26 أخرجه أبو نعيم الحلية6/327.
27 أخرجه ابن عبد البر في الانتقاء ص34
28 نفس المرجع.
29 القلم42.
30 رواه الخلاّل في السّنّة 2/557.
31 أخرجه أبو نعيم في الحلية6/327.
32 أخرجه أبو نعيم في الحلية 6 /327.
33 أورده القاضي عياض ترتيب المدارك 2/4445.
34 رسالة في سبّ الصّحابة، عن الصّارم المسلول ص:580.
35 الفتح:29.
36 الحشر:8
37 الحشر:10
38 القاضي عياض 2/46
39 المنافقون: 8


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.