من يقرأ تدافعات موازين القوى المتعلقة بالقضية المركزية الأم للأمة الإسلامية (فلسطين بقدسها الشريف) يدرك بيسر أنّ الكيان الغاصب اللقيط إسرائيل يعيش أزمة غير مسبوقة منذ زرع ظلما وبغيا في قلب أمتنا عام 1948. أزمة بدت إرهاصاتها منذ هزيمة إسرائيل في وجه حزب الله اللبناني عام 2006 المعروفة بحرب تموز. تلك نقطة الأزمة التي لم يشهد بعدها الكيان المحتل حتى اليوم إلا ضربة موجعة من بعد ضربة موجعة. أزمة لم يصنعها حلف دول ما سمي بالاعتدال (وما هو بمعتدل ولا بمحايد حيال القضية المركزية الأم للأمة ولكنه حلف دول الخنوع والخضوع للشروط الأمريكية والأروبية الرباعية والإسرائيلة).. ولا صنعها خلفاء المرحوم ياسر عرفات ممن باعوا المنظمة وقلبها النابض فتح للكيان الصهيوني بثمن بخس.. ولا صنعتها المفاوضات العبثية التي يضحك بها سماسرة القضية على ذقوننا صباح مساء.. ولا صنعتها الصدف العمياء ولا مكان للصدف العمياء في أقدار الرحمان سبحانه وشبكة سننه وأسبابه التي أودعها كونه وخلقه.. ومن باب أولى وأحرى ألا تكون صانع تلك الأزمة إسرائيل ذاتها بسبب أنّ الموقف الإسرائيلي بحمائمه المزعومة وصقوره على قلب رجل واحد حيال القضية: لا حق للفلسطينيين في كل فلسطين أولا ولا حق لهم إلا في فتات من الأرض صغير محاصر مخنوق من إسرائيل بمثل ما هو مخنوق من "دول الطوق" سيما مصر العربية والأردن الهاشمية.. ثانيا. ولا حق لهم في ذلك الفتات المحاصر المخنوق إلا بقدر توبتهم عن إثم المقاومة في وجه الجيش الذي لا يقهر ثالثا.. يستوي في ذلك تحديدا يمين إسرائيل مع يسارها ومتدينوها مع عالمانييها بل يستوي في ذلك الأقحاح منهم أبا عن جد مع الوافدين من الفلاشا الإفريقية وروسيا وبولندا وغيرهم ممن تستخدمهم إسرائيل سلاحا فتاكا في الحرب الديمغرافية الحامية.. أزمة لم تصنعها سوى المقاومة وليس سوى المقاومة. المقاومة التي قيض الله لها رجالا يهبونها الأرواح والأموال والأوقات ومتاع الدنيا ابتغاء مرضاته وتحريرا للوطن المحتل.
إليك مسلسل الخيبة الإسرائيلية منذ بدايتها في حرب تموز 2006.
1 2008- 2009: الهولوكوست الصهيوني الحارق ضد غزة بمباركة دولية ووهن عربي. صمود غزة تلك الرقعة الصغيرة التي لا تكاد تساوي ملعب "قولف" في البلدان الغنية على امتداد أسابيع طويلة في وجه أعتى قوة نووية شرق أوسطية مسنودة من أقوى الدول الغربية عدة وعتادا.. ذاك صمود لا يعني في الاستراتيجيا الحربية سوى نصرا مبينا.
2 عجز الاستخبارات المصرية متحالفة مع القصف الإسرائيلي عن تخليص الجندي الإسرائيلي المأسور جلعاد شاليط حتى الآن أي منذ 2006 لا يعني ذلك كذلك في القاموس الاستخباري والحربي سوى عجزا وخيبة في وجه الكيان الكالح اللقيط. ربما كانت أول أهداف المحرقة ضد غزة قبل عامين هو: تخليص جلعاد شاليط بالقوة. ولم تكن زيارات كبراء الاستخبارات المصرية بكبيرهم الذي علمهم السحر الاستخباراتي والخنوع الصفيق تحت الأحذية الصهيونية القذرة.. لم تكن تلك الزيارات المتكررة إلى غزة إلا تجسسا لصالح إسرائيل لعلهم يظفرون بمكان احتجاز جلعاد فيظفرون بشهادة رضى إسرائيلية يوفرون بها قروشا إضافية للميزانية المصرية من السحت الأمريكي.
3 ها هو اليوم جلعاد شاليط يقايض بألف أسير فلسطيني على الأقل وحماس المقاومة هي من يفرض الشروط ويحدد العدد والزمان والمكان وجنسية الوسيط وغير ذلك بمثل ما كان يفعل ذلك حزب الله مع أسرى إسرائيل. ألا يعد ذلك نصرا مبينا وخيبة واسعة ضارية في الصف الإسرائيلي؟ بلى. ربما يأتي زمن يقايض فيه جلعاد شاليط بكل الأسرى دون تحفظ على واحد منهم بمن فيهم من اتهمته إسرائيل بقتل هذا الصهيوني أو ذاك السفاح. عندما يساوي أحد أسرى عدوك لديك ألفا من أسراك عنده فذلك يعني أنك أنت المنتصر وأنك أنت صاحب الموقف الأعلى. تلك هي السياسة وتلك هي المفاوضات. أما المفاوضون على مزيد من ذبحهم وقتلهم واحتلال أرضهم أو بيع كرامتهم ليدخلوا إلى هنا أو هناك حقراء أذلاء.. أولئك لم يخوضوا مفاوضات ولا يعلمون من المفاوضات إلا اسمها أو رسمها.
4 قضية الشهيد المبحوح قبل شهور من هذا العام 2010. تلك فضيحة مدوية بكل المقاييس السياسية. هي أول فضيحة سياسية منذ إنشاء الكيان اللقيط اهتزت لها تمثيليات ذلك العدو في أكثر من دولة أروبية وغربية. آخرها تسليم الجاسوس المقبوض عليه في بولندا إلى ألمانيا في هذه الأيام. عندما تهتز العلاقات الإسرائيلية الأروبية بالشكل الذي عايشناه قبل أسابيع.. عندما تهتز تلك العلاقات في الدول التي ترعى الكيان اللقيط ماليا وتسهيلات تجارية.. عندما تهتز تلك العلاقات في دول أروبية تسلط على مواطنيها أسياف معاداة السامية التي لم تعد تعني سوى معارضة الخيار الإسرائيلي الخارجي.. عندما يكون ذلك فإنّ ذلك لا يعني سوى أنّ الكيان يعيش أزمة لم يتعرض لها منذ انتصابه.. عندما يكون ذلك فإنّ ذلك لا يعني سوى أنّ إسرائيل أصبحت عبئا أروبيا.
5 أسطول الحرية وتداعياته. في هذا الأمر بالذات كما في قضية اغتيال المبحوح هناك درس جدير بالالتقاط. درس عنوانه: كلما كانت المقاومة أي مقاومة في أي حقل مخضبة بالدماء دماء الشهداء التي تهراق ظلما وهي تقاوم بالطرق المعروفة سواء كانت عسكرية في مواضع ذلك من مثل فلسطين أو مدنية في خارج ذلك وليست دماء الذين ليس لهم من المقاومة والجهاد إلا اسمه أو رسمه .. كلما كانت المقاومة مخضبة بدماء الشهداء آتت أكلها ولو بعد حين. ذلك درس يقيني من التاريخ الذي لا تكذب ذاكرته أهله. أبرز ثمار تلك الدماء الزكية هو فقدان إسرائيل لشريكها التركي. خسارة العدو الصهيوني لحليفه التركي ليست خسارة هينة بل هي إفلاس كبير في عالم موازين القوى السياسية. ألا ترى أنّ إسرائيل اليوم تواجه التصريحات التركية التصعيدية المهددة بقطع العلاقات الدبلوماسية بالكلية إذا لم توافق إسرائيل على لجنة دولية أممية مستقلة للتحقيق في مجزرة أسطول الحرية.. ألا ترى أنّ إسرائيل تواجه كل ذلك بالصمت وليس من عادتها ذلك؟ ألم يرغم أنفها لأول مرة من لدن شريكها التركي التقليدي؟
ألا ترى أنّ أسطول الحرية هو الذي أكره زعماء عرب على زيارة غزة المحاصرة الصامدة لفرط شعورهم بالعار والشنار؟ منهم أمين عام جامعة الدول العربية وربما يكون من بعده عقيد ليبيا وغيرهما.. في كل الأحوال هي هزيمة للحصار وانتصار لغزة الصامدة حتى لو كان أولئك الزوار لن يقدموا شيئا بزيارتهم ولن تتأخر القضية بقعودهم..
بكلمة واحدة: أسطول الحرية أحدث إحراجات واسعة وكبيرة في الصف العربي الرسمي. ترى هل يكون ذاك تأثيره لو لم تمزج مياه المتوسط بدماء الشهداء الأبرار؟ ليس معنى ذلك أنّ الشهداء يطلبون عدوهم أو يصرون على المواجهة. ولكن معنى ذلك أنّ المقاومة لا بد لها من ذاك. ذلك هو ثمن المقاومة ولكنه في الصف العدو أشد وأحرج.
6 مجلس اليهود الألماني. في الخامس من تموز يوليو الجاري فاجأ المجلس المركزي لليهود في ألمانيا وهو أكبر منظمة يهودية في ألمانيا بموقفه المراقبين حيث اعتبر السكرتير العام للمجلس المركزي لليهود في ألمانيا "ستيفان كراما" أنّ ما يجري في إسرائيل يهدد بتحولها إلى دولة للقوى الأصولية والقومية اليهودية المتطرفة وذلك تعقيبا على مجزرة أسطول الحرية ضمن تصريح للصحيفة الألمانية المعروفة "طاقس تصايتونق".
7 موقف البرلمان الألماني من الحصار على غزة. لم يقتصر رد الفعل الألماني على الجانب اليهودي بل تعداه إلى البرلمان الألماني ذاته الذي أدان حصار غزة لأول مرة. بل ربما لأول مرة يتخذ البرلمان الألماني أعلى سلطة تشريعية في البلاد ومعلوم أنّ ألمانيا هي أكبر داعم مالي سنوي لإسرائيل منذ عقود طويلة باسم التكفير عما يعرف بالهولوكوست ضد اليهود في عهد الزعيم الألماني الشهير أدولف هتلر موقفا إيجابيا نسبيا من القضية الفلسطينية بصفة عامة وحصار غزة في إثر مجزرة أسطول الحرية بصفة خاصة سيما في ظل عقود طويلة من حكم اليمين "المسيحي المحافظ" الذي هيمن على البلاد إلا في غفلة منه قبل سنوات معدودات عندما صعد الاشتراكيون بزعامة المستشار السابق جرهارد شرودر.
8 ارتفاع عدد المنتحرين في الجيش الإسرائيلي من 12 عام 2009 حتى 19 حتى شهر يونيو حزيران من عام 2010. ذلك وجه آخر من وجوه الخيبة الإسرائيلية. خيبة تصيب المؤسسة العسكرية ذاتها التي تعول عليها إسرائيل لضرب حزب الله شمالا وحماس جنوبا. معدل الانتحار الجديد يكاد يصل حد انتحارين في كل شهر.
إقرأ ماذا كتب الخبير الفلسطيني وأحد أكبر قراء التحولات الدولية الأستاذ منير شفيق: قال: "إنّ العالم عموما دخل في مرحلة شبه توازن استراتيجي بين القوى المسيطرة سابقا والقوى الصاعدة حاليا". وكان قد ذكر في فقرة سابقة بعض تلك القوى الصاعدة وهي بحسبه: "الصين والهند والبرازيل وإيران وربما روسيا وتركيا ومن بينها قوى مقاومات وممانعات شعبية في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان ودولا مثل سوريا وفنزويلا وبوليفيا".
ما هو الدرس الأكبر؟
ليس هو سوى أنّ المقاومة في سبيل أي قضية عادلة تفرض تقديم قرابين الشهادة من جانب بالغ ما بلغت التحوطات والأحذار سنة الله في كونه وخلقه ومن جانب آخر فإنّ كل قضية مقاومة يستوي في ذلك أن تكون مقاومة للاستبداد السياسي في البلاد العربية أو مقاومة العدو الصهيوني المحتل لا بد لها أن تثمر يوما إذا صبر على لأوائها الصابرون ولم تخدعهم سرابات الدجالين والكذابين والمهرولين يهشون في وجه كل كالح شائه يستجدون ما لا يُستجدى في القانون الفطري والسنني والسببي العام. يستجدون ما لا يوهب إلا بالمقاومة.