ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدرسة الصراعات في قصّة قابيل و هابيل
نشر في الخبير يوم 27 - 01 - 2012

روى القرآن قصّة قابيل و هابيل لما فيها من عبر و حكم ينتفع بها المؤمنون، و تكون لهم نبراسا يضيء لهم الطريق...
، و يسهّل لهم كيفية التعامل بين الأشقّاء و فهم كنه الترابط الأسري و كيفية القضاء على تفكك العائلات، و يمنع انحراف الأحداث، الذي يعتبر شغلنا الشاغل في تونس و قضيتنا المشتركة..
كتب السير و المصادر التاريخية تقول بأنّ قابيل كان رجلا ذا شخصيّة مريضة، تمتزج بها عناصر الشرّ و تسيطر على تصرّفاتها دواعي الطمع و الإثم و العدوان و التمرّد على حكم الحقّ، و رفضه كصفة ملاصقة للحياة البشريّة.. و كان أخوه هابيل رجلا صالحا تقيًّا يطمئنّ للحقّ و يعتبره وثيقة لضمان السلم الاجتماعية.. و قد وقع بينه و بين أخيه خلاف و صراع يقع مثله عادة بين أفراد العائلة الواحدة في وقتنا هذا، و يتكرّر على مدى الحياة ما دامت أبدا، إنّه صراع بين الخير و الشرّ، الّذي انتهى بأن قتل قابيل أخاه هابيل..
و في سبب وقوع النّزاع بينهما قولان:
* الأوّل: أنّ هابيل كان صاحب غنم، و قابيل كان صاحب زرع، فقرّب كلّ واحد منهما قربانًا، فاختار هابيل أحسن كبشٍ في غنمه و جعله قربانًا، و أخذ قابيل شرّ حنطة أنتجتها أرضه فجعلها قربانًا، ثمّ تقدّم كلّ منهما بقربانه إلى الله، و كان علامة قبول القربان، نزول نار من السّماء تحرقه، فنزلت على كبش هابيل فأحرقته، و تركت قربان قابيل، فعلم قابيل أنّ اللهَ قَبِلَ قربان أخيه و لم يقبل قربانه فحسده و قتله.. هذا السبب الأوّل..
* و الثّاني: ما روي أنّ آدم عليه السلام، كان يُولد له في كلّ بطن من حوّاء ذكر و أنثى، و كان يزوّج البنت من بطنٍ بالولد من بطن آخر، فولد أوّلا قابيل مع توأم أنثى، و بعده وُلد هابيل و توأمه الأنثى، و كانت توأم قابيل أحسن الإناث وجهاً فأراد آدم عليه السلام أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل ذلك و قال: أنا أحقّ بها و هو أحقّ بأخته و ليس هذا من الله تعالى، و إنّما هو رأيك، فقال آدم عليه السلام لهما: قرّبا قربانا فأيّكما قُبِل قربانه زوّجتها منه، فقبل الله تعالى قربان هابيل بأن أنزل على قربانه نارًا، فالتهمته، فقتل قابيل أخاه حسدًا له.. و إلى عدم قبول قربان قابيل أشار القرآن بقوله تبارك و تعالى: " و اتْلُ عليهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بالحقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ من أحدِهِما و لَمْ يُتَقَبَّلُ مِنَ الآخَرِ قال لأقْتُلَنَّكَ قال: إِنَّما يتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يدك لتقتُلَني ما أنا بِبَاسِطٍ يَدَيَّ إليْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العالمينَ * إِنِّي أُريدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمي و إِثْمِكَ فَتَكُونَ من أصْحابِ النَّارِ و ذلك جزاء الظّالِمينَ * فَطَوَّعَتْ له نَفْسُهُ قتلَ أخيه فقتله فأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرينَ ". ( المائدة الآيات: 27/30 ).
لنقف قليلا عند قوله تعالى: " فتُقُبِّلَ من أحدهما و لم يُتَقَبَّل منَ الآخر قال لأقْتُلَنَّكَ قال: إنَّما يَتَقَبَّل الله مِنَ المتَّقين "، لقد كانت كلمة التقوى الجارية على لسانِ هابيل وهو يخاطب أخاه قابيل جديرة بأن تقضي على إرادة الشرّ في نفسه، و لكن هيهات فقابيل ليس من أهل التقوى و الطّاعة، فلذلك لم يقبل الله قربانه، و الحسد الّذي غمر قلبه جعله طافحا بالعزم على قتل أخيه..
ثم ننتقل إلى قوله سبحانه وهو يحكي على لسان الأخ المظلوم: " لئن بسطت إليّ يدك ما أنا بباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربَّ العالمين ". في هذه الآية تتراءى لنا نفسيّة هابيل الخيّرة التي خالتطها التقوى و سيطر عليها الخير، فهي تَأْبى أن تقابل السيّئة بمثلها، لأنّ القتل لا يتّفق مع صفاتها و شمائلها، فهي تخاف اللهَ ربَّ العالمين، و من يخاف الله لا يعتدي على أحد، فخيفة الله أعظم رادع عن الإجرام على هذه الأرض، فإذا عرف المربُّون و المصلحون أن يُوجِّهوا الناس إلى الإيمان بالله و مراقبته في أعمالهم و الخوف من معصيته حصلوا على المجتمع المتماسك الّذي يسوده السّلام و الأمن و الطمأنينة..
و لكن قابيل الّذي سيطر عليه الشرّ نفّذ فعلته الشنيعة: " فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ". نفهم من هذه الآية أنّ الصراع لم يكن بين قابيل و هابيل، و لكن الصراع بين قابيل و بين نفسه الأمّارة بالسّوء، و بينه و بين النوازع الشّريرة و الإرادات الخبيثة، و كان الواجب أن يعمد قابيل إلى هذه الأهواء فيكبح جماحها و يخلص من أسرها، و لكنّه عجز أمام ضعفه، و جبروت شهواته، و تحوّل إجرامه إلى قتل أخيه و هذا أعنف ضروب الحسد.. لقد كان الحسد أوّل ذنب عُصي الله به في السّماء، و أوّل ذنب عُصي به في الأرض، أمّا في السّماء فحسد إبليس آدم، و أمّا في الأرض فحسد قابيل هابيل..
الندم و الدّرس
و لمّا قتل قابيل أخاه تركه لا يدري ما يصنع به، فبعث الله غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره و رجليه ثمّ ألقاه في الحفرة، و لمّا رأى قابيل الغراب يدفن الغراب الآخر، رقّ قلبه و لم يرض أن يكون أقلّ شفقة منه، فوارى أخاه تحت الأرض وهو متحسّر متلهّف نادم على فعلته، قائلا في نفسه: أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب، و هذا ما ذكره الحقّ تبارك و تعالى بقوله: " فبعث اللهُ غُرابًا يبحثُ في الأرضِ لِيُرِيَهُ كيفَ يُواري سَوْءَةَ أخيهِ، قال: يا ويْلَتَا أَعجزْتُ أنْ أَكون مثل هذا الغراب فأُوارِيَ سَوْءَةَ أخي فأصْبَحَ مِنَ النادمينَ ". ( المائدة الآية: 31 )
ثمّ يُعقِّب اللهُ على قصّة قابيل و هابيل ببيانِ الإثم العظيم لمن يعتدي على النّفْس الإنسانية بالقتل إذ يقول تعالى: " من أَجْلِ ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قَتَل نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنَّما قَتَلَ النَّاسَ جميعًا ". ( المائدة الآية: 32 ).
الصراع الأزلي بين الخير و الشرّ
ما هي الدّروس و المواعظ و العبر التي خرجنا بها من هذه القصّة ؟!! و ما هو مصير العالم إذا ما تغلّب الشرّ على الخير كما نشهد في يوم الناس هذا ؟!!
للإجابة نقول: لم يخل عصر من العصور منذ أن خلق الله تعالى السماوات و الأرض إلى قيام السّاعة من الخير و الشرّ، " و لن يخلو " من فريقين من الجنّ و الإنس، هما: المؤمنون و الكافرون، أو أهل الخير و أهل الشرّ. و لو تأمّلنا في قصص من قبلنا من المخلوقات الإنسيّة، لوجدنا المشهد نفسه يتكرّر بين الفريقين، فأهل الخير يعرفون أنّهم أهل الخير، و لكن أهل الشرّ لا يعرفون أنّهم أهل الشرّ، بل يظنّون أنّهم هم قوى الخير، و يقومون بمحاربة أهل الخير و يتّهمونهم بأنّهم قوى الشرّ، حتّى لو كانوا أنبياء و رسلا من عند الله تبارك و تعالى..! و هذا ما كان يحدث مع كلّ نبيّ و رسول مع قومه الكفّار الأشرار الذين يحاربونه هو و أتباعه، و يتّهمونهم بأنّهم أشرار و أصحاب ضلال يستحقّون القتل أو السجن و التعذيب أو الطرد من الدّيار، كما قال الشّاذون القذرون فيما ذكره الله تعالى عنهم: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهّرون.! فالطّهارة عن الشّذوذ و النجاسات التي يمدح الله عليها تصير شيئا مرفوضا سيّئا و شرّا بنظرهم يستحقّ الإخراج من البلد، أمّا الشذوذ و ارتكاب الرجل الفاحشة مع رجل مثله فهو بنظرهم خير و حرّية و حقّ من حقوق الإنسان يستحقّ عليها التقريب و الاحترام..
و يتّهمون رسول الله و أتباعه بأنّهم حاسدون لهم و كارهون، و أنّهم مفسدون في الأرض، كما قال فرعون الملعون عن موسى عليه السلام و قومه المؤمنين المسلمين من بني إسرائيل فيما ذكره الله تبارك و تعالى عنه: ذروني أقتل موسى، و ليدع ربّه، إنّي أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.. ففرعون يعتقد بأنّ موسى و المؤمنين هم من أهل الشرّ، و يخاف أن يبدّلوا الدّين و يفسدوا في الأرض!! لأنّ فرعون يظنّ نفسه و قومه على دينٍ صحيحٍ، و أنّهم أهل الخير و الرّشاد، و لهذا يقول لقومه بلهجة جبريّة " دكتاتورية " فيما ذكره الله عنه: ما أقول لكم و أشير عليكم إلاّ ما أراه لنفسي، و ما أدعوكم إلاّ إلى طريقِ الحقِّ و الصّدقِ و الرشدِ، و أنّ من لم يكن معنا و يتبعنا و يسلك سبيلنا فهو ضدّنا و عدوّنا !! و لهذا لمّا كان موسى عليه السلام و قومه ضدّهم اجتهد فرعون في محاربتهم و تعذيبهم و إذلالهم، و لمّا رحلوا عنه لم يتركهم و شأنهم، بل خرج هو و جنوده في مطاردتهم، و أسرع إلى اللّحاق بهم وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، و لم يدر هذا الكافر البغيض أنّه يُسرع إلى حتفه و الغرق في البحر، ليجعل الله تبارك و تعالى منه عبرة لمن خلفه من الحكّام الكفرة الظلمة الذين يسيرون على نهجه و يتبعون طريقته في الحكم و إرغام الناس على ما يرونه صحيحا و راشدا، في حين أنّه الكفر و الضلال، و الكذب و الإفك و البهتان..
و قد اتّهم المشركون محمّدا صلى الله عليه و سلم بالسحر و الكذب، لكونه دعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد و نبذ ما يعبدون من الآلهة التي يصنعونها بأنفسهم من الخشب و الحجارة..فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحد، إنّ هذا لشيء عُجاب.. فالشرك و عبادة الأصنام و الآلهة المتعدّدة، هي باعتقادهم دين سليم صحيح، فظنّوا أنّهم هم أهل الخير دون غيرهم!! أمّا رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي بلّغهم بأنّ الله ربّ العلمين و فاطر السماوات و الأرض هو واحد و لا إله غيره، فهو بنظرهم قد اختلق هذا الأمر، لأنّه يريد الشرف و الاستعلاء، و أنّ ما جاء به هو شرٌّ و أنّ من يتبعونه من الناس هم أهل الشرِّ!!
هكذا كان الموقف دائما بين المؤمنين الأخيار و الكافرين الأشرار، و سيظلّ الموقف نفسه يتكرّر في كلّ عصر و في كلّ بلد إلى آخر الزمان، فمن سنّة الله سبحانه: " و تلك الأيّامُ نُداولُها بين الناسِ و ليعلم اللهُ الذين آمنوا و يتّخِذ منكم شُهداءَ و اللهُ لا يُحِبُّ الظّالمين ٭ و ليُمَحِّصَ اللهُ الذين آمنوا و يمْحَقَ الكافرين ٭ أمْ حسبتم أن تدخُلُوا الجنَّة و لمّا يعلمِ اللهُ الذين جاهدوا منكم و يعْلَمَ الصّابرين ٭. ( سورة آل عمران الآيات: 140/142 ) .
كيف يخرج الإنسان من إثم الغيبة و النميمة
بسم الله الرحمان الرحيم.. الحمد لله ربّ العالمين و لا عدوان إلاّ على الظّالمين..
وصيّتي لكلّ مسلم تقوى الله تبارك و تعالى في جميع الأحوال، و أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلاّ كلاما ظهرت فيه المصلحة لأنّه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرامٍ أو مكروه و ذلك كثير بين الناس، قال سبحانه و تعالى: " و ما يلْفِظُ من قوْلٍ إلاّ لديهِ رقيبٌ عنيدٌ ".( سورة ق الآية:18 ) و قال عزّ و جلّ: " و لا تقْفُ ما ليس لكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ و البصَرَ و الفُؤَادَ كُلُّ أُلئِك كان عنهُ مسْؤُولاً ".( سورة الإسراء الآية: 36 ) و قال صلى الله عليه و سلم في حديث متّفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: " من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيْرًا أو ليصمت ".
فكيف يمكننا أن نتوب من إثم آفة اللسان و من أوزار الغيبة و النميمة ؟
نقول لا يكون ذلك إلاّ بالتوبة من حقوق العباد أن يردّها الإنسان إلى أصحابها، فإذا كان قد اغتاب أحدًا فيطلب منه السماح و الاستغفار، إذا كان يظنّ أنّ هذا الرجل أو هذه المرأة، عندهما من الإيمان ما يجعلهما يسامحان و يغفران يقول تعالى: " و إن تَعْفُوا و تصفحوا و تَغْفِروا فإنّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ "، أمّا إذا كان الشخص يظنّ أنّه إذا علِمَ ربّما غضب و استشاط غضبا و امتلأ غيْظا، و تضاعف الأمر، ففي هذه الحالة يكفي أن يستغفر الله سبحانه و الاستغفار يجبّ كلّ شيء، و الله سبحانه يقول: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ اللهَ يغفر الذنوب جميعا "..
و الاستغفار هو التوبة من كلّ الذنوب، حتّى ما يتعلّق بحقوق الآدميين، خصوصا إذا لم يكن للإنسان استطاعة إلاّ ذلك، و العلماء قالوا: إنّ الله عزّ و جلّ إذا استغفره العبد و تاب صادقا، فإنّه يسترضي أصحاب الخصومة يوم القيامة و يعوّضهم من رضوانه، و من الجنّة و من النعم، خصوصا و أنّ النصوص قاطعة، في أنّ التوبة تجبّ كلّ شيء، إذا كانت توبة صادقة مستوفية أركانها، و شروطها و آدابه، و على المسلم أن يتجنّب الغيبة و يجتهد في ذلك، لأنّه بذلك يوقع نفسه في معصية و إثمٍ كبير..
و ما هي الطريقة التي نردّ بها النمّام ؟
و من آفات اللسان كذلك، النميمة، يقول جلّ و علا: " و لا تُطِع كُلَّ حَلاَّفٍ مهينٍ همّازٍ مشّاءٍ بنَميمٍ ". و النمّام هو الذي ينمِّي الكلام و يزيده على وجه الإفساد و الله سبحانه و تعالى قد أمر المسلمين ألاّ يصدِّقوا النمّام و أن يردّوا كلامه.. و مقاومة النمّام تكون أوّلا، بأن ينهاه سامعه عن النميمة، و أن يبغض عمله، و ألاّ يظنّ بأخيه الغائب ظنّ السّوء، و بألاّ يتجسّس على الكلام الذي نُقِلَ إليه، و ألاّ يحكي لأحدٍ ما نُقِلَ إليه حتّى لا يكون هو نفسه نمَّاما.
فليتّق الله أقوامٌ مثلهم كمثل الذباب لا يقعون إلاّ على الجراح..
نسأل الله تبارك و تعالى السلامة و العافية من هذا الدّاء الذي ينخر الشعوب و المجتمعات.. اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علّمتنا، و زدنا علما، إنّك وليُّ ذلك و القادر عليه، و صلّى الله على سيّدنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين..
و آخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين..
في روضة السنّة
الروضة الأولى
بسم الله الرّحمان الرّحيم
" الحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالمينَ * الرّحْمانِ الرّحيمِ * ملِكِ يوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ و إِياكَ نستعينُ * اهدنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ * صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم غَيْرِ المغْضُوبِ عليْهِمْ و لا الضَّآلِّينَ ".
روى الترمذي و غيره عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ربّ العزّة: " ما أنْزل الله في التوراة و الإنجيل مثل أُمِّ القُرآن، وهي السَّبْعُ المثاني، وهي مقسومة بيني و بين عبدي، و لعبدي ما سألَ ".
و ورد في الأحاديث النبويّة الشريفة أنّ الفاتحة تعدل ثُلث القرآن، و أنّها شفاءٌ من السُّمِّ، و شفاءٌ من كلِّ داء، و أنّها أُنْزِلت من كنزٍ تحت العرش، و أنّها أفضل القرآن..
* * *
اللهمّ إنّي أصبحت أُشهِدُكَ، و أُشهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ و ملائِكَتِكَ و جميعَ خَلْقِكَ أنَّك أَنْتَ اللهُ لا إلهَ إِلاَّ أَنْتَ وَحْدَك لا شريكَ لَكَ، و أَنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَ رَسُولِكَ ".
روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه و سلم: " من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إنّي أصبحت... إلى قوله و رسولك، أعتق الله رُبْعَهُ من النّار، و من قالها مرَّتين، أعتق الله نصفه من النّار، و من قالها ثلاثا، أعتق الله ثلاثة أرباعه من النّار، و من قالها أربعًا أعتقه اللهُ من النّار ".
و في رواية ابن عساكر عنه: من قالها أربعا غُدُوُّهُ، و أربعا عَشِيَّهُ، ثم مات، دخل الجنّة..
" اللهم فالقَ الإصباحِ و جاعِلَ اللّيلِ سكنا و الشّمسَ و القمرَ حُسْبانًا، اقْضِ عنّي الدّيْن، و أَغْنِني منَ الفَقْرِ، و أَمْتَعْني بِسَمْعي و بصري، و قوِّني على الجهادِ في سبيلك ".
( أخرج هذا الدعاء مالك عن يحيى بن سعيد رضي الله عنه )
من أقوال الرّسول صلّى الله عليه و سلّم
* " اللهمّ أسلمت وجهي إليك، و فوّضت أمري إليك، و ألجأت ظهري إليك، رهبةً و رغبةً إليكَ، لا ملجأ و لا منجأ منك إلاّ إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، و بنبيّك الذي أرسلت ".
* " اللهمّ أنت ربِّي، لا إله إلاّ أنت، خلقتني، و أنا عبدك، و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، و أبُوءُ لك بنعمتك عليّ، و أعترف بذنوبي، فاغفر لي ذُنوُبي، إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت ".
* " أعوذ بكلمات الله التّامات من شرّ ما خلق ".
( أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه )
من قالها ثلاث مرّات صباحا و مساءًا لم يضرّه شيء..
رسالة إلى قارئ
الصلاة تملأ وقت المؤمن
أخذ كثير من الناس في عصرنا الحاضر يهملون الصلاة و يرونها عبئا ثقيلا عليهم، فإذا ذكّرتهم بها إلتمس بعضهم لنفسه عذرا بأنّه مشغول الآن بأمور هامة، و ادّعى بعضهم أنّ ثيابه غير طاهرة فلا تصحّ بها الصلاة، فإذا عاد إلى بيته نزعها و صلّى، وهو في حقيقة الأمر كاذب، و اعترف بعضهم بالتقصير و أخذ يردّد كلمة " الله يهدينا وهو يعلم ما في القلوب "، و هناك فئة وقحة تجاهر بالعصيان، و تبدّل نعمة الله كفرا، و تحتقر الصلاة و المصلّين ثمّ تزعم أنّها مسلمة، فما لهؤلاء إذا ذكر الله وحده اشمأزّت قلوبهم، و إذا دعوا إلى الله قالوا: سمعنا و عصينا..؟ " فما لهم عن التذكرة معرضين. كأنّهم حمر مستنفرة.فرّت من قسورة.المدثر 51.49 ..
تعال أخي القارئ نعالج معا مواقف هؤلاء و نبحث عن الأسباب التي دعتهم إلى ترك الصلاة:
هل الصلاة مضيعة للوقت، و ليس لدى الإنسان وقت فائض عن حاجته حتى يضيّعه.؟
لا يا صديقي، ليست الصلاة مضيعة للوقت.. فالإنسان حينما ينسل من ضوضاء العمل و صخب الغادين و الرائحين،و يتسلل من عناء الأخذ و العطاء، و البيع و الشراء، و المماحكة و المساومة، و الدراسة و التدريس، و مطالب المراجعين، و يقف في مصلاه يتخلّى عن كل هذه المزعجات، فتهدأ نفسه و يطمئن قلبه و يستريح جسمه و ينطفئ غضبه، و تتقيّد شهواته، و يمكث دقائق يناجي من يحب..
و الحبّ أعظم ما يكون إذا انفردت بمن تحب
و يسأله العون و التأييد، و يستمنحه القوّة في الخير، و الصبر على المجاهدة، و العفو إن أساء إلى أحد من الخلق بنظرة عابسة أو بكلمة نابية أو تصرّف قاس، فتكون هذه الدقائق بمثابة شحنة من المدخرات و تبريد المحرّكات..
و من هذا المنطلق السامي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حزبه (أهمّه) أمر فزع إلى الصلاة، و إذا عاد منهك القوة من قتال الأعداء قال: " يا بلال أرحنا بالصلاة " ، أي أذّن للصلاة، لتكون الصلاة راحة لنا من معاناة الحياة و مشكلاتها..
و الإنسان مخلوق ضعيف محدود القوة، لا يستطيع العمل المتواصل، فلابدّ له من راحة جسمية و عقلية، ولا يتسنّى له ذلك إلاّ في الصلاة و الراحة نصف حياته، و لهذا جعل الله تعالى الليل سكنا و النوم سباتا و راحة، و كم يصرف المصلّي من وقت في صلاته،؟ إنّها إن امتدت و طالت لا تستغرق ربع ساعة، أتبخل على نفسك أيها العاقل بدقائق معدودات بين فترة و أخرى من يومك لتحصل على كل هذه المنافع بينما تجود بساعات طوال تضيعها سدى في الزيارات و السهرات و الغوغائية و لعب الورق و شرب الخمر و التعرّض لأعراض الناس و قذف المحصنات و الغيبة و النميمة..؟
صديقي القارئ، كلمة طيبة وددت أن أصوغها لك، رجائي أن يكون لها في نفسك ما كان في نفسي، و السلام..
( في العدد قادم إن شاء الله: هل الصلاة تقييد لحرية الإنسان المطلقة ؟ )
حديث و معنى
يدخل الرّجال الجنّة على صورة آدم
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: " خَلَقَ اللهُ آدَمَ و طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعا، ثمّ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلى أُولَئِكَ مِنَ الملائِكَةِ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتِكَ و تَحِيَّةُ ذُرِّيَتِكَ، فقال: السَّلاَمُ علَيْكُمْ، فقالوا: السلامُ عليكَ و رحمةُ اللهِ، فزادوهُ: و رَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجنَّةَ على صورَةِ آدَمَ، فلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حتّى الآنَ ".
( أخرجه البخاري 3326 و اللفظ له، و مسلم 2841 )
أقول و الله أعلم:
قوله صلى الله عليه و سلم: خلق الله آدم و طوله ستّون ذراعا، هذا إخبار منه صلى الله عليه و سلم بمبدأ خلق آدم، يوم خلقه الله تعالى إذ أخبر أنّ طوله ستّون ذراعا، ثمّ أخذ الخلق ينقص شيئا فشيئا حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن لا يتجاوز خمسة أذرع مهما طال الإنسان، و قوله صلى الله عليه و سلم: " ثم اذهب فسلّ على أولئك الملائكة إلخ.. "، يعني لما خلقه و نفخ فيه الرّوح و صار متكلّما، أمره أن يذهب و يسلّم على الملائكة، فذهب فعلا و سلّم بقوله السلام عليكم، وهي تحيّة ذرّيته من بعده، فردّت عليه الملائكة بتحيّة أحسن منها، بقولهم و عليك السلام و رحمة الله، فزادوه و رحمة الله.. و قوله صلى الله عليه و سلم: " فكلّ من يدخل الجنّة " من ذرّية آدم عليه السلام، يدخلها على صورة أبيهم آدم قبل أن ينقص الخلق وهو ستّون ذراعا..
و لتعلم أخي القارئ، أنّ تحية المسلم اليوم أن يقول السلام عليكم، و يرد عليه بالقول: و عليكم السلام و رحمة الله، و إن زاد و بركاته فحسن و زادته عشر حسنات..
و أعلم أخي القارئ، أنّ إفشاء السلام سنّة و الردّ عليه واجب، فلك أخي أن تفشي السلام أو لا تفشي السلام فأنت حرّ و لا إثم عليك.. و لكن عليك ردّ السلام على الفور إذا سمعت إفشاء السلام من أيّ كان، تعرفه أو لا تعرفه، و إلاّ فأنت آثم..
يقول صلوات ربّي و سلامه عليه: " افشوا السلام، و أطعموا الطّعام، و صلّوا بالليل و الناس نيام تدخلون الجنّة بسلام ".
آية و معنى
قوله تبارك و تعالى: " و إن خفتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليتامى فانْكِحُوا ما طاب لكُم مِنَ النِّساءِ مَثْنًى وَ ثُلاَثَ وَ رُباعَ فَإنْ خِفْتُم أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِك أَدْنَى أَلاَّ تَعُولوا ".
( سورة النساء الآية: 3 )
المعنى هنا أنّ الله أوصى باليتامى خيرا، ثم قال: و إن كنتم تخافون أن لا تعدلوا في يتامى النّساء إن تزوّجتم بهنّ تحرّجا من تبعة ظلمهنّ، فتزوّجوا من غيرهنّ مثنى و ثلاث و رباع، و خافوا أيضا أن لا تعدلوا بينهنّ كما تخافون ذلك في اليتامى.. فإن رأيتم أنّ العدل بينهنّ غير متيسّر فتكفيكم واحدة أو ما ملكتم من الإماء، ذلك أقرب أن لا تميلوا عن الحقّ.. يقال عال الميزان إذا مال، و عال الحاكم إذا جار..
و قيل: إذا خشيتم عدم العدل في مهر اليتيمة بحيث لو تزوجتم منها و لم تعطوها و لم تدفعوا لها المهر الذي يدفع لمثلها من غير اليتامى، فتزوّجوا غيرها من النساء، و لو تزوّج كلّ رجل اثنتين أو ثلاثا أو أربعا و لم يزد على ذلك من الحرائر فله ذلك، لأنّ الحقّ تبارك و تعالى أباح التعدّد إلى أربعة، و لكن إذا خشي الإنسان ألاَّ يعدل بين زوجاته في المسكن و الملبس و المأكل و المشرب و ما يلزم من وسائل العلاج و غيره، فعليه أن يتزوّج واحدة فقط، فهو أقرب للعدل.. و إذا لم يستطع و لم يكتف بواحدة و خاف من الجور لو تزوّج أكثر من واحدة، فله أن ينكح من السراري أي الإماء ما شاء، فإنّه أحسن له و أبعد عن الجور و الظلم..
و الله تعالى أعلم.
الغيبة و النميمة
إنّ داء الغيبة و النميمة، داء من أَفْسَدِ و أفتكِ الأدْواءِ التي تُبْتَلى بها الأفراد و الجماعات، و من ثمَّ حذّرنا الله تبارك و تعالى من هذا الدّاء في كتابه العزيز فقال: " و لا يغتب بعضكم بعضا أيُحِبُّ أحدَكمْ أنْ يأْكلَ لحْمَ أخيهِ ميِّتا فكرهتموه و اتّقوا الله إن الله توّابٌ رحيمٌ ".
إنَّ أَشدَّ ما يكرهه الإنسان و ينفر منه طبعُهُ أن يتناول لحمٍ ميِّتٍ ليأكُلَهُ، و أشدّ منه غلظة و أكثر منه بشاعة أن يكون ذلك الميّت أخاه، بهذه الصورة البشعة المستقذرة، شَبَّهَ الله الغيبة و ما يتناوله المغتاب من أخيه المستغاب، و شبّه الله الغيبة بهذه الصورة لينفّر الناس منها كما ينفرون من ذلك و لتستقرّ في نفوسهم بشاعتها. و الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكره، قال صلى الله عليه و سلم: " أَتَدْرونَ ما الغيبة ؟ " قالوا: الله و رسوله أعلمُ، قال: " ذِكْرُكَ أَخاكَ بما يكرَهُ " قيل: أفرأيْتَ إنْ كان في أخي ما أقول ؟ قال: " إنْ كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فقَدْ بَهَتَّهُ ". فالغيبة إذًا هي ذِكْرُكَ أخاكَ بما يكْره سواء كان ذلك فيه أو لم يكن فيه، على أنّ ذكرك ما فيه تتناوله حرمة الغيبة، و ذكرك ما ليس فيه تتناوله حرمة البهتان و العياذ بالله سبحانه و تعالى. و سواء كان ذلك بحضوره أو بغيابه، أو كان ذلك في خُلُقِهِ أو خَلْقِهِ، كلّ ذلك اعتداء على حرمة المسلم و نيْلٌ من عرضه و شخصه. و رسول الله صلى الله عليه و سلّم يقول: " كُلُّ المسْلِمِ على المسلمِ حرامٌ دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ ".
و النميمة هي نقل الحديث من قومٍ إلى قوْمٍ أو من إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر على وجه الإفسادِ، فهي خصلة ذميمة تجلب الشرّ و تدْعو إلى الفُرْقة، و توُغِرُ الصدُورَ، و تثير الأحقاد و تُحِطُّ بصاحبها إلى أسفل الدّركات، و تنفر النّاس منه، فيصبح و لا أنيس له و لا جليس، و العاقل من تبرَّأَ من تلك الخصال الدّنيئة، و تطَهَّرَ من أدرانها الخبيثة، و عمل على محاربتها بكلّ ما في وسعه، قال تبارك و تعالى: " و لا تُطِعْ كُلَّ حلاَّفٍ مهينٍ، همّازٍ مشَّاءٍ بِنَميمٍ، منّأعٍ للخيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ". و الأمرّ و الأدهى من هذا كلّه أنّه بعد النصائح و المواعظ و العبر التي تسدى إليه، تجده يصرّ على أفعاله و أقواله فيخرج على الناس و يكذب الكذبة تبلغ الآفاق.. لماذا ليثبت للناس أنّه على صواب و أنّ ما يقوم به لفائدة المجموعة، فينزلق في متاهات أفعاله.. يقول رسول الله صلّى الله عليه و سلم: " لا يدخل الجنّة نمّامٌ ".فالغيبة و النميمة يا عباد الله داءان خطيران يسبِّبان عذاب القبر و شدّة الحساب، فقد ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم مرَّ بِقبْريْنِ يُعَذَّبان فقال: " إنّهما لَيُعَذَّبان و ما يُعَذَّبان في كبيرٍ، أمّا أحدُهُما فكان لا يستبْرأ من البول، و أمّا الآخرُ فكان يمشي بالنّميمة ".
و الغيبة و النميمة انتهاك لحرمة المسلم التي أوجب رسول الله صلى الله عليه و سلم صونها، و حفظها، فقد خطب في حجّة الوداع فقال: " فإنّ الله حرّم عليكم دماءكم و أموالكم و أعراضكم، كحُرْمةِ يوْمِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدكم هذا ".
فالغيبة خيانة، و هتكُ ستر أشخاص، و غدْرٌ للمجموعة، و إيذاءٌ للمسلمينَ كافّة. وهي زاد الخبيث، و طعام الفاجر، و مرعى اللّئيم، و ضيافة المنافق، و فاكهة المجالس المحرّمة، المشبوهة، المظلمة.. و لقد بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطر الغيبة و النميمة و إثمهما و سوء عاقبة أصحابهما فقال: " لمّا عُرج بي مررت بقوْمٍ لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس و يقعون في أعراضهم ". و عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبيّ صلى الله عليه و سلم: حسبك من صفيّة كذا و كذا، قال بعض الرواة: تعني قصيرة. فقال: " لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لَمزجتهُ ". إنّ كلمة السيدة عائشة على ما فيها بالنسبة لما نحن اليوم عليه من نيل من أعراض المسلمين و ذكر عيوبهم و نقائصهم لا تُعْتَبَرُ شيئا.
لمّا علِم سلفنا الصالح حرمة الغيبة و أدركوا خطرها على المجتمعات، و خطورتها على المغتاب في يومِ العَرْضِ على الله تعالى، أمسكوا ألسنتهم عن التكلّم في عرض أحدٍ أو طعنه أو شتمه، و شغلوها بذكر الله و طاعته، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إذا جاءهم فاسقٌ بنبأ لاموهُ على نقله الحديث، أو اعتماد بثّه بين الناس، و حذّروه من نتيجة سوء فعله.. أمّا اليوم فإنّ الناس تخشى ناقل الأخبار الزائفة و تعمل ما في وسعها لإرضائه و إظهار الولاء و تأييده على ما يفعل إمّا خوفا من أن تطالهم مقذوفاته أو طمعا فيه و فيما ينفقه من أموال على إنجاح مخطّطاته العدوانية..
اتّقوا الله، فإنّ الموت يعمّنا، و القبر يضمّنا، و القيامة تجمعنا، و الله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين.. يحكى أنّ رجلا أراد أن يسرّ حديثا إلى عبد الملك بن مروان، فقال الخليفة: قِفْ، لا تمدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، و لا تَكْذِبْني فأنا لا أعفو عن كذوب، و لا تغتب عندي أحدًا فلست أسمع إلى مغتاب.. فقال الرجل: هل تأذن لي في الخروج ؟ فقال الخليفة: إن شئت فاخرج..
أما النميمة فهي أشدّ خطرا من الغيبة، لأنها نقل الحديث من قوم إلى قومٍ على جهة الإفساد و الفتنة وهي تورث الفتنة و الضغينة و تفرّق بين المتآلفين، و تفضي إلى كثير من المفاسد و الشرور.. إمّا المفاسد فهي تعويض ما عجز عن إثباته بالحقّ و الشرعية.. و أمّا الفتنة فيعمد إليها النمّام ليشغل القوم بعضهم ببعض، ليسعى بين الناس بالإفساد يقترف الغدر و الخيانة ليدعّم خروجه عن المجموعة، و لقد حذّر الله تعالى المؤمنين شرّ النمّام و نهاهم عن تصديقه و صرّح لهم بفسقه فقال تبارك سبحانه: " يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالةٍ فتُصبِحوا على ما فعلتم نادمين ". و اعلم أخي القارئ أنّ من نمَّ لك، نمَّ عليك و من نقل لك خبرٌ، سينقل عنك أخبارا مماثلة..
الجمعة في الحديث النبوي
فضل صلاة الجمعة و وجوبها
عن أبي هريرة، رفعه: " من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة، ثم راح فكأنّما قرّب بدنةً، و من راح في الساعة الثانية فكأنّما قرّب بقرة، و من راح في الساعة الثالثة فكأنّما قرّب كبشًا أقرن، و من راح في الساعة الرابعة فكأنّما قرّب دجاجةً، و من راح في الساعة الخامسةَ فكأنّما قرّب بيضةً، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ".
( أخرجه الستّة )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.