من يتأمل الأحوال في موريتانيا يجد أنها لم تعرف طعم الاستقرار طوال تاريخها باستثناء فترة حكم الرئيس مختار ولد داده التي سادها الهدوء والطمأنينة، إذ ظهر بعد ذلك فكر الانقلاب -إن صح التعبير- وتوالت الحركات الانقلابية التي كان أحدث ضحاياها الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بعد 16 شهرا من انتخابه في 25 آذار 2007، إذ اعتبرت تلك الانتخابات الرئاسية تتويجا لمسار ديموقراطي نموذجي في العالم العربي وإفريقيا، وقطيعة في الوقت عينه مع حقبة حكم العسكر الشمولي والانتخابات المزورة، عبر تسليم السلطة إلى المدنيين بعد الانقلاب العسكري الأبيض الذي أطاح النظام السابق للرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع في العام 2005. وعلى الرغم من أن كل قائد انقلاب لديه من الأسباب والمبررات التي دفعته الى قيادة الانقلاب والتي تتحدث في أغلبها عن مصلحة الوطن فإن موريتانيا لم تستقر على حال لفترة طويلة من الزمن فهي تموج بالصراعات الداخلية، بل إن الرئيس الموريتاني كأي رئيس لا يستطيع مغادرة البلاد في معظم الأحوال لأنه لا يضمن أن يعود الى بلاده! الواقع في موريتانيا شديد الحساسية، والأمر يقتضي وجود رئيس منتخب انتخاباً حراً يلتف الشعب حوله بعيداً عما يثار عن علاقته بالقوى الكبرى كالولاياتالمتحدة وفرنسا، أو علاقته بإسرائيل. وتعتبر موريتانيا حائزة الرقم القياسي بين الدول العربية من حيث كثرة الانقلابات العسكرية فيها، الأمر الذي دفع الأوساط الإعلامية للقول إن الجيش الموريتاني مصاب بهستيريا التكالب على السلطة. فمنذ العقد الثاني للاستقلال ظل مرض الانقلاب يخامر عقل الانسان الموريتاني كلما ارتدى البزة المرقطة ووضع الخوذة على فوديه. إيديولوجيا الانقلابات العسكرية دخلت الى ثقافة الحقل العسكري، وتولدت من معاناة الجيش في ظروف حرب الصحراء الغربية التي أنجبت أول انقلاب عسكري في البلاد على أول نظام مدني بعد الاستقلال عندما نظم الجيش "انتفاضة" ضد نظام المختار ولد داده يوم 10 تموز 1978. وقد اختار الجيش الموريتاني هذا اليوم عيداً وطنياً له، ومنذ ذلك التاريخ بدأت موريتانيا رحلتها الطويلة مع الأنظمة العسكرية، وصراعات الضباط على الحكم. فمنذ سنة 1978 شهدت موريتانيا 14 انقلاباً عسكرياً اصطدم بعضها بصخرة الفشل، ونجح البعض الآخر بمقاييس متفاوتة. ولم تكن الانقلابات في موريتانيا من طبيعة واحدة فهي وان كانت في شكلها تمثل ظاهرة واحدة، الا أنها مختلفة في دوافعها وخلفياتها. الانقلاب العسكري الأبيض الأخير جاء على خلفية أزمة سياسية تعصف بالبلاد منذأشهر. فهذه الأزمة السياسية بدأت عندما استبدل الرئيس عبد الله الحكومة في أيار الماضي، بعد أن وجهت لها انتقادات بشأن تعاملها مع ارتفاع أسعار الغذاء وهجمات شنها على مدى عام جناح "القاعدة" في شمال إفريقيا. لكن الحكومة التي كان يرئسها الزين ولد زيدان استقالت، في تموز الماضي، في مواجهة اقتراح بسحب الثقة منها. وتشكلت حكومة أخرى ترأسها يحيى ولد الواقف، دون مشاركة حزب اتحاد قوى التقدم وحزب التواصل الاسلامي، وكانا مشاركين في الحكومة السابقة. وكان هذا التغيير الوزاري قد رجح كفة المعارضين بزعامة الجنرال عبدالعزيز قائد الحرس الجمهوري. وتفاقمت الأزمة السياسية بعد استقالة البرلمانيين (25 نائباً و23 من مجلس الشيوخ) وهم من "حزب العهد الوطني للديموقراطية والتنمية (عادل)" الذي ينتمي إليه الرئيس،إذ أعلن هؤلاء البرلمانيون الاثنين الماضي استقالتهم الجماعية من الحزب الرئاسي، واكدوا عزمهم تأسيس حزب جديد يكون قادرا على القيام ب"التغييرات المنتظرة" في اطار غالبية برلمانية. وقال البرلمانيون في بيان وزعوه في وقت متأخر من ليل الثلاثاء - الأربعاء إن الرئيس ورئيس الوزراء يستخدمان "أيضا وسائل الإعلام الرسمية للنيل من البرلمانيين والتشكيك في مقاصدهم النبيلة". وأكد النواب أن لقاءات الرئيس ورئيس الوزراء المتكررة بالبرلمانيين والفاعلين السياسيين داخل مقرات الدوائر الحكومية بهدف ثنيهم عن الانسحاب من حزب "عادل" أو إعادتهم إليه واستخدامهما لكل أساليب الإغراء "انحراف خطير". واعتبر البرلمانيون هذا السلوك من أهم ما دفع البرلمانيين والعديد من القوى السياسية إلى الانسحاب من الحزب، "وهو السلوك الذي يجسد عقلية التلاعب بالمال العام وأجهزة الدولة ومرافقها العمومية التي يجب أن تظل محايدة وبعيدة عن التوظيف السياسي لمصلحة أي طرف من أطراف اللعبة السياسية". ووصلت الأزمة السياسية التي كانت تتفاعل في موريتانيا إلى ذروتها في الأيام الأخيرة بعد إحداث الرئيس الموريتاني سيدي ولد شيخ عبد الله تغييرات في قيادة الجيش والدرك شملت إقالة "الرجل القوي" في موريتانيا الجنرال محمد ولد عبدالعزيز قائد الحرس الجمهوري، والجنرال ولد شيخ محمد أحمد، المتهمين بالوقوف وراء الازمة السياسية التي تعصف بالبلاد. وكان الجنرالان ولد الشيخ محمد احمد ومحمد ولد عبد العزيز عضوين في المجلس العسكري الانتقالي الذي انجز الفترة الانتقالية الديموقراطية من 2005 الى 2007 في موريتانيا. إذا كانت الأزمة السياسية هي السبب المباشر للانقلاب، فإن جذور الأزمة تعود إلى التحديات التي واجهت الرئيس المنتخب ديموقراطيا سيدي ولد شيخ عبد الله، والتي من أبرزها مسالة بناء الدولة المدنية، وعلاقتها بالمؤسسة العسكرية.هناك عوائق بنيويةً تقف بين الدولة الموريتانية التي هيمن عليها العسكر لأكثر من أربعة عقود وانتصار الفكرة الديموقراطية والحريات في بلد لا يزال يحبو على طريق الحداثة، مثل موريتانيا، الذي على الرغم من أنه عرف نمواً كبيراً لحركات معارضة فإنها لم تستطع أن تكون مجتمعاً مدنياً قادراً على الصمود أمام وطأة الدولة، وعلى التفاوض مع هذه الدولة، وبالتالي على تزويد المجتمع السياسي استقلاليته الفعلية. والحقيقة، أن الديموقراطية تبدأ بإرساء نظم علاقات ديموقراطية وممارستها مؤسسياً كما تتطلب التغيير في العقليات والتكوين النفسي، لا في الشكل فحسب ولكن أيضا بالمضمون. ومن الأفضل للسلطة السياسية التي ترفع لواء الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان أن تبدأ بممارسة هذه القيم داخل أطرها المؤسسية. إن الديموقراطية الحقة هي تلك التي تقوم على اعتراف الحكومة الموريتانية التي شكلها الرئيس سيدي ولد شيخ عبد الله بضرورة إعادة النظر في بنية الدولة الأمنية السائدة حالياً، لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة كل المواطنين، لا دولة أجهزة أمنية، وحزب واحد، أو دولة أفراد مهما كبرت أدوارهم التاريخية. ويتطلب بناء الدولة المدنية الحديثة، أن تطلق الحكومة الموريتانية حواراً وطنياً واسعاً طال انتظاره حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، بدءاً من قانون الأحزاب والجمعيات إلى قانون المطبوعات إلى قانون الأسرة وغيره، فضلا عن بناء المؤسسات المجتمعية المقتنعة بالحريات الفردية والعامة، وضمان ممارستها في المجتمع، وعدم كبحها. والحريات الفردية والعامة لا يمكن أن يكون لها وجود عياني ملموس ما لم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن الشعب قادرا على المشاركة السياسية في إيجاد المؤسسات السياسية والقانونية والمجتمعية، وفي تغييرها. من وجهة نظر ديموقراطية محايدة، تعتبر الرقابة القضائية وسيلة أساسية لحماية "دولة القانون"، وضمان تحققها. كما أن تقوية استقلالية السلطة القضائية من شأنها صون "دولة القانون" وفرض احترامها. فالدستور، بما هو ضبط لقواعد ممارسة السلطة، يصبح ضامنا للحقوق والحريات، عبر إفراده أحكاما خاصة بها، وتنصيصه على الوسائل الكفيلة بصيانة ممارستها وجعلها في منأى عن تعسف السلطة وشطط ممارسيها، لاسيما لجهة تعديله. لذلك، لا تقاس ديموقراطية الدساتير بمدى إقرارها للحقوق والحريات فحسب، بل تتحدد أيضا بدرجة حرصها على تأكيد الشرعية الدستورية، أي جعل ما هو مدرج في باب الحقوق والحريات محترما على صعيد التطبيق والممارسة. إن بناء الدولة المدنية الحديثة، يتطلب صياغة دستور ديموقراطي يضمن الحقوق والحريات وينزلها منزلة الأحكام الخاصة بتنظيم السلطة والعلاقة بين المؤسسات. بيد أن الدستور في ذاته لا يكفي لجعل الحقوق والحريات مضمونة ومصونة بل لا بد من مصاحبتها بضمانات تكفل لذويها القدرة على التمتع بها. ومن هذه الضمانات: 1-تكوين المحكمة الدستورية التي تنظر في دستورية القوانين التي تعلنها الحكومة، وتراقبها، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً لدولة القانون. ففي ظل تجربة ديموقراطية هشة ومراقبة كما هو الحال في واقع موريتانيا، تلعب المحكمة الدستورية دوراً مهماً في إثراء النظام السياسي لجهة انتقاله من طابعه الشخصاني التسلطي إلى طابعه الديموقراطي القائم على احترام المؤسسات، من خلال انتهاج سياسة قضائية حقيقية مستقلة ومتحررة من القيود العديدة التي تحد من فاعليتها على صعيد الواقع، تستهدف إستتباب "دولة القانون" وانتظام عمل مؤسساتها. -2 استقلالية السلطة القضائية، التي تفسح في المجال للقضاء الدستوري ليكون متمتعاً كما هي الحال في الدول الديموقراطية العريقة، بمكانة مركزية، ويساهم في ضمان "التوازات الدستورية"، وحماية الحقوق والحريات، وحماية الدستور نفسه من التوظيف السياسي له من جانب السلطة التنفيذية وتجييره لخدمة أهدافها السياسية والطبقية الخ. ثم إن وجود قضاء مستقل ونزيه يحفظ للدستور علويته وسموه على النصوص الأخرى كلها، ويجعل أحكامه سارية على الأفراد والجماعات، وعلى رئيس السلطة التنفيذية. -3 الإقرار بمبدأ التداول السلمي للسلطة، تلك العملية التي تسمح للشيء بحلول بديل محله، ويجعل الشخص يعقب نظيره في المسؤولية، والإدارة، والقيادة. فمنطق التداول على السلطة يرفض الجمود، والديمومة، وبالتالي الرئاسة مدى الحياة. وفي المقابل، فهو يحبذ، التجديد، في الأشخاص، والأحزاب، والأفكار، والممارسات السياسية. وهذا ما نلمسه بدقة في الدول الديموقراطية العريقة، التي تتمتع بثقافة تداول عريقة، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من النسيج المجتمعي والثقافي للمجتمع. وفي ظل هذا الإخفاق أعاد انقلاب موريتانيا الجديد الاعتبار للمؤسسة العسكرية العربية التي جرى تهميشها وإلغاء دورها الذي تأسست من أجله وهو الدفاع عن الأمة وقضاياها المصيرية. ومن الواضح أنه في ظل الواقع العربي المتسم بصمود الأنظمة الشمولية القائمة على سلطة الحزب الواحد، أمام رياح التغيير الآتية من الخارج، والمفتقدة لمحدد المشروعية السياسية، والمساندة الشعبية، والمرتكزة بشكل مفرط على شخصية الحاكم، والرافعة لشعارات الديموقراطية والإصلاح تارة، ويافطة الحرب على الإرهاب تارة أخرى، في محاولات بائسة لاسترداد دعم الولاياتالمتحدة، وباقي الأنظمة الغربية، من طريق إيهامها بواقع التوحد في التحديات، والتناغم مع جميع المبادرات الرامية إلى دمقرطة المنطقة قسرياً، ضمن فرضية جديدة مفادها، أن اقتصاد السوق والعولمة يؤديان بالضرورة، إلى الديموقراطية، في ظل هذا الواقع المرير يتعذر على الحركة الشعبية العربية وفاعليات المجتمع المدني الضعيفة التأثير والفاعلية في المجال السياسي الذي يهيمن عليه "حزب السلطة" في مجتمعات تستأثر فيها الأجهزة الأمنية للدولة بدور الكابح للمسار الديموقراطي والحامي للأنظمة القائمة، أن تقوم بعملية التغيير الديموقراطي بالوسائل السلمية نظراً الى حجم الهوة بينها وبين القاعدة الشعبية، وإخفاقها في التنسيق معها، بهدف إحداث تغيير مدني من داخل المؤسسات. توفيق المديني (كاتب مغاربي(