... تعيش الجزائر في زمنية الإسلام السياسي الثالثة، الإسلام السياسي الأول كان إسلام جمعية العلماء المسلمين بزعامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس ، الذي يملك فهما عصريا للإسلام ، يجمع ما بين العروبة و الإسلام،و الذي انضم إلى الثورة الجزائرية عندما بدأت جبهة التحرير الوطني تخوض غمار الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. الإسلام السياسي الثاني هو إسلام الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تحمل في سيرورة تشكلها التاريخي : مكونات عديدة من جناح الإخوان المسلمين إلى الجمعيات السلفية، و هو إسلام يمتلك قواعد شعبية و استطاع أن يفوز في الانتخابات البلدية في حزيران 1990، و في الانتخابات التشريعية في بداية سنة 2002، و هو ما قاد إلى حصول الانقلاب العسكري في الجزائر منعاً لوصول الإسلاميين إلى السلطة من طريق صناديق الاقتراع ، الأمرالذي أدخل الجزائر في أتون حرب أهلية دارت رحاها بين المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات من ناحية و الجماعات الإسلامية المسلحة من ناحية أخرى ، طيلة المرحلة الممتدة ما بين 1992 و2002،وقد خلفت هذه الحرب الأهلية ما بين 150000و 200000 قتيلا.و إن كان هذا العنف شهد تراجعا ملحوظا مع بداية عام 2003 . الإسلام السياسي الثالث ، هو إسلام التنظيم المتمرد «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» الذي غيّر اسمه إلى تنظيم «القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي» مطلع سنة 2007،وهو الذي أسهم في تبلور نفوذ القاعدة مع بداية سنة 2003. و هذا الإسلام السلفي يمثل الجيل الصاعد من الشباب الراديكاليين الذين يعارضون الحكومات العربية،و يعتبرون القوى الغربية و على رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية الخصم الأساس في هذه الحقبة التاريخية التي يعيشها العالم العربي و الإسلامي. إنه إسلام سلفي مقاتل يجمع ما بين التعصب الديني و العنف السياسي المضاد، كرد فعل نسبيا على سياسات القطبية الأحادية ، و الأنانية ، و على ظلم سياسات الدولة التسلطية العربية. فهو تعبير عن أزمة بنيوية عميقة في علاقة الدولة العربية بمكونات المجتمع،إذ ترفض النخب الاستبدادية الحاكمة دفع ثمن الانتقال إلى ديمقراطية حقيقية تفرز وجود آليات تمثيل حقيقية تجعل من الإسلام السياسي مكونا أساسيا من مكونات المجتمع المدني الحديث، بل إن هذه النخب جعلت من مصدر شرعيتها في البقاء في السلطة الاستقواء بالدعم الغربي واللجوء إلى القمع المنهجي و المنظم بحجة محاربة الإرهاب الأصولي. ويعاني تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من نزيف كبير طال صفوفه إثر الضربات الموجعة التي تلقاها من الأمن الجزائري،ومن فقدان متتالٍ لكبار زعاماته وصل عددهم إلى عشرة خلال خمسة أشهرمن السنة الماضية ، جديدها إيقاف أمير سرية العاصمة «فاتح بودربالة» المكنّى عبدالفتاح أبو البصير، فضلا عن تنامي حركة التوبة الجماعية،وهو ما يؤشر إلى بداية نهاية «نظرية» لتنظيم دموي أثبت افتقاره لأي وازع ديني، أو من خلال الهجمات التي استهدفت قواعده الخلفية ، ولا سيما في الجبال والمغاور في ولايات شرق العاصمة الجزائرية، ومن اندلاع متجدد لحمى الصراعات الداخلية بين مجموعاته. ومع ذلك ، فقد تبنى هذا التنظيم ذاته الهجومين الانتحاريين اللذين استهدفا مقري المحكمة الدستورية في حي بن عكنون والأمم المتحدة في حي حيدرة، في قلب العاصمة الجزائرية في 11 نيسان 2008.ويرى مختصون في الشؤون الأمنية أنّ الهجومين الآنفي الذكر يعكسان محافظة المتمردين على قدرة عملياتية كاملة، ترجموها بإفلاتهم من التضييق الذي فرضه الجيش الجزائري على مسلحي «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجبال والغابات، وارتضاء هؤلاء استراتيجية جديدة تنطوي على أساليب مغايرة تقوم على تنفيذ هجمات في المدن الكبرى، تغطي على الخسائر الفادحة التي مني بها المتمردون في معاقلهم التقليدية. وأظهر هذان الهجومان أن هذا التنظيم الذي يرأسه عبدالمالك درودكال (أصدرت وزارة الخزانة الأميركية مع بداية هذه السنة قرارا بتجميد أرصدته) ما زال قادراً على توجيه ضربتين متزامنتين في منطقتين تخضعان لحراسة مشددة ينبئ أن التخطيط لها كان محكما، بقدر جعل من عشرات المقار الحكومية والدولية حطاما. فليس سهلاً استهداف المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في حيدرة الحي الراقي الذي يقطنه ديبلوماسيون أجانب وكبار المسؤولين الجزائريين ، وكذلك المجلس الدستوري الأعلى والمحكمة العليا وإقامة القضاة، إذ لا يمكن أن يتم ذلك من دون عميق متابعة وتفحص. ومن جديد استهدفت موجة العنف الدموي في الفترة الأخيرة، بواسطة العمليات الانتحارية في مدينة يسر الواقعة في ولاية بومرداس، مدرسة لتدريب الدرك وأدى إلى مقتل 43 شخصا وجرح 45 آخرين، وحافلة لنقل العمال تابعة لشركة "اس ان سي لافالان" الكندية وأدى الى مقتل 11 شخصا واصابة 31 آخرين على ما أفادت حصيلة رسمية. ويقع مقر الشركة في بلدة الجباحية شمال غرب ولاية البويرة حيث تقوم بانجاز محطة لمعالجة مياه سد "كدية السردون". كما استهدفت موجة العنف هذه عددا من الضباط العاملين في المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية في مختلف الولاياتالجزائرية ويرى المسؤول السابق لشؤون مكافحة الإرهاب في أجهزة مكافحة التجسس الفرنسية لوي كابريولي، أنّ اعتداءات الربيع الماضي تدفع باتجاه تغيير «الدعوة والقتال» طرق مواجهتها السلطات، حيث تتجه إلى تحدي قوات الأمن في العاصمة، وقال إنّ تدبير المسلحين اعتداءات بسيارات مفخخة أقل تعقيدا من تدبير عمليات ضخمة انطلاقا من الغابات، مع الإشارة الى أنّ عدد الاعتداءات التي نفذتها هذه الجماعة منذ مطلع العام نحو 20 تفجيرا، خلفت 521 قتيلا و350 جريحا. المتابعون لشؤون المغرب العربي، يعتقدون أن الرسالة التي أراد تنظيم«القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» إيصالها من خلال استهداف الهجمات الاستعراضية في مناطق استراتيجية أمنية و عسكرية في قلب عاصمة الجزائر، و في محافظتي بومرداس و البويرة، مع كل ما يحتمل ذلك من مغزى، متزامنة مع تباهي السلطات الجزائرية بأنّ ميثاق السلم والمصالحة الوطنية أتى أكله، ووسط وضع سياسي خاص، من أبرز جديده بدء جبهة التحرير (الحزب الحاكم) في حملة لتعديل الدستور وتحضير المرحلة التمهيدية لولاية رئاسية ثالثة للرئيس بوتفليقة ، تتمثل على النحو التالي: إن تنظيم القاعدة ما زال يتمتع بالقدرة على القيام بعمليات كبيرة، على الرغم من فقدانه للعديد من زعمائه البارزين. و على الرغم من تنفيذتنظيم ّ«القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي» الهجمات هذه ،فإن التنظيم يعيش أحلك ظروفه في الوقت الراهن، ولا سيما بعد فقدانه نحو 497 من مسلحيه منذ انقضاء آجال العفو العام بينهم أمراء وقادة سرايا وكتائب. ويعيش التنظيم منذ فترة ليست قصيرة حالة ضعف، واهتزّ كثيرا تبعا للهوة التي برزت إثر القرار (الانفرادي) الذي اتخذه المتشدد عبد الملك دروكدال في يناير/ كانون الثاني2007 ، بالانضمام إلى تنظيم القاعدة، وهو ما أورث -بحسب أكثر من مراقب- حالة من الفكاك والتباعد عجّلت بانسحاب عشرات من مسلحيه كان رقمه الأبرز عضو مجلس الأعيان وأمير المنطقة التاسعة عبد القادر بن مسعود الذي استسلم أوائل أغسطس/ آب 2007، وجرّ معه «مسؤول الدعاية» في تنظيم «الدعوة والقتال» «أبو عبد الرحمن مزود»، ومؤسس التنظيم، حسن حطاب المكنّى (أبو حمزة) (40 عاما)، وغيرهم، في حين أعلن مختار بلمختار المدعو الأعور خروجه عن التنظيم. إن القاسم المشترك بين هؤلاء إجماعهم على أنّ نشاط «الجماعة السلفية» شهد «انحرافات عديدة» منذ انضمام «الدعوة والقتال» إلى تنظيم ابن لادن، في صورة حوادث السطو والاختطافات التي دأب التنظيم على القيام بها منذ ،2005 وأسفرت أيضا عن سفك دماء مدنيين أبرياء، وتخريب مرافق عامة. ولعلّ ما يعقد أوضاع «الجماعة السلفية» للدعوة والقتال هي مراجعات «سيد إمام عبدالعزيز» المرجع الأساسي لتنظيم القاعدة، فهو شأن عديد المرجعيات أدان أعمال «الدعوة والقتال» وجزم ببطلان الجهاد الذي تدعيه، ما يزيد من متاعب التنظيم ويضعه في مأزق حقيقي، يتمظهر في الأزمة الخانقة في استقطاب عناصر جديدة، واكتفائها بالمراهقين الذين يسهل إيهامهم بنقلهم إلى العراق، ناهيك عن تجنيد الأجانب واستدراج الصبية بالمال. تؤكد أعمال العنف الدموية التي قامت بها الجماعات الإسلامية المسلحة في بلدان المغرب العربي عامة ، و الجزائر خاصة ، منذ أحداث الدارالبيضاء الدموية في 16 أيار /مايو 2003، وحتى الاعتداءات الأخيرة التي وقعت بالجزائر ، والتي أوقعت مئات الضحايا طيلة هذه المرحلة، تجذُّر شكل إيديولوجي أصولي جديد وهو «التكفير» الذي لا يكتفي بمحاربة الولاياتالمتحدة الأميركية أو «إسرائيل»بل يدين أيضاً الحكام المسلمين (وكل من يقدّم لهم الدعم من قريب أو بعيد) فيعتبرهم كفرة مرتدّين. وتلجأ هذه الجماعات الأصولية المرتبطة إيديولوجيا وسياسيا و ماليا بتنظيم القاعدة أو التي تدور في فلكه ،إلى العنف السياسي ضد الدول المغاربية من أجل إرغامها على «العودة إلى شرع الله والمجتمع النبوي للإسلام الأول». وتنقسم الجماعات المسلحة التي لا تزال تقاتل في الجبل إلى قسمين أساسيين. الأول يتبع تنظيم «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» بقيادة «أبي مصعب عبدالودود» (عبدالمالك دوردكال)، والثاني يتبع جماعة «حماة الدعوة السلفية» بقيادة «سليم الأفغاني». وكلتا الجماعتين خرجتا من رحم «الجماعة الإسلامية المسلحة» إثر تفككها في النصف الثاني من التسعينات نتيجة الغلو الذي انتهجته قيادتها في ظل «الأمير» جمال زيتوني (من 1994 - 1996) وبعده عنتر زوابري (1996 - 2002) حيث وصل الأمر بها في عهد الأخير إلى حد تكفير الشعب الجزائري («عموم الردة»). وفي حين تنشط جماعة «القاعدة» («الجماعة السلفية للدعوة والقتال» سابقاً) في الولايات المحاذية للعاصمة شرقاً وامتداداً حتى شرق البلاد وبعض مناطق الصحراء، فإن «حماة الدعوة السلفية» كانت تتخذ من ولايات غرب الجزائر قاعدة لنشاطها، قبل أن تضطر أخيراً إلى «النزوح» شرقاً عبر سلسلة جبال الونشريس في اتجاه الولايات القريبة من العاصمة غرباً. وهكذا تحولت الجزائر هدفاً لتنظيم القاعدة وبالتالي حليفة طبيعية للولايات المتحدة، كما كانت مطاردة بن لادن مبرراً لاحتلال أفغانستان وإقامة قواعد عسكرية في آسيا الوسطى المنطقة الاستراتيجية لواشنطن. وهكذا تحولت «الجماعة السلفية للدعوة و القتال » لتشرعن الوجود العسكري الأميركي في الساحل الإفريقي الذي بات يصور على أنه قاعدة خلفية محتملة لتنظيم القاعدة. ويرى المحللون في شؤون الحركات الإسلامية في منطقة المغرب العربي، أن تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي » يعاني أزمة حقيقية ، بسبب تزايد أعداد «التائبين» الذين تخلوا عن العمل المسلح قصد الاستفادة من سياسة المصالحة الوطنية وتدابير العفو الشامل، وكذا بسبب الضغوط التي تمارسها وحدات الجيش الجزائري على بعض المسالك التقليدية بالمناطق الحدودية مع مالي و ليبيا . وقد تحول هؤلاءالتائبون إلى «مخبرين» بدرجة امتياز في الفترة الأخيرة، وبالمعلومات الميدانية الدقيقة التي يوفرونها للأجهزة الأمنية باتوا يهددون أمن عناصر التنظيم المسلح ككل. وكانوا السبب في معظم العمليات الناجحة التي قامت بها قوات الأمن الجزائري، خاصة بعد إعتقال عشرة ناشطين تونسيين كانوا في طريقهم إلى الجبال الجزائرية لتلقي تدريب عسكري على أيدي قيادات التنظيم المسلح، وهو ما عزز الانطباع بأن تنظيم " قاعدة الجهاد" قد يكون مخترقا بشكل يصعب التعامل معه.