صدر عن مركز المسبار للدراسات والأبحاث بدبي الكتاب الثامن والعشرون بعنوان "الإسلامية التونسية"، والذي يتناول أطياف الحركة الإسلامية في هذا البلد العربي، حيث تعدّ تلك الحركة واحدة من أبرز الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وأسبقها للوجود في المغرب العربي تحديدا، وقد مرت بعدد من التطورات والمسارات المهمة سواء على مستوى الممارسة والتشكلات، أو على مستوى الفكر والمنظورات، مما يجعل تخصيص هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري الثامن والعشرين أمراً مهما، وفجوة بحثية لا شك أنه قد آن الأوان لملئها. إن كثيرا من القراءات السابقة للحركة الإسلامية التونسية أتت منقوصة بمنظور تعميمي واختزالي، فيختزل المشهد الإسلامي التونسي في حركة الاتجاه الإسلامي، التي تسمّت بحركة النهضة سابقا، أو تختزل هذه الأخيرة في خطابها الفكري فقط، دون ممارساتها العملية، أو تركز على تصويب النقد في اتجاه واحد هو السلطة التونسية والنظام التونسي، دون تحميلها أدنى مسؤولية أو انتقاد لحركة النهضة، التي انتهى المقام بأغلب قادتها وغالب أعضائها لسكنى المهجر. في البداية يقدم لنا صلاح الجورشي في دراسته "المشهد الإسلامي في تونس" معالم هذا المشهد، وأهم قواه، متسائلا في البداية عن السياق التونسي لنشأته وصعوده، فمن كان يتوقع أن تنشأ في تونس حركة إسلامية على شاكلة حركة الإخوان المسلمين في مصر؟ حيث كان كل شيء في الستينيات وبداية السبعينيات، يؤكد أن هذه البلاد، التي تأثرت قيادتها السياسية ونخبتها بعصر الأنوار الأوروبي، ستكون بمنأى عن ظاهرة الإسلام السياسي، ولكن ولد موسى في قصر فرعون، على حد تعبير أحد شيوخ الزيتونة، الذين فاجأهم ميلاد الحركة الإسلامية، بعد أن ظنوا أن المشروع البورقيبي نجح في تهميش الدور السياسي للإسلام إلى الأبد؛ فماذا حدث؟ وكيف؟ هذا ما تجيب عليه هذه الدراسة. ويقدم فاضل البلدي، أحد مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي سابقا، والنهضة حاليا، قراءة نقدية كان شاهدا عليها، بل أحد صناع قرارها، فقد تولى الكاتب مسؤولية الحركة أثناء سجن زعيمها راشد الغنوشي في أواخر الثمانينيات، وكان عضواً بها حتى استقالته في أوائل التسعينيات، مما يجعل دراسته أشبه بمرآة للنقد الذاتي داخل الحركة، لشاهد ملتحم بالأحداث، فهو لم يتحيز للحركة كما لم يقف ضدها، ولكن رصد تطورها، كما خلص للنتائج المستفادة من تجربتها الصدامية مع النظام على مدار فترة من الزمن، ويؤكد البلدي أن مناخ التوجس والشك الذي كان سائداً بين الطرفين، ساهم في حرمان تونس من فرصة تاريخية نحو التعددية السياسية، وتطبيع وجود الحركة الإسلامية في الحياة العامة. ويقدم لنا أحميدة النيفر دراسته التي يعصر فيها ذاكرته، مطلقا شهادته عن سنوات تأسيس الحركة الإسلامية التونسية، التي كان شريكا فاعلا فيها، ومنظّرا وفاعلاً داخلها عبر رئاسته لتحرير مجلة المعرفة، التي كانت تعبّر عنها، وما كتبه النيفر ليس سردا تأريخيا ولكنها مراجعة من أجل إبداع بدائل للتقدّم والنهوض. ثم يقدم الباحث المغربي عبد الحكيم أبو اللوز دراسته عن علاقة الإسلاميين في تونس بالسلطة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، والتي يؤكد فيها على أزمة الخطاب الحركي الإسلامي، الذي يتسم بما يشبه المراوغة بدرجة ما، حيث يرفض العلمانية والأطروحات الحداثية، بينما يعتمد أدبياتها ومقولاتها، كالديموقراطية وحقوق الإنسان في مواجهتها، منطلقا من فرضية أن التيار الإسلامي في تونس قد مثل خلال هذه الفترة حالة نموذجية، لكونه كان سباقاً إلى تجاوز العديد من المراحل التي كانت التيارات الأخرى تجهلها إلى عهد قريب. ومن منظور آخر يرى العجمي الوريمي الإشكالية نفسها في علاقة الإسلاميين بالسلطة (حالة النهضة في تونس نموذجا)، مؤكداً منذ البدايةِ أن العلاقة بين الطرفين تشكل عقدة الحياة السياسية في تونس، ويرتبط بطريقة تسويتها نمط وكيفية تطور الحياة السياسية عموماً، مؤكدا أن الحياة السياسية في تونس في حاجة إلى إعادة بناء وصياغة، لا كعملية فوقية أوإرادية فحسب، بل كجزء من عملية تاريخية تضع البلاد في مدار الحداثة الحقيقية، في إطار الثوابت الوطنية، ومن ضمنها الهوية العربية الإسلامية، من عدد من الفرضيات التي يختبرها الوريمي في دراسته من قبيل الهوية الغائبة، والتعددية المؤجلة، ومشروع الدولة الذي لم يكتمل. وتأتي دراسة مصدق الجليدي "الإسلاميون التقدميون طلائع التنوير الإسلامي في تونس"، كاشفة وقارئة لواحد من أهم تيارات المراجعة في فضاء الحركات الإسلامية العربية، وهو تيار الإسلاميين التقدميين، وهم مجموعة من المتنورين الذين مارسوا النقد من داخل الحركة الإسلامية، ثم تركوها وانفصلوا عنها، عندما لم تتحمل قيادة الحركة رؤاها ونقدها، موضحا مرجعياتها وروافدها الفكرية، التي تمتد من رفعت السعيد إلى حسن حنفي إلى على شريعتي وآية الله طلقاني ومجاهدي خلق، ومستقرئة لقصة الاختلاف والانشقاق عن الحركة الأم، وكذلك أهم النقاط الخلافية سواء الفكرية أو التنظيمية، ويُعد تيار الإسلاميين التقدميين تحولا مهما في فضاء الإسلامية العربية، وليس فقط التونسية، لأن مراجعاته لا تأتي على مستوى الأدوات والمنهجيات فقط، ولكن أيضا على مستوى تمدد المرجعيات وتنوعها. ثم تأتي دراسة "الحركة الإسلامية وإشكالية التحالف"، التي توضح إشكالية مسألة التحالف بين القوى الإسلامية والقوى الأخرى في المجتمع التونسي، وكيف أنها كانت مؤخرة في فكر قياداتها فترة من الوقت، والتي تجيب عن سؤالين رئيسيين، أولهما: كيف تَشَكَّلَ الوعي السياسي لدى الحركة الإسلامية التونسية؟ والثاني: كيف تطورت علاقاتها بمختلف التيارات والأحزاب في البلاد، منذ التأسيس، وصولاً إلى اللحظة الراهنة؟ والتي يعرض كاتبها فيها للرؤية الفكرية المتعلقة بإمكانية أو رفض التحالف، وتطوراتها، وحالاتها التي حدثت، وما هي الشخصيات التي تحالفت مع مطلبيات الحركة، وما هي توجهاتها، ومتى وكيف تم التحالف، وما هي رؤيته المستقبلية لإمكانيات التحالف لدى حركة النهضة والإسلاميين في تونس. أما دراسة أعليه علاني بعنوان" الحركة الإسلامية التونسية: البحث عن الذات"، فتؤكد في بدايتها أن الجماعة الإسلامية، وهي أولى ظهورات الحركة الإسلامية في تونس، والتي تأسست في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم تكن عملاً مُسقطاً غريباً عن تاريخية البلاد وصيرورتها الاجتماعية والمؤسساتية، لكنها لم تتمثل، مع ذلك، كل عناصر تلك التاريخية، وكانت الحركة في الوقت ذاته مواكبةً ثقافية للتساؤل الحضاري، الذي كان يخترق عموم البلاد العربية الإسلامية، عن مفاهيم الأصالة، والذات، والهوية، وكيفية استيعابها؛ من أجل بناء شخصية معاصرة. ثم يقدم عبد التواب عبد الله دراسته "راشد الغنوشي سيرة شخصية وقراءة فكرية"، عارضا سيرة الشيخ راشد الغنوشي، أبرز الإسلاميين التونسيين، وأهم محطاته التعليمية والنشاطية في صفوف ورئاسة الحركة الإسلامية التونسية. وفي هذا الإصدار قراءة في وثيقة حركة الاتجاه الإسلامي، التي ما زالت تمثل المرجعية الفكرية لحركة النهضة الإسلامية، من خلال دراسة وقراءة محمد القوماني، والتي يلح فيها على وجود عوامل مختلفة، تمثل صعوبات منهجية عديدة في تحديد الخصائص الفكرية للحركة الإسلامية في تونس، واتجاهات خطابها؛ وهو ما يطرح أهمية هذه الوثيقة التي اعتمدتها ولا زالت تعتمدها حركة النهضة التونسية، وهي وثيقة "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي في تونس"، كوثيقة أساسية في التعريف بفكر الإسلام السياسي في تونس، عارضا لأهم إشكالياتها وبعض نقاطها التي تحتاج إلى نقد ومراجعة من أصحابها. وتأتي دراسة العدد في هذا الكتاب للدكتور أحمد عرفات القاضي، حول التجديد الإسلامي: الدلالة والقضية، ويعرض فيها الكاتب لمفهوم التجديد الإسلامي، وأهم تعاريفه، وتنازعه بين تيارات وأفراد تجديديين مختلفين، كل يدعي امتلاكه، محاولا ضبط المفهوم، والوصول إلى حد مفهومي ضابط له، وأهم ممثليه، وكذلك ضروراته وإشكالاته المعاصرة، مع تصاعد الجدل حوله، ليس فقط إسلاميا بل دوليا كذلك.