لست من الذين يحبذون تفسير التاريخ بطريقة تامرية , فقد كتبت عن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في مواضع عدة , واجتهدت في انصاف الرجل وابراز خصاله , كما نقده من منظور تجنب اعادة تكرار تجربته الشمولية , أو اعادة تسويق اختياراته الفاشلة على صعيد موضوعات الهوية... كنت من الجيل الذي فتح عينيه على تجربة الزعيم ونارها السياسية والأمنية أواخر سنوات السبعينات ومطلع أواسط الثمانينات من القرن الماضي, وقد عايشت أحداث الاتحاد العام التونسي للشغل وقصة الاضراب العام حين كان الحبيب عاشور رمزا شعبيا وطنيا لايضاهيه رمز اخر , بل انني عايشت انتفاضة الخبز واعلان حالة الطوارئ , وكتب لي أن أشهد في الثمانينات واحدا من استقبالات الحبيب عاشور حين رفعت عنه الاقامة الجبرية ... أيقنت على الصعيد الشخصي بأن بورقيبة حاكم "وطني" بمسحة شمولية , وقد شهدت علامات ذلك حين اشتدت الاعتقالات السياسية قبيل رحيله عن سدة الحكم بسنوات قليلة... اليوم قررت فتح صفحة جديدة من تاريخ الوطن , بعد أن نقبت باحثا في مسيرة واحد من زعمائه .. أيقنت من خلال ربط التاريخ القريب بالتاريخ المعيش , أن ثمة رموزا وقع اغتيالهم أو تصفيتهم حتى لايعيقوا مسيرة بورقيبة حين توليه الحكم , ومن بقي على قيد الحياة تولى البشير زرق العيون اخماد أنفاسه في لحظة تاريخية اشتد فيها التنافس بين صالح بن يوسف وأول رئيس للجمهورية التونسية ... تم اغتيال الزعيمين فرحات حشاد والهادي شاكر مطلع خمسينات القرن العشرين, وذهبت أرواحهما الطاهرة الى سجل وطني ذهبي , غير أن أسرارا طويت مع اغتيالهما ليقال لنا فقط بأنه تم اغتيالهما من قبل عصابة اليد الحمراء... حلقة اليوم تلقي الضوء على بعض العناصر الهامة في مسيرة حشاد , وتنتهي الى خلاصات هامة نفهم بها بعضا من أسرار تسلم بورقيبة لمقاليد الحكم .. نبذة تعريفية :
الزعيم فرحات حشاد من مواليد 2 فيفري 1914، بالعباسية الواقعة في جزيرة قرقنة القريبة جدا من مدينة صفاقسالتونسية - مسيرة 20 كم بحرية – , وهو زعيم سياسي ونقابي تونسي , لمع نجمه بعد تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 , واكتسب شعبية كاسحة بين العمال وكل مكوّنات الشعب التونسي، واغتيل على يد عصابة من الفرنسيين المقيمين بتونس ( اليد الحمراء) برادس الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس يوم 5 ديسمبر 1952 , ويعتبر أحد أهم رجالات الاستقلال في تونس , الى جانب كل من الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف واخرين سبقوهم الى تأسيس الحزب الحر الدستوري بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي... تم اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952، في الوقت الذي كانت فيه اللجنة السياسية للأمم المتحدة تدرس القضية التونسية، وهو مايعني أن السلطات الاستعمارية وبتنسيق مشترك مع اليد الحمراء تجاوزا انذاك كل معايير السلوك السياسي المنضبط للقانون والشرائع الدولية . مثل اغتيال حشاد تصعيدا لسياسة التصلب والقمع وإطلاق العنان لاستبداد رجال الإقامة العامة وحلفائهم في عصابة اليد الحمراء , اذ تم الاغتيال في خضم انفجار حركة مقاومة مشهودة من التونسيين إزاء فرنسا ، وقد تزامن مع نفي كبار الزعماء التونسيين أو سجنهم ، وحين عجز الفرنسيون عن سجن فرحات حشاد لحصانة اكتسبها في الأوساط النقابية العمالية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وهياكل المنظمة الأممية , فإنهم عهدوا بأمره الى منظمة اليد الحمراء , فتم اغتياله بما يزيد عن 28 رصاصة ثم القاؤه في حفرة بعد أن أجهزوا عليه برصاصة في دماغه في محاولة انقاذ وهمية ... جريمة بدون عقاب : وعمليا لم تقم السلطات الاستعمارية ولا السلطات التونسية على عهد بورقيبة بملاحقة الفاعلين، اذ تم ترحيل المغتالين الى فرنسا صائفة 1956 بعد اتفاق مشترك بين الطرفين . وقد طالبت أصوات خافتة ابان الاستقلال سنة 1956، بمحاكمة المسؤولين عن قتل فرحات حشاد ، أسوة بما تم فعله مع قتلة الزعيم التونسي الكبير , الهادي شاكر الذي اغتيل في 13 سبتمبر 1953 , أي بعد أقل من سنة على اغتيال حشاد. فتح انذاك ملف قتلة الهادي شاكر , الا أن العناصر الفرنسية المتورطة في الاغتيالات والتفجيرات وعمليات الذبح لبعض أفراد عوائل القادة الوطنيين , غادرت البلاد بموجب ماقيل أنه صفقة سرية لم يتم الافصاح عنها سنة 1955. سنة 1957 عرفت قضية اغتيال الزعيم التونسي الهادي شاكر محاكمة انتهت باعدام اثنين من المتهمين، اذ لم تشمل الا التونسيين، وتعمدت اهمال التعرض للفرنسيين الذين ورد ذكرهم في حيثيات القضية , اذ كان بعضهم أصحاب مناصب عالية في الإدارة الفرنسية الحاكمة في تونس أو بعض رجال الدرك فيها. أما بخصوص قضية فرحات حشاد , فقد تجنبت السلطات التونسية بعد الاستقلال ملاحقة قتلته , اذ كان كل هؤلاء من الفرنسيين بحسب اعترافات أبرز عنصر في عصابة اليد الحمراء وهو "أنطوان ميليرو" , الذي وثق لأحداث الاغتيال في كتاب له صدر سنة 1997 وفي تصريحات مرئية له لقناة الجزيرة الوثائقية . أسرار مخفية : ويقول باحثون في شؤون تلك الحقبة التاريخية , أن أرشيف الخارجية الفرنسية الذي كانت تتبعه أرشيفات تونس والمغرب يحتوي على أسرار أدق حول قصة الاغتيال ، وهو أرشيف يمكن أن يماط عنه اللثام بعد مضي أكثر من خمسين سنة على تاريخ اغتيال الزعيم حشاد ، اذ تبقى الوثيقة المكتوبة والأختام الرسمية دليلا قاطعا على أسماء من أمر ومن خطط ومن نفذ هذه العملية قبل 58 سنة ... واذا كانت شهادة الفرنسي "أنطوان موليرو" للجزيرة الوثائقية حول حادثة الاغتيال قد كشفت عن أشياء هامة حول الجهات المؤسسة لعصابة اليد الحمراء , وحول المغزى من اغتيال الزعيم حشاد , فان الأرشيف الفرنسي الرسمي لتلك الحقبة قد يحتوي على تفاصيل أخرى هامة جدا ستكشف عن مستويات ذات علاقة بالمقيم العام الفرنسي ووزير الخارجية ومن هو أرفع منهما في سلم الدولة الفرنسية ..
بل ان الثابت أن الرئيس الفرنسي "فانسان أوريول" انذاك , كتب في مذكراته بأنه كان يرفض اسقتبال المقيم العام الفرنسي بتونس لعدم موافقته على أساليبه في التعاطي مع قادة الحركة الوطنية ، الا أنه لم يكن قادرا على عزله , فمنصبه يومذاك كان تشريفيا ... رجل مؤمن : ومايهمنا أكثر في دوافع قصة اغتيال الزعيم الراحل فرحات حشاد , هو أن حشاد كان رجلا مؤمنا ومتمثلا لمعاني اسلامه , اذ عرف بقربه من مشائخ الزيتونة وعلاقته الحميمة بالشيخ العلامة محمد الفاضل بن عاشور الذي سبق له وأن ترأس الاتحاد العام التونسي للشغل عند تأسيسه في 20 جانفي 1946 . الشهيد فرحات حشاد , بقيت جثته على هيئتها الأولى حتى بعد اغتياله بثلاث سنوات , وهو ماشهد به رئيس الوزراء الأسبق أحمد بن صالح , حين تحدث عن تفاصيل نقل مكان دفنه للجزيرة الوثائقية , وهو ماأكدته زوجته أم الخير أيضا في اطار نفس الشهادة التاريخية . وحين حرر أحمد بن صالح رسالة للشعب التونسي نيابة عن الشهيد حشاد وختمها بكلمة و"سننتصر" , صحح حشاد لبن صالح , وأضاف في نهاية الرسالة كلمتي بحول الله الى لفظة الانتصار ... مفاضلة فرنسية : أدركت فرنسا الاستعمارية يومذاك , أن حشاد كان يتقدم بورقيبة مكانة شعبية والتفافا اجتماعيا وجماهيريا , فقد كان الرجل على غاية من التواضع والحب للجميع من أبناء بلده , بل انه كان محورا ثقيلا في علاقاته الدولية بالولاياتالمتحدة والمنظمات الدولية , ومن ثمة قررت التخلص منه تمهيدا لتسليم مقاليد الحكم للحبيب بورقيبة , الذي شهد أنطوان ميليرو متزعم عملية اغتيال حشاد بأنه كان صديقا لفرنسا - أي بورقيبة-, وبأن فرنسا كانت تدرك بأن بقاء حشاد على قيد الحياة سيعني اعاقة الأخير عن تولي مقاليد حكم تونس , بعد ادراكها لحتمية الانسحاب العسكري من البلاد التونسية . طبعا هذا مضمون شهادة ميليرو , وميليرو كان وجها متقدما في عصابة اليد الحمراء , وقد قال بلفظ صريح بأنه لو دار الزمن الى الوراء ليقرر , لقرر مرة ثانية اغتيال الزعيم الوطني فرحات حشاد دون تردد ... أنطوان ميليرو كان يومذاك على ارتباط بالضابط الفرنسي فيات , والضابط الأخير , واستنادا الى شهادة ميليرو للجزيرة الوثائقية كان على ارتباط برئيس الوزراء الفرنسي ! ... حلقات متكاملة : تفاصيل مثيرة لم نرد لها أن تذهب أدراج الرياح في خضم اعادة تصفحنا وقراءتنا وتحليلنا لمحطات هامة ورئيسة في تاريخ تونس الحديث , فماذكرناه عن أسرار استبعاد الثعالبي وحزبه الحر الدستوري والانقلاب عليهما من قبل مجموعة الدستور الجديد , وتفاصيل أخرى أوردناها حول استبعاد الشيخ العلامة الفاضل بن عاشور من عضوية الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد مخافة تأثيره العظيم على مستقبل الحركة الوطنية ... كل ذلك مع تفاصيل أخرى أوردناها في معرض تقديمنا لشخصيات وطنية أخرى يؤكد لنا مرة أخرى بأن انتقال السلطة للحبيب بورقيبة لم يكن فقط بارادة وطنية , وانما بمساعدة فرنسية فاضلت فيها بين الطروحات والخطاب السياسي , وقد لعب عنصر التمايز في الطروحات الثقافية ومشاريعها دورا بارزا في تقريب بورقيبة وابعاد اخرين واغتيال البعض الاخر , كما عاد هذا العنصر ليتفجر من جديد أواسط الثمانينات من نفس القرن حين أحس بورقيبة وبطانته بميولات محمد مزالي كرئيس وزراء لخيارات اصلاح التعليم وتدعيم مكانة اللغة العربية في مناهجها , وهو ماأدى الى اقصائه ثم طلب رأسه , لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع السياسي والثقافي في تاريخ الجمهورية التونسية . كتبه مرسل الكسيبي* بتاريخ 8 فبراير 2010 . *كاتب واعلامي تونسي : [email protected] ملاحظة : تم الاستفادة من مجموعة من الورقات التي صيغت في رواية أهم الأحداث في مسيرة الشهيد حشاد الى جانب الاطلاع على شريط الجزيرة الوثائقية من أجل معرفة الشهادة التي أدلى بها أنطوان موليرو وفهم مبررات ودوافع الاغتيال .