عاجل/ قضيّة "التآمر": إحالة 40 متّهما على الدائرة المختصّة في الإرهاب    رياض البوعزيزي: 'السلطة تدخّلت لإبطال ترشّح قائمتي التلمساني وبن تقية لانتخابات الجامعة'    الروائح الكريهة تنتشر في مستشفي قابس بسبب جثث المهاجرين    إغتصاب ومخدّرات.. الإطاحة بعصابة تستدرج الأطفال على "تيك توك"!!    عاجل : معهد الصحافة يقاطع هذه المؤسسة    رئيس الجمهورية يتسلّم دعوة للمشاركة في القمة العربية    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    هذه الأغنية التونسية تحتل المركز الثامن ضمن أفضل أغاني القرن 21    التمديد في سنّ التقاعد بالقطاع الخاص يهدف الى توحيد الأنظمة بين العام والخاص    عاجل/ إستقالة هيثم زنّاد من ادارة ديوان التجارة.. ومرصد رقابة يكشف الأسباب    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    تواصل غلق معبر راس جدير واكتظاظ كبير على مستوى معبر ذهيبة وازن    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    تونس: مرضى السرطان يعانون من نقص الأدوية    من بينهم مساجين: تمتيع 500 تلميذ باجراءات استثنائية خلال الباكالوريا    أتلتيكو مدريد يقترب من التعاقد مع لاعب ريال مدريد سيبايوس    الرابطة الأولى: نجم المتلوي يرفع قضية عدلية ضد حكم مواجهة النادي البنزرتي    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    صفاقس_ساقية الدائر: إخماد حريق بمصنع نجارة.    عين زغوان: حادث مرور يسفر عن وفاة مترجل وبتر ساق آخر    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    وزيرة التربية: ''المقاطعة تساوي الإقتطاع...تسالني فلوس نخلّصك تتغيّب نقصّلك''    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    وزير الشؤون الاجتماعية يزف بشرى لمن يريد الحصول على قرض سكني    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    الأساتذة النواب: ندعو رئيس الدولة إلى التدخل    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    غرفة تجّار لحوم الدواجن: هذه الجهة مسؤولة عن الترفيع في الأسعار    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    بطولة مدريد المفتوحة للتنس: روبليف يقصي ألكاراز    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تقول ان الوكالة الوطنية لمكافحة المنشطات لم تمتثل لتوصياتها    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوسط التونسية تقدم محاضرة ووثيقة نادرة للشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور


بسم الله الرحمن الرحيم
تحية طيبة مباركة على السادة العلماء الأفاضل أعضاء حفلة ذكرى المولد النبوي. إنكم قد وضعتموني بمرتقىً سامٍ إذ أبلغتموني بواسطة صديقي العلامة الجليل الشيخ السيد محمد الخضر حسين رغبتكم في أن أكتب تحريراً يتضمن شيئاً من السيرة النبوية، ووقع اختيار بعض السادة منكم على أن يكون موضوع هذا التحرير هو «أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة». وإني لأقدر اقتراح تعيين هذا الموضوع قدره، إذ صار هذان اللفظان في عالم الرُّقي حِبّ النفوس وهوى القلوب، وأصبح صفاء أخلاق الأمم يُخْبَر بمعيارها، ورجحان المدنية يُوزن بمثاقيلها، فحقيق علينا حين نتهمّم بذكرى مولد الرسول الأكرم ،صلى الله عليه وسلم، أن لا نهجر من سيرته أعظم نواحيها وهو ذكر مقامه في التشريع وأصوله ؛ إذ التشريع أعظم ما لابسه الرسول في كل مدة رسالته ولأجله نفحه الله - تعالى - بجليل صفاته، قال تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا يخفى على صاحب الذوق العربي ما في اختيار كلمة «على» من الدلالة على التمكّن من هذه الشريعة، وما في قوله «جعلناك» من الدلالة على تكوين نفس الرسول لأجل التمكن من الشريعة.
فإذا أحببنا أن نصف فضل شريعته على بقيَّة الشرائع المناسب لفضل صاحبها على بقية المشرّعين - صلوات الله عليهم أجمعين - فليس بنا أن نتكلم على فروع الشريعة، ولكنا نصفها في أصولها وخصائصها، وللغرض المنوّه به آنفاً حظٌ جزيل من بيان شيء من روح الشريعة المحمديّة ومزاياها.
يتقدم البحث عن أثر الدعوة المحمديّة في هاتين الخصلتين بمقامين:
الأول: في بيان مقدار علاقة الحرية والمساواة بالشريعة.
الثاني: في بيان انتشار الحرية والمساواة في الأمم الخارجة عن الإسلام من الأمم المعتبرة في العالم يوم البعثة المحمدية.
المقام الأول
في الحرية والمساواة في السريعة المحمدية
وهو مقام يستدعي شيئاً من الإطالة ليكون الحكم فيه على شيء مضبوط، فلا يظن أحد أن الإسلام دعا إلى الحرية والمساواة على الإطلاق أو على الإجمال؛ لأن هنالك حدوداً دقيقة بعضها محمود نافع، وبعضها ضارّ مذموم.
الحرية
لا تجد لفظاً تهواه النفوس، وتهش لسماعه وتستزيد من الحديث فيه، مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه، مثل لفظ «الحرية». وما سبب ذلك التعلق العام إلاّ أن معظم من يسمعون هذا اللفظ أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم. فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيخف عنده ما ينكره الناس من وقاحته. والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها فيجد من ذلك مبرراً لجرأته. ومحب الثورة يَعُدّ الحرية مسوِّغاً لدعوته. والمفتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حرّ العقيدة إلى غير هؤلاء. فيالله لهذا المعنى الحسن ماذا لقي من المحن، وماذا عدل به عن خير سنَن.
والتحقيق: أن الحرية إنما يعني بها السلامة من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة. ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرِّقّ، وقد شاع عند العرب أن يُلصقوا مذامّ الصفات النفسانية بالرقّ، إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، و زهِدوا في خصال الكمال، قال ابن زيابة:
إنك يا عمرو ووتْرَك النَّدى كالعَبْد إذ قيَّدَ أجماله(1)
ولما استصرخ شدّاد العبسي ابنه عنترة ليردّ غارات عدوهم - وكان عنترة ابن أمَة كما هو مشهور، وكان أبوه يأبى أن يعُده في عِداد بنيه، بل جعله عبداً له على عادة أهل الجاهلية - أجابه عنترة بقوله: «العبد لا يُحسن الكرّ وإنما يُحسن الحلاب والصّرّ(2)» فقال شدّاد: «كُر وأنت حُر» وبضدّ ذلك جعلوا الفضائل من سمات الأحرار، قال جعفر بن عُلبة الحارثي:
لا يكشف الغمّاء إلاّ ابنُ حرّةٍ يرى غمرات الموت ثم يزورها
وقال الراجز الجاهلي:
لن يُسلِمَ ابنُ حُرّةٍ زميلَهُ حتى يموت أو يرى سبيلَهُ
وقال مخَيَس بن أرطاة التميمي:
فقلت له تجنّب كل شيءٍ يُعاب عليك إنّ الحُرَّ حُرُّ
قال المبرِّد: يعني أن الحر على الأخلاق التي عُهدت في الأحرار وكما كنت تعهد. اه. يعني وأنت حُر فلا تخالف خلق الأحرار.
حتى لقد احتاج بعض أصحاب الأخلاق الحميدة من عبيدهم إلى إعلان الاختلاف بين حال عبودية شخصه وكرم نفسه، كما قال حيَّة النوبي الملقب بسُحَيم عبدُ بني الحَسْحَاس(3):
إن كنتُ عبداً فنفسي حُرة كَرَماً أو أسْوَدَ اللون إني أبيضُ الخُلقِ
دعوة الإسلام إلى الحرية
الحرية وصف فِطري في البَشَر؛ فإننا نرى المولود ييفع حُراً لا يعرف للتقييد شبحاً. وإذ قد كان الإسلام دين الفطرة كما وصفه الله – تعالى – بقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها فكل ماهو من أصل الفطرة فهو من شُعَب الإيمان ما لم يمنعه مانع، ويزيد إعراباً عن كون الحريّة من أصول الإسلام قوله تعالى في وصف محمد ،صلى الله عليه وسلم، ووصف أتباعه: الذين يتَّبعون الرسول النبي الأمّيَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويُحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالإصر هو التكاليف الشّاقّة. والأغلال غير الإصر فهي مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية، وهي عبودية الأصنام وسَدَنَتها، وعبودية الملوك، وعبودية القادة أصحاب المرابيع(4).
ومما يزيد هذا بياناً قول عمر لعمرو بن العاص في قصة ولده الآتية: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
طرأت على الحرية الفطرية وسائل الضغط من القسوة والتسلّط؛ فسخّرت الضعيف للقوي، والبسيط للمحتال، وزادت هذا التسخير تمكناً التعاليمُ المضللة، وهي أساطير الوثنية والشرك والكهانة، فجاء محمدٌ ،صلى الله عليه وسلم، يضع عنها الأغلال إلى الحدّ الذي تصير به نفعاً ورحمة، قال تعالى: وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين.
لا تتحقق حرية تامة في نظام البشر لأن تمام الحرية هو الانخلاع عن جميع القيود، وعن كل مراعاة للغير، بأن يعيش المرء عيشة الوحوش وذلك غير مستطاع إلاّ فيما تخيّله الشنفرى إذ يقول:
ولي دونكم أهلون سِيدٌ عمَلّسٌ وأرقط زهلولٍ وعرفاء جَيْألُ
هم الأهلُ لا مستودع السِّر ذائعٌ لديهم ولا الجاني بما دان يعذلُ
فأمّا والإنسان مدنيّ بطبع خِلقته محتاج إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون؛ فالحرية المطلقة تنافي مدنيته. فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حرية مقيدة لا محالة.
فلننظر إلى القيود التي دخلت على الحرية في تاريخ الحضارة، فإن كانت تحصل منها فائدة للمقيد بها في خاصته أو في حالته الاجتماعية العامة؛ فهي المعبر عنها بالشرائع والقوانين، ودخولها على الحرية مقصود منه تعديلها لتكون نافعة غير ضارة. وإن كانت تلك القيود في فائدة غير المقيّد بها، فهي الاستعباد الذي قصد منه أو آل إلى إفساد الحرية.
مظاهر الحريّة
تتعلق الحرية بالاعتقاد، والقول، والعمل:
فأمّا حرية الاعتقاد فقد أسّس الإسلام حرية العقيدة بإبطال العقائد الضّالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فإن محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا ما لا قِبَل له بجَوَلان الفكر فيه أو ما يموه بتخيلات، وتكليف اعتقاد ما لا يُفهم ينافي الحرية. فبيّن الاسلام الاعتقاد الحق، ونصب الأدلة عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة؛ قال تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ولقد اختلف الصحابة وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة، كمسألة الإمامة والقَدَر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة تُرغِم غيرها إلاّ إذا خرج المخالف عن حدّ المناظرة إلى المغالبة والإرهاق، وانقسم المسلمون إلى طوائف مختلفة الاعتقاد؛ من آخذين بما ورد في السنة دون تأويل، وآخذين بذلك مع التأويل. ومن خوارج، وقَدَرية، وجبريّة، ومرجئة، ومعتزلة، وظاهريّة، وصوفية: فلم يكن أهل حكومة الإسلام يجبرون الناس على اتباع معتقدهم، بل كان الفصل بينهم قائماً على صحة الحجة وحسن المناظرة، إلى أن ظهرت في القرن الثالث مسألة خلق القرآن وإثبات الكلام النفسي القديم التي أيقظت عين الفتنة، وابتُلي فيها أهل السنة ببغداد ومصر، وظهرت بالقيروان مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله. ومسألة العندية في الإيمان، وهي قول المؤمن: أنا مؤمن عند الله. وتبعت ذلك فتن تبدو وتخفى، وتلتهب تارة ثم تُطفى.
لم يسمح الإسلام بتجاوز حريّة الاعتقاد حدّ المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يُفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية فلا يكون محموداً. فالذي يعتقد عقيدة الإسلام ثم يخرج منه فهو المرتدّ، فارتداده إمّا أن يكون مع إظهار الحِرابة للإسلام؛ وهذا النوع قد حدث زمن النبي ،صلى الله عليه وسلم، من نفر من عُكل وعُرينة فحكم فيهم رسول الله بحكم المحارب. وإما بدون حِرابة فقد ارتدّ نفر آخرون ثم تابوا فقبل رسول الله توبتهم. ثم ارتدت قبائل العرب بعد وفاة رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، بإعلان الكفر أو بجحد وجوب الزكاة، وقد أجمع الصحابة على وجوب قتالهم، فكان إجماعهم أصلاً في قتل المرتدّ مع الاعتضاد له بما رواه معاذ بن جبل وعبدالله بن عباس أن رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، قال: «من بدّل دينه فاقتلوه». يعني الإسلام. وليس هذا الحكم بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخل في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حر في خروجه منه لقيام معارض الحرية؛ لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل، فإنه لا يُتصور أن يجد بعد إيمانه ديناً آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان، فتعين أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس أو لقصد التشويه بالدين في نظر من لم يؤمنوا به ليوهمهم أنه دين لا يستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه؛ لأن معظم الناس أغرار تغرهم الظواهر ولا يغوصون إلى الحقائق. وكما استدل هرقل على صدق نبوة محمد ،صلى الله عليه وسلم، بسؤاله أبا سفيان: «هل يرتدّ أحد من أتباع محمدٍ بُغضةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟» فأجابه أبو سفيان - وهو يومئذٍ مشرك - بأن لا. فقال هرقل: «وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب» فكذلك يعكس الكائد للإسلام وجه الاستدلال؛ فيجعل من ارتداد الداخل في الإسلام دليلاً وهمياً على عدم صحته، وقد يكون الارتداد لمجرد الاستنكاف والسخرية بالإسلام. وحرمة الله توجب الذّبّ عن دينه في مثل هذا، على أن عدم المؤاخذة به يفضي إلى انحلال الجامعة كما وقع في ردّة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة.
أمّا حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمل الإسلام أهل الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم إلى الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. ومعلوم أن الدخول تحت سلطان الإسلام ليس متعلقاً بالاعتقاد ولا بالعمل، ولكنه راجع إلى حفظ أمن دولة الإسلام؛ إذ الإسلام دين قرين ودولة، فكان من موجبات حفظ بقائه تأمينه من غوائل الناقمين على ظهوره، قال بعض العلماء: كان رسول ،صلى الله عليه وسلم، لا يُكره أحداً على اتباعه فأبى المشركون إلاّ أن يقاتلوه؛ فنزل قول الله تعالى: أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وقد قال الله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ(5).
وأما حرية القول فهي أن يجهر المفكر برأيه، ويصرح بما يراه صواباً مما يأنس من نفسه أنه يحسن الإصابة فيه(6)، قال الله تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ولا شكّ أن قول العدل تكرهه النفوس التي يقمعها الحق؛ ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر شعب الإيمان، قال تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وقال: كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وفي الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» فالتغيير باليد خاص بأولي الأمر، وجعل التغيير بالقلب أضعف الإيمان فهو حظ ضعف، فتعيَّن أن حظّ عامة المؤمنين هو تغيير المنكر باللسان.
ومن حرية القول بذل النصيحة، قال تعالى: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وفي الحديث الصحيح: «الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وفي حديث جرير بن عبدالله البَجَلي: «بايعت رسول الله على الإسلام، فشرط عليّ: والنصح لكل مسلم، فبايعته على ذلك».
ومن حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه، والمرأة زوجها، وفي حديث عمر بن الخطاب: «كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبتُ على امرأتي فراجعتني فأنكرتُ عليها أن تراجعني، قالت: ولمَ تنكر عليّ أن أراجعك؛ فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه»، وقد أخبر عمر بذلك رسول الله فأقره، وقد راجع الصحابة رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، في أشياء من غير التشريع. ومن ذلك لما نزل رسول الله بالجيش أدنى ماء من بدر في وقعة بدر قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله ،صلى الله عليه وسلم،: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال: يا رسول، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله ثم نعور ما وراءه من القُلُب(7)، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فنشرب ولا يشربوا؟ فقال رسول الله ،صلى الله عليه وسلم،: «لقد أشرت بالرأي». وقال عمر لرسول الله ،صلى الله عليه وسلم، يوم صلح القضية حين رأى عزم رسول الله على إجابة شروط قريش: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل، فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟!
ومن حرية القول حرية العلم والتعليم ومظهرها في الإسلام في حالين:
الحال الأول: الأمر ببثّ العلم بقدر الاستطاعة، فقد أُمرنا ببث القرآن وتعليمه وببث الآثار النبوية؛ ففي الحديث الصحيح: «نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه إلى من ليس بفقيه» وفي خطبة حجة الوداع: «ليبلغ الشاهد الغائب»، وقد أمر الخليفة الثالث بنسخ المصاحف وأرسل بها إلى أقطار الإسلام، وجعل النبي ،صلى الله عليه وسلم، يوماً في الأسبوع لتعليم النساء، وأُسست المكاتب لتعليم الصبيان من عهد أبي بكر أو عمر، ثم قد وردت أحاديث في فضل تعليم العبيد والإماء. ووراء هذا مرتبة أُخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبة. قال علماؤنا: إنها من مشمولات أمر الوجوب في قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم وغيره من آيات القرآن، وفي الحديث: «من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» وأية حرية للعلم أوسع من هذه إذ جعل الأجر على الخطأ.
الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم، وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق برأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلباً للحق لأن الحق مشاع، ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: إنني عزمت أن أكتب كتبك هذه (يعني باعتبار أبوابه) نُسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها. فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإنّ الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدَعِ الناس وما هم عليه.
ولقد كان في مدة الدولة العُبَيْدِيَّة بالقيروان مذهبان متضادان تمام المضادة في أصول الدين وفروعه، وهما مذهب المالكية سكان البلاد، ومذهب الإسماعيلية من الشيعة، مذهب أهل الدولة، وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم، ويدرّسون مذاهبهم لا يصدّ أحدهم الآخر. ثم كان نظير ذلك بمصر في عهد انتقال العُبَيْديّين إليها وتأسيس دولتهم الملقّبة بالفاطمية، وشواهد هذا كثيرة في تاريخ المذاهب.
لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، يُدَرِّسون التوراة في المدارس بالمدينة، وجاء رسول الله إلى مدراسهم ودعاهم إلى الإسلام كما هو ثابت في «الصحيح».
وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خويصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره. فحرية العمل في الخويصة، مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبَر على أن يعمل لغيره، إلاّ إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة، أو ما فيه حفظ حياة الغير، مثل الدفاع عن الحوزة وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة ونفقة القرابة ما هو محظور شرعاً، إلاّ إذا طرأ عليه اختلاف التصرف من عَتَهٍ أو سَفَه، وذلك قيد في الحرية لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة، فأُلغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته. وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهنّ من انتفاء المفاسد، فلهنّ التصرف في أموالهنّ إذا كنّ رشيدات، ولهنّ إشهاد الشهود في غيبة أزواجهنّ. وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله. ولهنّ الخروج لقضاء حوائجهنّ بالمعروف، ولهنّ حضور الجمعة والجماعة والعيدَين، وفي الحديث: «ولتخرج العواتق وربات الخدور، وليشهدن الخير ودعوة المسلمين». وكانت امرأة عمر بن الخطاب تخرج إلى صلاة الجماعة وتعرف منه الكراهية فتقول: والله لأخرجنّ إلاّ أن تمنعني فلا يستطيع منعها. ومعنى كراهته لذلك أنه يودّ أنها تترك فضيلة الجماعة لِما عُرف به من شدة الغيرة، ومعنى قولها له: إلاّ أن تمنعني: أي إلاّ أن تصرح لي بالمنع وهو لا يستطيع ذلك؛ لأنه رأى أنه ليس من حقه عليها، وكان وقّافاً عند كتاب الله. وللمرأة حق مطالبة الزوج بحسن المعاشرة وطلب عقوبته على ضدّ ذلك، ويُحكم لها بالطلاق في أحوال معينة، قال تعالى: ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة.
وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضرّ بأحدٍ لينتفع غيره ولكنه لا يعمل عملاً فيه اعتداء على حق الغير؛ كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات. وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبث الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.
حرية العبيد
سلّط الإسلام حقيقة الحرية على حقيقة العبودية قصداً لعلاجها وإصلاح مزاجها. إنّ الرق شيء قديم في المجتمع البشري من قبل التاريخ، وهو أثر تسلط القوي على الضعيف؛ فكان الرقيق معدودين كالحيوان يذيقهم سادتهم النكال فلا يرثي لهم أحد، ولا ينتصف لهم قانون، وقد عذب العرب في الجاهلية بعض الرقيق؛ فعذبت قريش أمَة اتهموها بسرقة وِشاح جويريةٍ، ثم تبين أن الحدأة اختطفته ثم ألقته بمكانٍ، فكان ذلك سبب إسلام هذه الأمة وهجرتها إلى المدينة، وكانت تقول:
ويومُ الوشاحِ من تعاجيب ربنا ألا إنه من دارة الكفر نجّانِي
وقتلت بنو الحسحاس من بني أسدٍ عبدهم سُحيماً الشاعربتهمة تغزله بابنة سيده(8). فمنح الإسلام من الحرية للعبيد ما لم يمنحهم إياه شرع سابق.
ابتدأ الإسلام فأبطل معظم أسباب الرق وهي:
1- الاسترقاق الاختياري: كان الأب أو الأم أو الولي يبيع قريبه لمن يصيّره مملوكاً له، وكان هذا الاسترقاق مشروعاً في الشرائع القديمة، وقد ثبت في شريعة التوراة حسبما في الإصحاح 21 من سفر الخروج، والإصحاح 25 من سفر اللاويين.
2- والاسترقاق في الجناية: بأن يحكم على الجاني ببقائه رقيقاً، وقد كان هذا مشروعاً حكاه القرآن في قصة يوسف بمصر: قالوا جزاؤه من وُجد في رحله فهو جزاؤه إلى قوله: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلاّ أن يشاء الله.
3- والاسترقاق في الدَّين: وكان مشروعاً عند الرومان أن يأخذ الدائن مدينه إذا عجز عن الدفع فيسترقّه، وكذلك كان في شرائع اليونان في عهد سولون الحكيم.
4- والاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية، أعني الحروب بين المسلمين فهو ممنوع في الإسلام.
5- واسترقاق السائبة: كما استرقّت السيارة من الإسماعيليين يوسف عليه السلام حيث وجدوه في الجب فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسَرُّوه بضاعة.
وقد عزّز الإسلام ذلك بروافع ترفع حكم الرق وهي كثيرة:
فمنها: أن جعل من مصارف أموال المسلمين اشتراء العبيد وعتقهم وإعانة المكاتبين بنص قوله تعالى: وفي الرقاب.
ومنها: أن جعل عتق العبيد من خصال الكفارات الواجبة ككفارة قتل الخطأ، وتعمد فطر رمضان، والظهار، والحنث.
ومنها: أن أمر بمكاتبة العبيد، وهي التعاقد معهم على مقدار من المال يؤديه العبد منجماً فإذا استوفاه صار حراً، قال تعالى: والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم حمل كثير من علماء الصحابة ومن بعدهم الأمر في قوله: (فكاتبوهم) على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب.
ومنها: أن من أعتق جزءاً من عبده أجبر على إكمال عتقه إن كان بقيته له، وإن كان لغيره معه فيه شركة قوّم عليه نصيب شريكه وألزم الشريك ببيع نصيبه للمعتق بالقيمة وأُعتق جميعه.
ومنها: أن من أولد أمته صارت في حكم الحرة، بمعنى أنه لا يجوز له بيعها ولا له عليها خدمة ولا استغلال، وتعتق من رأس تركته بعد مماته.
ومنها: أن من عاقب عبده عقاباً شديداً فمثّل به أعتق عليه جبراً أو وجب عتقه دون جبر إذا لم يبلغ حد التمثيل كاللّطمة؛ لأن عتقه كفارة الاعتداء عليه كما في الأحاديث الصحيحة وأقوال الأئمة.
ومنها: كثرة الترغيب في عتق العبيد والإماء.
ومنها: أن جعل الفقهاء دعوى العتق لا يعجَّز مدعيها، ولا يحكم عليه إن لم يجد بينة بحكم قاطع لدعواه بل له أن يقوم بها متى وجد بيِّنة.
ولقد استخلص فقهاء الإسلام من استقرائهم لأدلة الشريعة وتصرفاتها في شأن العبيد قاعدة فقهية جليلة وهي قولهم: (إن الشارع متشوّف إلى الحرية).
ويضاف إلى هذا تأكيد الوصاية بالعبيد. وفي حديث أبي ذر قال رسول الله ،صلى الله عليه وسلم،: «عبيدكم خَوَلكم، إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جُعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويُلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلّفه فلْيُعنه».
وفي حديث آخر - وأحسب أنه موجود في بعض روايات خطبة حجة الوداع -: «اتقوا الله في العبيد؛ فإنّ الله ملَّكَكم إياهم ولو شاء لملَّكَهم إيّاكم».
وفي «الصحيح» نهى رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، عن أن يقول العبد لمالكه: ربي أو سيدي، وليقل: مولاي، ونهى المالك أن يقول: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي.
فإن قال قائل: لماذا لم يُبطل الإسلام أصل الاسترقاق أو يبطل أسباب حدوثه بعد الإسلام، فيكون أقطع لجرثومته وأنفع لتحقيق مقصد الشريعة من التشوف إلى الحرية؟ قلنا: تبين أن الاسترقاق قد بُنيت عليه نُظُم المدنية يومئذٍ في الخدمة، والعمل، والزراعة، والغراسة، وأصبح من المتمولات الطائلة والتجارة الواسعة المسماة بالنخاسة، وانعقدت بسبب ذلك أواصر عظيمة وهي أواصر الأمومة بين العائلات وأواصر الولاء في القبائل، فإبطاله إدخال اضطراب عظيم على الثروة العامة والحياة الاجتماعية بأسرها، على أنه ربما يُعرِّض العبيد إلى الهلاك، والذهاب على وجوههم في الأرض لا يجدون من يؤويهم. ثم لو أبطل الإسلام أسباب الرق في نظامه لكان ذلك ذريعة إلى جراءة أعدائه من العرب وغيرهم على حربه؛ لأن أعظم ما يتوقعه المحاربون من الهزيمة هو الأَسْر والسَّبْي، فإذا أمِنوا منهما لم يعبأوا بالموت وما دونه، وعبر عن ذلك أبو فراس بنزعته العربية بقوله يخاطب سيف الدولة:
ولكنني أختار موت بني أبي على سروات الخيل غير موسّدِ
وتأبى وآبى أن أموت موسّداً بأيدي الأعادي موت أكبد أكمدِ
وقال النابغة في شأن الأسْر والسَّبْي:
حذراً على أن لا تُنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمُتن حرائرا
سد ذرائع انخرام الحرية
جرى الإسلام على عادته في التشريع، وهي أن يشرع الوسائل ويؤسس القواعد المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسدّ الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مفسدات المقاصد فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي الملقبة في أصول الفقه بسد الذريعة.
وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل، فأوجب الإسلام على المسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والإخلاص فيه وترك الرياء، وسمى الرياء بالشرك الأصغر وذلك ليجتنب الناس حب المحمدة الباطلة، فإن حب المحمدة قائد إلى الاستعباد الاختياري ومانع للحرية؛ لأن الافتتان بحب المحمدة يحتم على صاحبه الخوف من الانتقاد وغضب الجمهور من الذين لايفقهون مصلحة من غيرها، ولا يميزون بين الحق والباطل، فإذا حمدوا ومجدوا أحداً حسبوا فعلهم مزية أنالوها إياه فأصبحوا يمنون عليه، ويترقبون منه أن يطيعهم في قضاء ما يشتهون مما يظنونه مصلحة والغرض أنهم لايفقهون، فإذا كان ناصحاً أميناً لم يستفزه ذلك إذا علم أن فيه لهم سيء العواقب، ولم يغتر منهم بتلك الظواهر الكواذب، ولم يرقه السير في عرض المراكب. وقد حكى الله من مواقف الرسل والناصحين من ذلك كثيراً، فحكى عن موسى عليه السلام: قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبَّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. فأما إذا فتنته تلك الظواهر الخلابة فانتفخ عجباً، وخشي انحرافاً منهم وسلباً؛ خص في إدراك الحقيقة وخادعهم، وواربهم وأضاع مصالحهم وغلب سفههم على رشده، قال تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وقال: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا. وقد سقط في هذه المهواة كثير من زعماء الأمم.
وسدَّ ذرائع قتل الحرية بالقوة المالية؛ إذ قد يعرض الاستعباد من الحاجة إلى المال، وفي الحديث: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعطَ لم يرضَ». فلذا أبطل الإسلام الربا لأنه طريق واضح لاستعباد المضطرين، وأبطل عقود الإكراه، وأبطل معظم الشروط التي تشترط على العامل في القراض، والإجارة، والمغارسة، والمساقاة، والمزارعة، وقد أمكن أن تُستخرج قاعدة شرعية لهذه المسائل الممنوعة وهي: منع أن يفترض الغني احتياج الفقير إليه فيعنته لأجل ذلك.
وذرائع فساد حرية القول تكون فيما تقدم، وتكون في حرية العلم بأن تحمل العلماء على تحريف الحقائق لأجل المحمدة الكاذبة، أو لأجل الحصول على مال قليل، وقد نعى الله ذلك على علماء بني إسرائيل فقال: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، وقال تعالى: فلا تخشو الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً.
وكان ذلك كله في إرضائهم عامتهم، وحملهم الشريعة على ما يوافق هوى العامة كما أوضحته الآثار وأئمة التفسير.
وتكون أيضاً في حرية القضاء؛ فلذلك حرم الإسلام الرشوة وأوجب إجراء أرزاق الحكام وكفايتهم من بيت مال المسلمين بحسب الزمان والمكان. قال ابن العربي في تفسير قول الله تعالى: قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يُؤتَ سعة من المال: ليس من شرط الخليفة ولا القاضي أن يكون غنياً ولكنه في حكم الإسلام لا يكون إلاّ غنياً؛ لأنه يأخذ ما يكفيه من بيت المال فغِناه فيه.
تحصيل
إذا تبيّنتَ ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تبيُّن الحكَم البَصِير، علمتَ أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في شريعة جامعة بين أنواع المصالح، بحيث قد بلغ بها حداً لو اجتازته لجرّ اجتيازها إياه إلى اختلال نظام المدنية بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلالاً قوياً أو قليلاً، وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها وامتشاق السيوف لتمزيق إهابها.
ومن القواعد المقررة في الحكمة: أن لاعبرة بوجودٍ يفضي إثباته إلى نفيه. ومن القواعد في أصول التشريع الإسلامي أن المناسبة التشريعية لاتُعتبر مناسبة إلا إذا كانت غير عائدة على أصلها بالإبطال، وأنها تنخرم إذا لزمتها مفسدة راجحة أو مساوية.
وبقولٍ جامعٍ أقول: إن ما يتجاوز الحدود التي حدد الشرع بها امتداد الحرية في الإسلام لا يخلو عن أن يكون سبب فوضى وخلع للوزاعة بين الأمة، أو موجب وهَن و وقوع في أشراك غفلة ومهاوي خطل سياسي، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تحليل وتطويل لا يُعوز صاحب الرأي الأصيل.
المساواة
نقفّي القول في الحرية ببيان المساواة: المساواة مصدر ساواه إذا كان سواءاً له: أي مماثلاً، فالسَّواء المِثل. ولا يُتصور تمام المساواة بين شيئين أو أشياء في البشر؛ لأن أصل الخلقة جاء على تفاوت في الصفات المقصودة ذاتيةً ونفسية، وذلك التفاوت يؤثر تمايُزاً متقارباً أو وذلك يقتضي تفاوت معاملة الناس بعضهم لبعض في الاعتبار والجزاء. فلو دعت شريعة إلى دحض هذه الفروق والمميزات لدعَت إلى ما لايُستطاع، (وتأبى الطباع على الناقلِ)، فضلاً على ما في ذلك من حمل الناس على إهمال المواهب السامية، وذلك فساد قبيح، والله لا يحب الفساد.
ويكون الاقتراب إلى الفساد يفيد الاقتراب إلى الإفراط في إلغاء المميزات الصالحة، ولا تستقيم شريعة ولا قانون لو جاء بهذا الإلغاء، فإن الذين تطرفوا في اعتبار المساواة لا يسيرون طويلاً حتى تجبههم سدود لايستطيعون اقتحامها، كالشيوعيين فقد وقفوا في حدود عجزوا عن تحقيق مبدأ المساواة فيها، كمساواة أبكم لفصيح و معتوهٍ لذكي. ومن هذا يتّضح القياس وتظهر المساواة الحقة بين الناس، قال تعالى: وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور الآية. وقال الله تعالى: إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
إذن فالمساواة تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع؛ فالشريعة التي تبني المساواة على اعتبار الشروط والقيود شريعة مساواتها ضعيفة. والشريعة التي تبني مساواتها على اعتبار انتفاء الموانع شريعة مساواتها واسعة صالحة، ويظهر أن الدعوة الإسلامية بنت قاعدة المساواة على انتفاء الموانع وشتّان بين قوة تأثير الشرط وتأثير المانع، والشريعة التي لا تقيّد المساواة بشيء شريعة مضلِّلة. فإذا عددنا المساواة في أصول شريعة الإسلام فإنما نعني بها المماثلة بين الناس في مقادير معلومة، وحقوق مضبوطة من نظام الأمة سواء كان الضبط بكليات ومستثنيات منها، أم كان بتعداد مواقع المساواة.
المساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية:
الأول: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات، وهي المعبَّر عنها بالعدل، وهو خصلة جليلة جاءت به جميع الشرائع وبيّنت تفاصيله بما يناسب أحوال أتباعها. وشريعة الإسلام أوسع الشرائع في اعتبار هذه المساواة، ففي خطبة حجة الوداع: «وأنّ ربا الجاهلية موضوع؛ وأن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وأن دماء الجاهلية موضوعة؛ وأن أول دمٍ أبدأ به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب». وفي «الصحيح» أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، بالقصاص فجاء أنس بن النضر أخو الربيع، وكان من خاصّة الصحابة من الأنصار فقال: يا رسول الله، والله لا تُكسر ثنية الربيع، فقال رسول الله: «كتاب الله القصاص». ثم إن أهل الجارية رضوا بالأرش. وقصة الفزاري الذي لطمه جبلة بن الأيهم معروفة .
الثانية: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة، بحيث تجري أحكامها على وتيرة واحدة ولو فيما ليس فيه حق للغير مثل إقامة الحدود، وقد سرقتْ امرأة من بني محزوم من قريش حُليّاً فأمر رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، بإقامة الحدّ عليها وقالوا: من يشفع لها عند رسول الله؟ فقال قائل: ومن يجترئ عليه غير أسامة بن زيد؟ فكلموا أسامة، فكلم أسامةُ رسول الله في شأنها؛ فغضب رسول الله وقال: «أتشفع في حدّ من حدود الله؟! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها». أشار كلام رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، إلى ما كان في الأمم السالفة من التفاضل في إقامة الشريعة، وقد كان ذلك في بني إسرائيل كما ثبت في بعض طُرق هذا الحديث في الصحاح. وثبت أن الرومان كانت عقوبات الجنايات المتماثلة تختلف عندهم على حسب اختلاف حالات المجرمين و وسائلهم.
الثالثة: المساواة الأهلية أي في الصلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك، وهذه قد تكون بين جميع من هم داخلون تحت سلطة الإسلام، وتكون بين المسلمين خاصة، وتكون بين أصناف المسلمين من الرجال أو من الأحرار أو من النساء.
والأصل في هذه الأهلية في الإسلام هو المساواة بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم؛ لقوله ،صلى الله عليه وسلم، في أهل الذمة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، ثم المساواة بين المسلمين في أحكام كثيرة بحكم قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فقد جمع حكم الأُخوة باطّراد المساواة فدخل الرجال والنساء والأحرار والعبيد، إلا فيما دلت الأدلة على تخصيصه بصنف دون آخر تخصيصاً اقتضاه حال الفطرة أو مصلحة عامة، وفي الحديث: «الناس كأسنان المشط» فلم يقصر المساواة على جنس أو قبيلة، ولم يقدم عربياً على عجمي، ولا أبيض على أسود، ولا صريحاً على مولى، ولا لصيقاً ولا معروف النسب على مجهوله، وفي خطبة حجة الوداع: «أيها الناس، أن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى».
قد كان تمايز الأجناس أو القبائل في القوانين والشرائع السالفة أصلاً في الأحكام؛ ففي التوراة سفر لخصائص اللاويين، وعند الرومان والفرس وبني إسرائيل لم يكن للدخيل في الأمة مثل ما للأصيل، وعند العرب لم يكن للصريح ما للّصيق بله الغريب عن القبيلة، والإسلام أبطل ذلك؛ أمَّر النبي ،صلى الله عليه وسلم، زيد بن حارثة وهو من موالي قريش، وأمَّر ابنه أسامة بن زيد على جيش فتكلم في المرتين بعض العرب، فخطب رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن تطعنوا في إمارته - يعني أسامة - فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان - زيد - لخليقاً بالإمارة، وإن هذا - أسامة - لمن أحبّ الناس إليّ». فنبّه بقوله: «إن كان لخليقاً بالإمارة» على أن الاعتبار بالكفاءة. ونبّه بقوله: «لمن أحبّ الناس إليّ» على أنه إنما اكتسب محبة الرسول ،صلى الله عليه وسلم، لفضله وكفاءته؛ إذ بذلك تُكتسب محبة الرسول ،صلى الله عليه وسلم،.
كذلك لم يختص الإسلام بالمساواة طبقة، وقد كان نظام الطبقات فاشياً بين الأمم؛ فكانت الفرس والروم يعدّون الناس أربع طبقات: أشرافاً، وأوساطاً، وسفلة، وعبيداً. وكان العرب يعدون الناس طبقات ثلاثاً: سادة، وسوقة، وعبيداً. فكان الفُرس يخصون كل طبقة بخصائص لا تبلغ إليها الطبقة التي دونها.
سأل رستمُ قائد جيوش الفرس في حرب القادسية زُهرةَ بن حَويّة عن الإسلام فكان من جملة ما قاله زُهرة لرستم: إن الناس بنو آدم إخوة لأب وأم. فقال رستم: إنه منذ وَلِي أردشير لم يدَع أهل فارس أحداً من السفلة يخرج من عمله، و رأوا أن الذي يخرج من عمله تعدّى طوره وعادى أشرافه. قال زهرة: نحن خير الناس للناس فلا نستطيع أن نكون كما تقول، بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا. وكان العرب يفرقون في الدية بين السادة والسوقة، وفي الاقتصاص في الدماء ويسمون ذلك بالتكايل؛ فيقدر دم السيد أضعاف دم السوقة، فجاء الإسلام بإبطال ذلك؛ ففي الحديث: «المسلمون تتكافأ دماؤهم». ولم يعتبر الإسلام للطبقات أحكاماً في الأهلية للكمال إلاّ في جعل الناس قسمين: أهل الحل والعقد، والرعية. فأهل الحل والعقد هم ولاة الأمور وأهل العلم ورؤساء الأجناد، فهؤلاء طبقة إسلامية جُعل إليها النظر في إجراء مصالح الأمة، ومن خصائصها: انتخاب الخليفة، كما فعل عبدالرحمن بن عوف في تعيين الستة بعد عمر ،رضي الله عنه،.
وأما المخالفون في الدين من أتباع حكومة الإسلام فقد منحهم الإسلام مساواة في معظم الحقوق عدا ما روعي لهم فيه احترام شرائعهم فيما بينهم، وعدا بعض الأحكام الراجعة إلى موانع المساواة. وقد اختلف علماء الإسلام في القصاص بين المسلم والذِّمِّي، وجوّز العلماء ولاية الذمي ولايات كالكتابة ونحوها.
وقد كان في الأمم الماضية يُعد الاختلاف بين الحكومات ورعاياها في الدين حائلاً دون نيل الحقوق وموجباً للاضطهاد. وقد قصّ التاريخ علينا عدة اضطهادات من هذا القبيل كاضطهاد الآشوريين والرومان لليهود، واضطهاد التبابعة للنصارى في نجران وهم أصحاب الأخدود، وتاريخ الإسلام مبرّأ من ذلك.
موانع المساواة
موانع المساواة في الإسلام كما أشرت إليه في أول مبحثها تكون جِبلِّية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية:
فالموانع الجِبلّية كموانع مساواة المرأة للرجل فيما لاتستطيع أن تساويه فيه بخلقتها؛ مثل قيادة الجيش والقضاء عند جمهور المسلمين؛ لاحتياج هذه الخطط إلى رباطة الجأش، وكمنع مساواة الرجل للمرأة في كفالة الأبناء الصغار وفي استحقاق النفقة.
والموانع الشرعية هي المعلولة لعِلل أوجبتها، وهي مبيّنة في مواضعها من كتب الشريعة، مثلاً عدم المساواة في إباحة تعدّد الأزواج للمرأة، وفي مقدار الميراث، وفي عدد الشهادة، ومثل عدم مساواة العبد للحر في قبول الشهادة، وكذلك أهل الذمة عند منع قبول شهادتهم ومن منع القصاص لهم من المسلمين بالقتل.
والموانع الاجتماعية تتعلق غالباً بالأخلاق وبانتظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه؛ كعدم مساواة الجاهل للعالم في الولايات المشروطة بالعلم كالقضاء والفتوى، وعدم مساواة العطاء بين أهل ديوان الجند فقد أعطاهم عمر على حسب السابقية في الإسلام وحفظ القرآن.
والموانع السياسية هي التي ترجع إلى حفظ حكومة الإسلام، وسدّ منافذ الوهن أن يصل إليها، كمنع مساواة أهل الذمة للمسلمين في الأهلية للولايات التي يمنع منها التدين بغير الإسلام، ومنع مساواتهم للمسلمين في تزوج المسلمات، ومنع مساواة غير القرشي القرشي في الخلافة للوجه الذي نبّه إليه أبوبكر ،رضي الله عنه، يوم السقيفة إذ قال: «إن العرب لا تدين لغير هذا الحي من قريش». قال إمام الحرمين في «الإرشاد»: «ومن شرائطها - أي الخلافة - عند أصحابنا أن يكون الإمام من قريش، وهذا مما يخالف فيه بعض الناس وللاحتمال فيه مجال».
المقام الثاني
أثر الدعوة في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام
أهابت دعوة الإسلام بالأمم وقد كانوا غافلين مستسلمين، ففتحت أعينهم إلى ما في معاملة سادتهم وكبرائهم إياهم من الاعتداء والغضّ، فأخذ أولئك يقتربون إلى تقويم أود جبابرتهم والطموح إلى إصلاح أحوالهم، وأخذ هؤلاء ينزلون عن صياصي الجبروت ويخفضون من غلوائهم، فحدثت بذلك يقظة فكرية في العالم.
اخترقت دعوة الإسلام أفكار الحضارة العالمية بطرق شتى: منها تناقل الأخبار، ومنها الجوار، ومنها الدعوة بالكتب النبوية إلى ملوك الأمم المشهورة مثل الفرس والروم، والحَبَش والقبط، وملوك أطراف بلاد العرب في العراق والشام والبحرين وحضرموت، ومنها هجرة المسلمين الأولين إلى بلاد الحَبَشة، ومنها الفتوح الإسلامية في بلاد الفُرس، والروم، والجلالقة (إسبانيا)، والإفرنج، والصقالبة، والبربر، والهند، والصين.
قد كانت سيادة العالم حين ظهور الدعوة المحمدية منحصرة في مملكتين: الفرس والروم؛ فأما المملكة الفارسية فقد أوهنتها الحروب المادية بين الفرس والروم في زمن سابور الثاني وأبناء قسطنطين الروماني، وأعقبت تلك الحروب تنازعاً مستمراً بين قوّاد الجيوش الفارسية إلى أن صار الملك إلى أبرويز بن بهرام الذي أخذ يجدد ملك الدولة الفارسية، وهو الذي كان ملكه في وقت البعثة، وكتَبَ إليه رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، كتابه المشهور مع عبدالله بن حذافة السهمي. وأما المملكة الرومانيّة فقد بلغت من الاختلال في الشرق والغرب أوائل القرن السادس مبلغاً أشرف بها على الفوضى بتنازع قوّاد الجيوش السلطة، ولم تأخذ في تدارك صلاح أحوالها إلاّ في زمن هِرَقل (هيراكليوس)، وقد كان ملكه في عصر البعثة، وهو الذي جرى بينه وبين أبي سفيان المحاورة في شأن الإسلام كما تقدم، وهو الذي كتَبَ إليه رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، كتابه المشهور مع دحية الكلبي.
فكان لشيوع دعوته ،صلى الله عليه وسلم، في بلاد العالم أثران:
الأول: أنها سهلت لكثير من الأمم الدخول في دين الإسلام أو في حكمه، بما شاهدوا من آثار محامد سياسته لرعاياه مع عدم التشويش على أهل الأديان في عقائدهم، فتمكنوا بذلك خير تمكن من مخالطة المسلمين في معظم شؤون الحياة مخالطةً خولت لهم مزيد الاطلاع على محاسن الإسلام وتربية أهله، وربما كان ذلك هو السبب في إسلام كثير من المتدينين مثل نصارى نجران وتغلب وقضاعة وغسان، ومثل يهود اليمن، ومثل مجوس الفرس والبربر، ومثل نصارى القبط والجلالقة والبربر، ومن لم يدخل منهم في دين الإسلام سهل عليه الدخول في ذمته.
الأثر الثاني: كان من تناقل تلك الحوادث ومن تمازج الفرق من الأمة الواحدة، أو من تمازج الأمم سمعة حسنة للإسلام ومعاملته؛ فكان لتلك السمعة أثر جليل في بقية الممالك التي بقيت خارجة عن حكم الإسلام.
ومن أمثلة ذلك ما تقدم من كلام زُهرة بن حَويّة، وما جرى بين يدي النجاشي من كلامٍ أفصح به جعفر بن أبي طالب عن حقيقة الإسلام، ومن جملة ما قاله: «إنا كنا قبل الإسلام يأكل القوي الضعيف»، ومعناه فقد الحرية والمساواة، فصمّم النجاشي على حماية المهاجرين من المسلمين وردّ سفراء مشركي قريش الذين جاؤوا طالبين تسليمهم إليهم. فاقتبست الأمم من أسلوب الإسلام أساليب جديدة في سياسة ممالكهم أفضت إلى تخفيف وطأة الاستبداد، وإلى حصول خير كثير للبشر، وشكلاً جديداً للمدنية كانت عاقبته ما نشاهده اليوم من رُقي إلى معارج سامية؛ فإن للفضائل عدوى سريعة كما قال أبو تمام:
ولو لم يزَعني عنك غيرك وازع لأعديتني بالحلم إنّ العلا تُعدي
وحقت كلمة ربّك: وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين اه.
الهوامش:
(1) فإنه إذا قيّد جمال سيّده يرى أنه قد أتم واجبه كله.
(2) الصّرّ: شدّ ضرع الناقة عند الحلب.
(3) بنو الحسحاس حي من بني أسد.
(4) جمع مِرباع؛ وهو ربع الغنيمة كان يأخذه سيد القبيلة حين يغِير بها.
(5) اختلف العلماء في المقصود من هذه الآية اختلافاً جرّ إلى اختلاف في أحكامها ونسخها، والصحيح أنها محكمة، وأن المقصود منها أن لا يُجبَر غير المسلمين على التدين بالإسلام، ولم يُستثن من ذلك إلاّ مشركو قريش عند مالك، أو مشركو جميع العرب عند أبي حنيفة والشافعي.
(6) لأن تكلم الإنسان فيما لم يتعاطَ علمه، أو في الأمور التي يدق وجه الصواب فيها ليس من الحرية، بل ذلك يُعد من التكلم فيما لا يعني، وقد قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
(7) نعور - بالعين المهملة - أي نفسدها ونسدمها. شبه القُلُب بعيون الناس فجعل إفسادها كالعَوَر، يقال: عَوَر العين وعارها. والقُلُب: جمع قليب وهي البئر القريبة الماء.
(8) هو الشاعر الأسود المسمى حية النوبي صاحب القصيدة التي مطلعها:
عُميرة ودِّع إن تجهزتَ غاديا
وهذا وإن كان قد وقع في حدود الإسلام في خلافة عمر أو عثمان إلاّ أن حال البادية دام مدةً في صدر الإسلام قريباً من حالهم في الجاهلية، قال تعالى في الأعراب: وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
(9) جبلة بن الأيهم ملك غسان بدمشق، أسلم بعد فتح الشام وسكن المدينة، وحج مع عمر بن الخطاب فبينما هو يطوف إذ وطئ رجلٌ من فزارة إزرار جبلة، فانحل إزاره فلطمه جبلة فهشّم أنفه وكسر ثناياه، فاستعدى الفزاري عمر بن الخطاب على جبلة فقال عمر لجبلة: إما أن يعفو عنك الفزاري وإما أن يقتصّ منك؟ فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقه؟! قال عمر: شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية والتقوى. قال جبلة: ماكنت أظن إلا أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك هذا. فلما رأى جبلة الجدّ من عمر قال له: أنظر في أمري الليلة. فرحل جبلة بخيله ورواحله ليلاً ولحق بالشام ثم بالقسطنطينية فتنصر وبقي عند قيصر.
(10) زُهرة بن حَويّة - بضم الزاي من الاسم الأول وبفتح الحاء وكسر الواو وتشديد الياء من الاسم الثاني - تميمي صحابي، أسلم في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتُوفي سنة 77.
(11) كانوا في صدر الإسلام يعُدون أهل العلم كبار الصحابة المهاجرين والأنصار، وكان القرّاء أهل شورى عمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.