بين قانا 1996 وقانا 2006 ، طريق محفورة بلحم أجساد أطفال لبنان، المبعثرة لعبهم وكراساتهم وضحكاتهم وأحلامهم البريئة، وأناشيدهم الطفولية ليرتسم بين هذه السنوات العشر جسرا من اللحم البشري، ليبقى عنوان هدية "الشرق الأوسط الجديد"... هذه الأجساد الغضة البريئة لأطفال تحت الركام، لأشلاء أناس عزل يحلمون بسماء لا تمطر صواريخ الرعب والتمزيق، تلك هي ومضة من مأساة قانا البشعة، التي دخلت على خط الهاتف وأنا أكاد أنهي حواري مع الكاتب اللبناني الأستاذ "جوزيف غطاس كرم" المقيم بالجنوب اللبناني، ليكون هذا الحوار محاولة منا للاستكشاف بعض الأوضاع من أفواه أهل الأرض... إن لبنان منذ سنوات، أثبت للناس وللعالم، أنه رغم كل ما تعرض له من حروب أهلية، واجتياح إسرائيلي تدميري، قادر على الحياة والتجدّد والانبعاث والنهوض من رحم ركام البنايات المهدّمة، والجسور المحطمة، وأجساد الأطفال المبعثرة، وزفرات النازحين المشتعلة، فعملية التدمير والتحطيم والتهديم، تبرهن بوضوح أن حجة استرجاع الجنديين الإسرائيليين المختطفين من طرف حزب الله ليست إلا ستارا يغطي حقيقة مخطط أعدّ له مسبقا، فالمعركة مع حزب الله ليست سوى محطة من محطات العدوان المستمر ضد لبنان وضد العرب، فالقصف الجوي الوحشي ضرب أماكن بعيدة عن مواقع حزب الله، واستهدف الجسور ومعامل حليب الأطفال والهوائيات الإذاعية والخلوية، والدراجات النارية والسيارات المدنية وحافلات الركاب ولم يستثن القصف الكنائس التي صارت ملجأ للهاربين من جحيم القصف، كما وقع مع كنيسة " راشيا " التي هدمت فوق الهاربين مما يدلل بوضوح، أن الحرب ليست موجهه إلى حزب الله فحسب بل لطحن النموذج اللبناني.. لقد أظهر اللبنانيون بمعظم فئاتهم وتنوعهم السياسي والعقائدي، تعاطفا عظيما مع المقاومة وفتحوا بيوتهم وقراهم وكنائسهم ومساجدهم ومدارسهم لاستقبال النازحين، والشد على يد المقاومة وعلى رأسهم حزب الله. ولاحظ أن كل الحروب التي خاضتها إسرائيل تختار وقت الصيف، وتحديدا في العطل الصيفية حيث يكون العالم منشغلا بالبحر والاستجمام، أو مباريات كأس العالم مثلما وقع سنة 1982 عند الاجتياح، حين كان العالم منشغلا بكأس العالم بإسبانيا، وهذه السنة تختار أيضا فصل الصيف وتبدأ العدوان في غمرة الاهتمام بمباريات العالم التي أقيمت بألمانيا... حزب الله ليس وحده في المعركة، هناك عدة أحزاب سياسية سبق وأن مارست النضال المسلح، وقفت في مواجهة العدوان الإسرائيلي إلى جانب حزب الله بالإضافة إلى هيئات وقوى وهيئات رسمية تدعم بقوة المقاومة، وتحمي حزب الله من يهود الداخل "العملاء" الذين سبقوا وتعاملوا مع الجيش الإسرائيلي، فالشعب اللبناني ابتداء بالمواطن الذي قصف بيته واستشهد أطفاله مرورا بالمدنيين الذي قصفوا وهم يرفعون رايات بيض فوق دراجتهم أو الشاحنات التي تحمل حليب الأطفال، هم انخرطوا في المعركة لأنهم لم يستسلموا، وقدموا أرواحهم وبيوتهم وعائلاتهم، فداء للبنان وطن التعايش السلمي والمدني والحضاري بين جميع الأطياف. هذه الأنظمة أساسا هي عاجزة عن المواجهة، والبعض الآخر متواطئا، أما الشعوب العربية فقد أظهرت تعاطفا وتضامنا ككل مرة مع الشعب اللبناني والفلسطيني في مواجهة الغطرسة، ولكنها لا تملك سلطة القرار. هذه الكتابات والأصوات شاذة، وتخدم مصلحة العدو، وهؤلاء المتخاذلين هم نفايات التاريخ، وهم موجودون في كل عصر وكل مصر، ولن يؤثروا في حركة التاريخ الذي يعترف بالشرفاء ويسجل ملاحم الشعوب والأفراد.. لا شك أن المعركة غير متكافئة من حيث العدد والعدة والدعم، غير أن الروح القتالية والمعنوية أيضا غير متكافئة، حيث تتغذى هذه الروح عند المقاومين بعدالة القضية والإيمان بالكرامة والعزة والوطنية وعشق الشهادة، في حين الطرف المقابل يؤدي وظيفة عدوانية نوعا من السادية والقنص. هناك فئة مهمة جدا من قوة الرابع من آذار، تقف إلى جانب المقاومة بكل ثقلها السياسي والإعلامي واللوجستي، كما أن هذه القوة لم تعد موجودة كتكتل بل صارت أطرافا سياسية مستقلة. الجيش اللبناني لم نره يدخل المعركة فماذا ينتظر؟ يا سيدي الجيش اللبناني هو جيش وطني لا يمكن الطعن في مصداقيته، وهو أيضا استهدف في راداراته وعدة مواقع بحرية ومواقع لوجيسته من طرف العدوان، وهو الذي ألقى القبض على مجموعة تجسسية، تقوم بجمع معلومات عن مواقع عسكرية، لمحاولة تسريبها لإسرائيل، وضبط معهم أجهزة اتصال متطورة جدا، كما لا ننسى أن هذا الجيش أذاق المر لإسرائيل في بعض المعارك البرية، نذكر منها مثلا واقعة "الأنصارية" كما لا يمكن أن ننسى تصريح وزير الدفاع، الذي قال أننا ننتظر المعركة البرية على أحر من الجمر. استهدفت الكنائس وتعرضت للقصف كما المساجد، هل يعني هذا أن المستهدف هو لبنان بقطع النظر عن الانتماء العقائدي؟ هي حرب شاملة لإبادة شعب، لإبادة الشجر والحجر والزرع والمواشي وكل مقومات الحياة، فلا فرق عندهم بين كنسية ومسجد، ولا بين عسكري ومدني، ولا بين طفل ومقاتل، ولا بين مقعد وشيخ، فالتدمير والعدوان والتقتيل نابع من عقيدتهم التملوذية.. إلى أي مدى يمكن أن يصمد لبنان، في ظل هذا القصف المتواصل والتهديم وفي ظل تفرج العالم؟ التجارب اللبنانية السابقة في الصمود والمقاومة، تدل على قدرة لبنان في الصمود الطويل وعدم الركوع، وهو يعطي نموذجا للعالم أن لا يمكن أن نستسلم، وأن لبنان بأشجاره، بأحراشه ببقاعة، ببناياته بشعبه التواق للحرية، بأطفاله بجسوره، بممراته هو عنوان الشراكة في المقاومة والصمود، فتفرج العالم المتحضر على هذه المجازر، هي وصمة على جبينه، ودليلا آخر على التواطؤ في ذبح الأبرياء، والمشاركة في تحطيم الروح المقاومة، التي سيزيدها هذا الظلم السياسي الدولي المكشوف صلابة ومتانة وتجذر.. ما هي التأثيرات الاستراتيجية لهذه الحرب على المستوى الإقليمي والدولي؟ إسرائيل ولأنها أسست وجودها على اغتصاب أراضي الآخرين، تسعى إلى تحقيق انتصار عسكري، بهدف القضاء حسب اجندتها على معاقل المواجهة والتمرد، والاستفراد بملء شروطها ومن ثم تركيع ما بقي في المنطقة من رفض وصمود، حتى تصبح هي المحدد للسياسات الداخلية والإقليمية، وإسرائيل في كل حروبها تحاول أن تحقق لا فقط نصرا عسكريا، بل اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا غير أنها الآن فوجئت أن حساباتها لم تكن دقيقة، أمام تصميم الشعب اللبناني الذي يقاوم ولا يساوم ويصبر ولا يتنازل، وبالتالي فالأكيد أن هذه الحرب الظالمة مثل غيرها وصمود المقاومة مقاتلين وشعبا، سوف يغير المعادلات السابقة، بما فيها رج المتخاذلين والمستسلمين، ودعاة حلول الفتات، والأقلام المدافعة زورا عن النهج الأمريكي، الذي بات تورطه مكشوفا كما سوف يفك الخناق عن معاناة اخوتنا الفلسطينيين ... في رأيك هل صواريخ حزب الله حققت انتصارا عسكريا ومعنويا، وهل أربكت إسرائيل؟ أولا هذه الصواريخ خرقت الشبكات الدفاعية للجيش الإسرائيلي (الأسطوري)، كما أن هذه الصواريخ اخترقت التكنولوجيا الغربية المتطورة، والأقمار الصناعية وآلات المراقبة التجسسية، وغيرها من التكنولوجيا الحديثة، كما أن المقاومة اللبنانية حققت انتصار الإرادة والصمود ضد الوحشية الإسرائيلية... ونحن نجري معك هذه المقابلة عبر الهاتف، تفاجئنا أخبار مذبحة قانا هذه المجزرة البشعة فما هو تعليقك الأوّلي؟ أقول أيها العالم الحر بين ظفرين، ماذا بقي لك من قول بعد هذه الصور الدرامية المرعبة، ومن هم الإرهابيون الحقيقيون؟ أيها العالم الحر أين تلك الشعارات ومبادئ حقوق الإنسان وأطفال قانا يستقبلون عناقيد الغضب وأمطار الحقد، ومدافع الموت؟ أيها العالم هاهم أطفالنا نحن العرب عرضة لهدايا الطائرات المغيرة على أجساد الأطفال الصغار، والعجّز والمدنيين الأبرياء، فمن هم الإرهابيون الحقيقيون؟؟؟...