حقق الشعب التونسي معجزة عظيمة طالما حلم بها المناضلون من أجل الحرية في تونس وفي الكثير من المجتمعات العربية والعالمية، ونجح بشجاعته وعزيمته وتضحياته الجسيمة في إسقاط نظام الخوف والقمع والإقصاء، نظام كان يُظن على نطاق واسع، في تونس وخارجها، أنه غير قابل للسقوط. لقد جسد الشعب أسمى معاني الكرامة التي فطرها الله سبحانه وتعالى في خلقه، ودشن عصرا جديدا في تاريخ تونس وفي تاريخ العالم بأسره، عصر الشعوب الحرة التي تأبى الظلم والإحتقار، والتي يكون زعماؤها خداما لها لا سادة متجبرين متسلطين عليها. أشعر بالفخر الشديد لأنني أنتمي لهذا الشعب العظيم الذي فجر إحدى أعظم الثورات في التاريخ الإنساني، وأرفع أسمى وأصدق آيات العرفان والإمتنان لأبطالها الأشاوس. كما أتعهد بأن أبذل كل ما وسعي، مثل غيري من بني وطني، لتحقق هذه الثورة نتائجها المأمولة، وفي مقدمتها تصفية أسس نظام الإستبداد والقهر والخوف، حتى لا يعود الإستبداد من جديد بأي صورة من الصور، أو تحت أي ذريعة من الذرائع. لقد تعرضت للإضطهاد والسجن والمحاكمات منذ عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وبقيت أعيش في المنفى منذ 1986. وقد حاولت طيلة العقود الماضية أن أسهم في كشف الظلم والإستبداد وإقناع السلطة بقبول نهج الحوار والوفاق والمصالحة الوطنية الشاملة التي لا تستثني أحدا. كتبت دفاعا عن هذه المبادئ، وجعلتها شعارا لبرنامج من أشهر برامج قناة المستقلة عامي 2001 و2001، برنامج "المغرب الكبير"، وحاورت من أجلها. وقد رفعت في برنامج "المغرب الكبير" شعار "لا خوف بعد اليوم" منذ ربيع 2001، وتحملت مثل الكثير من التونسيين، وتحمل أهلي، وجميع من يحمل لقبي العائلي تقريبا، ردة فعل سلطة منغلقة تكره الكلمة الحرة وتتصدى لها بكل الوسائل غير المشروعة، وماتت أمي رحمها الله وأنا في المنفى، ولم أستطع أن أزور قبرها إلى اليوم. ودافعت عن هذه المبادئ بالخطاب الصريح المباشر أمام الناس، وبالمقالات والنصائح المباشرة إلى السلطة، وأيضا بالخطاب غير المباشر من خلال آلاف البرامج التلفزيونية التي خصصتها للترويج لمبادئ الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. باختصار: حين واجهت السجون والمنافي، وحين واجهت بكلمة الحق، وحين حاورت وناصحت بكلمة الحق، كان هدفي دائما أن تكون تونس وطنا حرا لمواطنيها الأحرار، تحفظ فيها حقوق المواطنة لكل بناتها وأبنائها دون إقصاء أو استثناء، وكان على رأس مطالبي دوما إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإعطاء جوازات السفر والحقوق السياسية لأصحابها، وإصدار العفو التشريعي العام الذي لا يستثني أحدا. وإذ أترحم اليوم على أرواح شهداء ثورتنا المجيدة، وأدعو لجرحاها بالشفاء العاجل، فإنني أتعهد مجددا ببذل كل ما في وسعي للدفاع عن الثورة، وأدعو كل التونسيين إلى التعاون من أجل تجسيد أهدافها العظيمة، وفي مقدمتها إقامة نظام سياسي ديمقراطي حقيقي، غير مزيف، يحترم إرادة الشعب، ويضمن حرياته الفردية والجماعية دون إقصاء أو استثناء أو تمييز. وفي هذا السياق أحيي الموقف الوطني الرائع لقيادة الجيش التونسي وانحيازها للشعب والثورة، كما أحيي قادة ومناضلي الأحزاب والتيارات السياسية الفكرية من كل الإتجاهات التي انحازت للثورة وأهدافها، الوطنية واليسارية والإسلامية والقومية والليبرالية، وأحيي النقابات وهيئات المجتمع المدني، وأناشد الجميع أن يحلوا خلافاتهم وتباين وجهات نظرهم في هذه المرحلة الحساسة بالتشاور والحوار وإحسان الظن فيما بينهم. وأضيف في ختام هذه المقالة التي كتبتها بصفتي الشخصية فقط، كمواطن تونسي، أنني سأبذل كل ما في وسعي للمشاركة بأفكار واقتراحات ورؤى تسهم في بناء عصر جديد في تونس قائم على العدالة والديمقراطية واحترام الهوية العربية والإسلامية للبلاد، عصر يشارك في بنائه بنات تونس وأبناؤها بكل تياراتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية دون إقصاء أو استثناء، وتتوزع ثرواته وخيراته على كل جهاته دون اقصاء أو استثناء، وتصان فيه مبادئ حقوق الإنسان والحريات السياسية لكل مواطنيه دون إقصاء أو استثناء، وربما أسست في المستقبل مع بعض الأصدقاء منبرا للعدالة والديمقراطية يسهم في بلورة هذه الرؤى وعرضها على الرأي العام التونسي. والله سبحانه ولي التوفيق. لندن: 24 جانفي/يناير 2011