شراكات لمناهضة تهريب المهاجرين    سعيّد يقلّد صاحب جائزة نوبل للكيمياء الصنف الأوّل من وسام الجمهورية.. تكريم رئاسي للبحث العلمي والكفاءات    عمّار يتلقّى دعوة لزيارة الدوحة    صفاقس: إنهاء تكليف كاتب عام بلدية العين    نحو توريد كميات من اللحوم المبرّدة    تطاوين.. ارتفاع عدد الاضاحي مقابل ارتفاع في اسعارها    جندوبة: السيطرة على حريق أتى على 3 هكتارات من حقول القمح    مصر.. مصرع 9 وإصابة 9 آخرين في حادثة سقوط حافلة بنهر النيل    المحمدية: الكشف عن مستودع معد لإخفاء السيارات والاحتفاظ بنفرين    صفاقس : نقص كبير في أدوية العلاج الكيميائي فمن يرفع المُعاناة عن مرضى السرطان؟    دربي العاصمة يوم الأحد 2 جوان    تقليد السيّد منجي الباوندي المتحصّل على جائزة نوبل للكيمياء لسنة 2023.    صفاقس : كشك الموسيقى تحفة فنية في حاجة الى محيط جميل    عاجل/ محكومون بالسجن بين 6 و16 سنة: ضبط 3 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم    التضامن: حجز 100 صفيحة من مخدر القنب الهندي    عاجل/ البرلمان يصادق على قرض جديد بقيمة 300 مليون دولار    سيدي بوزيد: جداريات تزين مدرسة الزهور بالمزونة (صور)    التوقعات الجوية لهذه الليلة    يُخفي بضاعة مهربة داخل أكياس نفايات !!    20 مسماراً وأسلاك معدنية في بطن مريض    سيدي بوزيد: برمجة ثرية في الدورة 21 لملتقى عامر بوترعة للشعر العربي الحديث    سعاد الشهيبي تستعد لإصدار "امرأة الألوان"    في مهرجان "كان": كيت بلانشيت تتضامن مع فلسطين بطريقة فريدة    توزر: تمكين المدرسة الابتدائية طريق المطار من تجهيزات رقمية    رئيس منظمة ارشاد المستهلك يدعو إلى التدخل السريع في تسعير اللحوم الحمراء    البريد التونسي ونظيره الموريتاني يُوقّعان اتفاقية تعاون    بسبب مذكرة الاعتقال ضدّ نتنياهو: المدعي العام للجنائية الدولية يتلقى تهديدات    البطولة الانقليزية: نجوم مانشستر سيتي يسيطرون على التشكيلة المثالية لموسم 2023-2024    متعاملون: تونس تطرح مناقصة لشراء 100 ألف طن من قمح الطحين اللين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : وليد كتيلة يهدي تونس ميدالية ذهبية ثالثة    الرابطة المحترفة الأولى (مرحلة تفادي النزول): حكام الجولة الحادية عشرة    النادي الصفاقسي: اليوم إنطلاق تربص سوسة .. إستعدادا لمواجهة الكلاسيكو    الاحتفاظ بتونسي وأجنبي يصنعان المشروبات الكحولية ويروّجانها    عاجل/ مدير بالرصد الجوي يحذر: الحرارة خلال الصيف قد تتجاوز المعدلات العادية وإمكانية نزول أمطار غزيرة..    كوبا أمريكا: ميسي يقود قائمة المدعوين لمنتخب الأرجنتين    موعد تحول وفد الترجي الرياضي الى القاهرة    الموت يفجع حمدي المدب رئيس الترجي الرياضي    إحداث خزان وتأهيل أخرين واقتناء 60 قاطرة لنقل الحبوب    وزير الفلاحة : أهمية تعزيز التعاون وتبادل الخبرات حول تداعيات تغيّر المناخ    إختفاء مرض ألزهايمر من دماغ المريض بدون دواء ماالقصة ؟    اصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب شاحنة خفيفة بمنطقة العوامرية ببرقو    بدأ مراسم تشييع الرئيس الإيراني ومرافقيه في تبريز    صلاح يُلمح إلى البقاء في ليفربول الموسم المقبل    الرئاسة السورية: تشخيص إصابة أسماء الأسد بسرطان الدم    عمرو دياب يضرب مهندس صوت في حفل زفاف.. سلوك غاضب يثير الجدل    الدورة 24 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون تحت شعار "نصرة فلسطين" و289 عملا في المسابقة    وزير الدفاع الأميركي: لا دور لواشنطن بحادثة تحطم طائرة رئيسي    سليانة: معاينة ميدانية للمحاصيل الزراعية و الأشجار المثمرة المتضرّرة جراء تساقط حجر البرد    عشرات الهزات الأرضية غير المسبوقة تثير الذعر في جنوب إيطاليا    قبلي: تخصيص 7 فرق بيطريّة لإتمام الحملة الجهوية لتلقيح قطعان الماشية    منوبة.. إيقاف شخص أوهم طالبين أجنبيين بتمكينهما من تأشيرتي سفر    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    الشاعر مبروك السياري يتحصل على الجائزة الثانية في مسابقة أدبية بالسعودية    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة التونسية بذور الأمل و مخاطر الردة
نشر في الوسط التونسية يوم 09 - 10 - 2011

من مظاهر الردة السياسية ما حصل و يحصل داخل الهياكل السياسية المُؤقتة, من أمور عجيبة و حوادث غريبة. فالحكومات المُتعاقبة لم تُفلح في كسب ثقة المُواطن التونسي في الميدان السياسي, والهيئة التي حملت مُهمة ثقيلة تتمثل في تحقيق أهداف الثورة, لم تستطع الالتزام بالحياد
*أكاديمي و باحث تونسي ,توبنغن ,ألمانيا*
إن المُتأمل للثورة التونسية العظيمة و تطوراتها في مُختلف المجالات السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية, ليَخلُص دون شك, إلى بعض الإنجازات المبشرة التي تم تحقيقها في مجالات مختلفة, بيد أن الإنصاف يُحتم على المتابع للشأن التونسي, في الآن ذاته, الإشارة إلى حاجة الثورة الأكيدة إلى من ينقذها من آثار آفة خطيرة تصيب الثورات في التاريخ, فتوشك أن تَسرق ثمراتها, و تكاد تَتخطَف إنجازاتها, وهي آفة الردة و المُرتدين. و لنا في التاريخ الإسلامي مثال حي عندما بلغت هذه المشكلة بأبي بكر الصديق, رضي الله تعالى عنه, من الحزم و الشدة مبلغًا عظيمًا, حتى أعد لها الجيوش و اختار لها قادة عُظماء, و ذلك لوعيه الشديد بخطورة هذه الظاهرة على ثورة الإسلام الحضارية اليافعة, و دولة الإسلام اليانعة. و لم يهدأ له بال حتى قضى على من ارتد عن الثورة التي بدلت الأوضاع السياسية و الاجتماعية, التي تميزت,قبل الإسلام بالاستبداد و استعباد الإنسان للإنسان.
لقد تخلصت تونس الخضراء, بفضل الله تعالى, ثم بجهود أبناءها الصادقين و دمائهم الزكية, من طاغوت متسلط متجبر, يتمثل في نظام بن علي البوليسي و عصابته, النظام الذي اختزل أصوات الناس و عد عليهم أنفاسهم, و سخر لنفسه أجهزة السياسة و القضاء و الإعلام, و توهم أنه يمتلك ,دون الله ,عقول العباد و مصائرهم. و لكن الشعب التونسي لقن فرعون تونس درسًا تاريخيا وصل مداه إلى فرعون مصر, فألحقه سيف التاريخ الصارم بأخيه, و العاقبة لفراعنة العرب جميعًا إن شاء الله. و لكن النظرة الفاحصة في مسار الثورتين التونسية و المصرية تكشف, كما أسلفنا عن تيارات تحاول الرجوع بِهما إلى الوراء, و إعادة المشهد البائس,بوجوه قديمة جديدة, و بديكور مختلف, فما هي بذور الامل و أوجه الردة التي تهدد ثورتنا التونسية و ما السبيل لمُحاصرتها و تصفيتها؟
تجدر الإشارة أولًا أن ما أقصد إليه بعبارة التصفية هنا لا يحمل, بأي حال من الأحوال, معنًى سلبيًا بل يهدف إلى ما أُسميه هنا بالمقارعة السلمية الفكرية, التي سلاحُها الأوحد الحُجة و البرهان و توعية الناس بالفكر المُعتدل و المُستنير.
كما أنني أنبه, و أنا أطرح هذا التحليل المتواضع, لإخواني القراء عامة وأبناء وطني الأعزاء التونسيين خاصة, أنني حبذت الإشارة السريعة للإيجابيات مع اعترافنا بها و ترحيبنا بدعمها, بينما ركزت أكثر على التنبيه على الأخطار, فأنا, كغيري من التونسيين, مللنا من المدح المبالغ فيه الذي لازَمنا طيلة نصف قرن, وهذا حسب رأيي مذهب المُنصفين, لا إفراط فيه و لا تفريط.
بذور الأمل و مخاطر الردة في المجال السياسي:
من الطبيعي, و قد من الله على بلادنا بمناخ سياسي حر, انطلقت فيه الحرية السياسية إلى فضاء رحب, أن تتعدد الانتماءات للأحزاب و الحركات و المنظمات و الجمعيات, و لا ضير في ذلك, لأنه في الأصل علامة صحة, استردها المشهد السياسي التونسي بعد غيبة طويلة طبعها الاستبداد و الكبت و تأليه الحزب الواحد و الرجل الواحد. و إذ يرحب العُقلاء بما وقع إنجازه من إطلاق السجناء السياسيين, و انطلاق الحوار بين الفعاليات السياسية و الاجتماعية, و حل الحزب الحاكم الفاسد و المُفسد, والعمل المشجع من أجل إنجاح الاستحقاق الانتخابي التاريخي القادم, إلا أن الخطير في الأمر, وجود مظاهر ردة عديدة. فكثير من المتسلقين و المتملقين للدكتاتور المخلوع و نظامه البوليسي قد خرجوا من الباب ليدخلوا من الشباك,و ليظهروا على الشعب التونسي بمظهر المُدافعين عن الديمقراطية, التي لا يفقهون منها سوى ما ردده فرعون ليبيا المعتوه من أنها تعني بلغتنا الدارجة :"ديما كراسي" وهو ما أُترجمُه هنا بعبادة السلطة. لقد تعددت الأحزاب و أنصافها و أرباعها بل و حتى أشباهها! لقد أصبح رهط من المسؤولين السابقين و بيادق النظام السابق, ممن قضَوْا دهرًا يُطبلون له و لحزبه الفاسد, يؤسسون أحزابًا و يدعون, زورًا و بُهتانًا, الانتماء للثورة و معرفة مصلحة الشعب,لينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه و سلم: "إذا لم تستحيِ فاصنع ما شئت". لقد أضحت هذه الأحزاب تتكاثر و تتشابه إلى حد التماثل, و الحال أن فراخ التجمع غير الدستوري غير الديمقراطي المنحل, فهؤلاء لا يستحيون من الظهور مرة أخرى أمام الناس بعد تغيير جلدتهم, و من الغريب هنا أن السلطة السياسية المُؤقتة تمنح أمثال هؤلاء تأشيرات للعمل السياسي و كثير منهم كانوا يد بن علي التي يبطش بها, ليعتلوا الآن المنابر الإعلامية يفترون الأكاذيب على أنهم وقفوا لبن علي, و جادلوه و لم يطيعوه في غَيِه السياسي!فيا للمهزلة!و الحل عندي أن يعاقب الشعب التونسي هؤلاء المُنافقين بالإعراض عنهم أولاً, و توعية الناس بذلك, ثم بأن يحرمهم من صوته الانتخابي في انتخابات اكتوبر القادم, ليتبين وزنهم السياسي الهش.
من مظاهر الردة السياسية كذلك, ما حصل و يحصل داخل الهياكل السياسية المُؤقتة, من أمور عجيبة و حوادث غريبة. فالحكومات المُتعاقبة لم تُفلح في كسب ثقة المُواطن التونسي في الميدان السياسي, والهيئة التي حملت مُهمة ثقيلة تتمثل في تحقيق أهداف الثورة, لم تستطع الالتزام بالحياد, و مال رئيسها إلى شق دون آخر, و أصبحت تحاولُ, و هي التي ستترك المكان لسلطة شرعية بعد شهور قليلة, تمرير مشاريع قوانين هامة تهم حاضر الأمة و مستقبلها! ثم إنها, مع الأسف الشديد, حادت أيضًا عن مبدأ التوافق, لغاية في نفسها, كشفها الشعب التونسي إذ لم تعد خافية على أحد, وهي التخلص من طرف سياسي له وزنه متمثل خاصة في التيار الإسلامي الوسطي و المعتدل, يؤرق امتداده الشعبي هؤلاء الذين لم تسعفهم ديمقراطيتهم المزعومة, في قبول الآخر. و الدليل مُغادرة أطراف سياسية أخرى لها, بعد ظهور علامات واضحة على أن شيئًا ما يقع طبخه تحت الطاولة..
و مما أخشاه على ثورتنا المُباركة في المجال السياسي أيضًا, عدم تأكد التونسيين من القضاء التام على آفات أخرى تشوب المشهد السياسي التونسي مثل البوليس السياسي, الذي أذاق شعبنا المسكين الويلات عقودًا من الزمن, و قمع الاعتصامات و المظاهرات السلمية بطرق عنيفة تذكر التونسيين بعهد القمع و الإهانات و الاستهانة بأبسط حقوق الإنسان في التعبير السلمي عن رأيه. و كل هذه تُعتبر مظاهر ارتداد عن منهج الثورة التونسية المُباركة و أهدافها. ولا يتوهمن أحد أنها ستختفي بين عشية و ضحاها, والواجب على كل تونسي غيور أن يساهم بفاعلية, بأسلوب حضاري سلمي, في كشفها و التشهير بها و بأخطارها, ثم أيضًا بعدم الاستهانة بصوته الانتخابي و التمييز جيدا بين الغث و السمين قبل نمحه لطرف سياسي معين, حتى لا يُساهم, من حيث لا يعلم, في تقوية الردة و الالتفاف على الثورة.
بذور الأمل و مخاطر الردة في المجال القضائي:
من الإنصاف هنا الاعتراف ببعض الخطوات التي تبشر بخير, فقد بدأ مسار تطهير الجهاز القضائي, و بدأت محاكمة الدكتاتور المخلوع و حاشيته و إن مازالت تشوبها بعض شوائب التعثر و الغموض, و انتبه بعض أهل العدالة مِؤخرًا إلى ضرورة إعداد قوائم للفاسدين من القضاة كما أُعدت من قبل قوائم المناشدين. و ازداد وعي التونسيين بأن السلطة القضائية مطلب أساسي لمستقبلهم و أس ضروري لجمهوريتهم المنشودة القادمة.
لكن مازال عمل كبير ينتظرنا أبناء وطننا الغالي, فمن عجائب المشهد التونسي في الفترة الأخيرة أيضًا المُحاكمات العجيبة الغريبة التي يَمْثل بها بعض وجوه الفساد السياسي و المالي أمام القضاء, ليخرجوا أبرياء أو شبه أبرياء, بعد أن عرفهم الشعب التونسي زمنًا طويلًا بجرائمهم الكثيرة التي تتنوع من نهب البلاد و العباد, إلى سفك دم الشهداء, مرورًا بترسيخ النظام السابق الفاشي. بترهيب الناس و ترويعهم, لمجرد معتقد اعتقدوه أو فكر اعتنقوه. لا بد للمنصف هنا أن يشير إلى عدم تعميم هذا الأمر, فبعض المحاكمات قد يكون خرج عن هذه الصفة الفاسدة, و ما نزال نرى في تونس, و لله الحمد رجال قضاء شرفاء, يستنكرون ما يعانيه هذا القطاع الحساس من حيف, و رؤوس فاسدة قد أينعت و حان وقت قطافها. و لساِئل هنا أن يسأل: كيف يمكن لقضاة طبقوا الأحكام الجائرة في عهد بن علي وبأوامره, أن ينقلبوا رموزًا للعدل و الإنصاف؟!والحال أن الله تعالى ينبه في كتابه الكريم: "ما جعل الله للمرء من قلبين في جوفه"[الأحزاب 4] ولعل ما يكاد يواسي النفس في مصيبة الجهاز القضائي هو وقوف بعض الأصوات الحرة من القضاة و المحامين أنفسهم في وجه هذه الردة القضائية التي كان آخر فصولها تمكن بعض الفاسدين من الفرار خارج الوطن, لتأخر حجر السفر عليهم, أو مساهمة أياد خفية, أضحى الناس يحسون بدورها الأكيد في الالتفاف على العدالة و المحاسبة التي تسبق المصالحة. و إني أدعو هنا جميع أبناء وطني العزيز, أن ينتبهوا إلى أهمية تنقية القطاع القضائي و ضمان استقلاليته التامة عن السلطة السياسية, و النص على ذلك في الدستور القادم, فقوة القضاء ونزاهة العدالة لبنتان أساسيان لنشأة دولة قوية تتمتع بثقة الشعب.و أدعو أيضا الشرفاء من أهل القضاء الى الاستمرار في اليقظة و العمل على إعادة الهيبة إلى السلطة القضائية.
بذور الأمل و مخاطر الردة في المجال الإعلامي:
من أهم آثار التقدم في هذا المجال, أن التونسي, اكتشف و بعد طول انتظار معنى شعار قناة الجزيرة "الرأي و الرأي الآخر" في بعض وسائل الإعلام التونسية, وإن كانت هذه الأخيرة مازالت تحبو في هذا المسار. لقد أصبح يتعلم الجُرأة و القدرة على الإدلاء بدلوه في شؤون وطنه, دون أن يخشى سطوة سيف الرقيب المسلط على رقبته. كما بدأ إصلاح القطاع الإعلامي, وأن كان بطيئًا, بحل بعض هياكل الرقابة الفاسدة التي أحصت على التونسيين أنفاسهم, ومنح التراخيص لبعض الجرائد الممنوعة والمحطات السمعية و المرئية, و ان اختلط فيها الحابل بالنابل أحيانًا.
من أغرب أوجه هذه الردة التي لابد أيضًا من التنبيه إليها, و التي لا تقل أهمية عن النقاط السالف ذكرها, التي يخص المجال الإعلامي, الذي مازال يذكرنا, على ما يشهده من بعض التحسن في حرية التعبير, بأنه يزخر بوجوه أكل عليها الدهر, ما تزال تحتل المناصب و تُسَير المنابر الإعلامية باسم الثورة و الثائرين, بعد أن كانت من ضاربي الدفوف في عهد الدكتاتور المخلوع. بل من عجائب ما رأينا, بعض المنافقين, ممن ذرفوا الدمع مدرارًا بعد خطاب بن علي و قبل فراره , وقد انقلبوا مُنافحين عن الحرية و الكرامة! لقد كان بعضهم ممن نزلوا إلى دركات مناشدة الطاغية المتجبر إلى الاستمرار في دوس الشعب التونسي و حُكمه بالحديد و النار! و لطالما جعل أمثال هؤلاء منابر الإعلام و الصحافة إما جوقة للتطبيل و نفخ القائد المُلهم, وإما مكانًا لنشر ثقافة الفساد و الإفساد, بالسيطرة على التلفزيون عبر شركات مُتغولة بالرئيس و أصهاره, ويعرف كل أبناء شعبنا ذلك الوجه المُنافق, الذي لم ير منه التونسيون سوى المسلسلات التي تشرع للتفسخ و الانحلال, و تصور كل مظاهر الفساد الأخلاقي على أنها شيء طبيعي في مُجتمعنا التونسي العربي المُسلم, و الأدهى أن هذه التفاهات كانت تُبث في شهر رمضان المبارك, شهر التقوى و التوبة. و لعل ما يندى له الجبين أن هذا الوجه يُطل علينا الآن بقناة جديدة ويدعي النقاء و الصفاء!و لسائل أن يسأل: كيف يحصل أمثاله على تأشيرات للعمل الإعلامي بينما ينتظر كثيرون من الشرفاء الذين واجهوا الظلم, أياما و شهورًا دون جواب مُقنع.
من آثار الردة الإعلامية التي لا تخفى على عاقل أيضًا دس السم في الدسم, فبعض المُغتربين ثقافيًا لم يملوا أسلوب بن علي و إعلامه الفاسد, و ما يزالون يُطالعون المُتلقي التونسي ببث الرعب في نفسه بادعاء خطر التطرف المزعوم, و إلصاق التهم الباطلة بكل من يدافع عن العروبة و الإسلام. مازال بعضهم من الذين تُعميهم السذاجة أو يُضلهم الخُبث يحاول إقصاء التيار الإسلامي المعتدل, و يكيد له, حتى وهو ينفي عن نفسه التهم الزائفة صباح مساء!
ولو عددنا أمثلة الردة الإعلامية, لطال سردها. ولذلك أوجز الأمر هنا بتنبيه الغيورين من أبناء وطننا الأبي, إلى الالتفات إلى المجال الإعلامي لدوره في إنجاح ثورتنا الغالية و بناء تونس المُستقبل. يجب على الإعلاميين باختصار العمل على ولادة الصحافة ولادة جديدة تؤهلها أن تكون بحق السلطة الرابعة, و صوت الشعب و المجتمع, الذي يراقب بقية السلطات.
بذور الأمل و مخاطر الردة في المجال الأخلاقي و الديني:
لقد من الله على تونس,, بلد عُقبة بن نافع, رضي الله عنه, و حاضنة القيروان المباركة وجامع الزيتونة المعمور, بأن عاد الإسلام إليها أو قُل عادت هي إليه, فآب الكثيرون إلى بيوت الله أفواجًا, يؤمونها ليجدوا فيها الملاذ عند الله تعالى, ويرتاحوا فيها من نصب الحياة اليومية ومشاغل الواقع و مشاكله. وشهدت العلاقة بين الناس و الفقهاء و الدعاة فرجًا بعد ضيق, بعد أن حرم النظام المُتحجر كُلاً منهما من الآخر زهاء نصف قرن, سالت بعض ينابيع الهداية صافية بعد تجفيفها, و أسوق في هذا الإطار, مثالا عايشته بنفسي في زيارة لتونس مؤخرا, حين اشتد الابتلاء بمدينة المتلوي الجريحة و شاعت فيها مع الأسف فتنة التناحر و الاقتتال, حضر حينئذ الشيخ الأستاذ عبد الفتاح مورو, وساهم بخطبتين جميلتين, في المتلوي و قفصة, في إطفاء نار الفتنة, بعد أن أثر كلامه المتميز بالإيجاز و الاكتناز, في آلاف الناس دون أن يستعمل كلمة واحدة عن السياسة أو تيار الإسلام السياسي, مما ينفي الاتهامات الباطلة التي حاول بعض ضعاف النفوس بثها, من استغلال المساجد للدعوة السياسية. ومن أهم منجزات الثورة كذلك ما نعمت به آلاف النساء التونسيات المضطهدات الصابرات اللائي عانين مرارة الحرمان من الامتثال لأمر الله تعالى في ارتداء الحجاب, وحقهن في الدراسة و العمل و الاحترام.
و لكن مظاهر الردة لم يسلم منها,في هذا المجال أيضًا, فقد برزت أصوات شاذة, ترى في كل ما يربط التونسيين بمحيطهم الديني و الأخلاقي خطرًا يتهددها, لضعف في صلابتهم الفكرية و امتدادها الشعبي. فأصبحنا نرى حربًا ضروسًا يشنها هؤلاء ضد أصحاب الفكر الإسلامي المعتدل, الذين يتسلحون بالصبر و الحكمة والموعظة الحسنة, رغم الاستفزازات المتكررة. كما تجلت مظاهر الردة في ظهور آفات شاذة غريبة على مجتمعنا التونسي, الذي تشبع, رغم كل شيء, بأربعة عشر قرنا من المخزون الديني و الأخلاقي. فتارة تطلع علينا بعض اللائي يتهجمن على الذات الإلاهية تحت ستار الفن و الحرية, تعالى الله عن ذلك عُلوًا كبيرا, و طورًا يطعن أحدهم في أم المؤمنين عائشة, و هي التي برأها الله في كتابه! و لانعلم هل كان يعي ما يقول, أم ابتلاه الله بأن جعله ممن "يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا"[النحل 70] نسأل الله السلامة!
ولا يغفل المتأمل كذلك عن بعض الأصوات الإعلامية و السياسية التي لا تدخر جهدًا في ترسيخ التبعية الثقافية للغرب, والطعن في هوية تونس العربية و الإسلامية, وأستغرب أين يعيش هؤلاء وعن أي تونس يتكلمون؟
وفي هذا الإطار, أدعو التونسيين جميعًا, إلى ما أعتبره حلا ناجعًا لمقاومة هذه الردة الفكرية, ويتمثل أولا في الاستمرار في مقارعة هؤلاء بالحجة و البرهان, وانتهاج منهج الإسلام الوسطي الذي ينبذ العنف و الإقصاء بجميع اشكاله, كما فعل قدوة الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم. كما أدعو إلى الاتصال بالناس لتنوير عقولهم و توضيح ما قد يلتبس في أذهانهم في خضم هذه التخمة الفكرية,
و الصبر على أذى المخالفين, فالشعب التونسي يملك من الوعي ما سيجعله قادرًا, طال الزمن أوقصُر, على أن يميز الخبيث من الطيب.
هذه جولة سريعة في إنجازات ثورتنا المباركة, رغم أنها لم تحقق بعد جميع أهدافها, و مظاهر الردة التي تحيق أخطارها, حسب رأيي المُتواضع, بمسار ثورتنا, أعرضها على شعبنا الكريم البطل, وكلي ثقة أنه لن يُلدغ من جحر مرتين إن شاء الله. و لايجزعن أحد مما يعتري ثورته من عقبات و تقلبات, فعمر الشعوب لا يقاس بالشهور و لا حتى السنوات, و ذلك دأب الثورات عبر التاريخ, لمن أراد أن يراجعه ويستقي منه العبر ليستفيد منها في بناء المستقبل الزاهر.ثم أن اختلاف الناس في البصيرة سنة من سنن الله سبحانه إذ"منهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد"[فاطر32]
و أقصى ما أمني به النفس في قادم الأيام, هو أن يُهيأ الله من كل غيور صادق, أبا بكر التونسي, ليعيد الثورة إلى مسارها, في غير إفراط و لا تفريط, إنه ولي ذلك و القادر عليه.
المصدر : الوسط التونسية - 17 أغسطس 2011 - 17 رمضان 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.