لا أعرف ماذا قال بابا الفاتيكن بالضبط، لكن المهم أنهم قالوا وقيل وقلن وقلتم وقلتنّ أنّ البابا المسيحي قد أساء لديننا الحنيف بأنّ أطلق عليه صفة الدين العنيف. انطلقت مظاهرات العادة والمألوف وصعدت الحناجر ساخطة على البابا والكنيسة والنصرانيين وحلفائهم العبرانيين المتآمرين أبدا ودوما على أمّة الإسلام. المشهد أصبح دافعا لأكثر من سؤال حول قدرتنا كعرب ومسلمين على مواءمة تعاطينا مع قضايا الاختلاف الفكري والعقائدي بشيء من الحكمة والتعقّل بعيدا عن الاندفاع الغوغائي والهيجان اللفظي المتشنّج. لا أحد من الذين بادروا للسخط والغضب المتحوّل لاحقا إلى تهديد بالعنف والقتل واستهداف لبعض كنائس الأقباط في مصر والمسيحيين في فلسطين ببعض العبوات الناسفة، لا أحد من هؤلاء كلّف نفسه أو طلب من مصادر اعلامه التي يرتوي منها أن يطّلع على نص محاضرة بابا الفاتيكان كاملة، المهم أن بابا الفاتيكان النصراني الذي ورث حقد المسيحية الصليبية علينا قد نطق ولا يهم أن نعرف بالضبط بما نطق وضمن أي سياق ووفق أي رؤية او حتى أن نحدد لأنفسنا اتجاه المجادلة لأفكاره أيكون بالجدل الفكري أم بالغوغائية الجامحة التي لم تصنع في التاريخ شيئا سوى مشهد الجماهير الهادرة في الصّخب والعرق والفراغ والمؤسسات الرسميّة المختصة في بيانات الشجب والاستنكار. إنّ ردود أفعالنا وطرق استجابتنا للتحديات الاشكالية التي تطرح أمامنا هي ما أضاعت عادة عدالة قضايانا وشرعيتها. لا أفترض أن البابا بينديكت بالبراءة اليسوعية الكاملة التي تجعله نزيها، صادقا متسامحا في موقفه من العقيدة الاسلامية، إذ بالضرورة أن يكون له حساباته وأفكاره وآراءه وسياساته الممثلة لكنيسة فاتيكانية طالما لعبت أدورا سياسية في تاريخ السياسة الدولية المعاصرة ولكن ما هو غير مفهوم هو طريقة التعبئة التي تمارسها بعض النخب الدينية والسياسية والاعلامية في عالمنا العربي والإسلامي حين تتشنّج وتدق طبول المواجهة على أوتار المشاعر الدينية المفتوحة دوما على أبواب التضحية والموت والدّمار والخراب والكره والحقد من أجل قضية الله كما نراها ونعتقد فيها. علينا أن نتدرب على الخروج من رداء الضحية الأزلية التي يتآمر عليها الكون تلك التي حوّلتنا إلى أمة معقدة تتخيّل النقص والدونية في كل حوار اشكالي يطرح عليها وتعتقد أنها تردّ على الاستفزاز بكبرياء الحدة والحسم فيما هي تفضح عقدة نقصها في كل ذرة تشنّج وهيجان مرافقة لردود فعلها. ما الذي ستغيّره كلمات البابا من تمسّك المسلمين بعقيدتهم، أو من علو مقام دينهم او من تأثير شخصية نبيهم الكريم عبر التاريخ ماضيا وحاضرا ولاحقا؟!! ترى هل غيّرت آلاف منابر الدعاء بالشر والويل والثبور والموت والجحيم والفناء التي نطلقها في مساجدنا على «الصليبيين الحاقدين واليهود» الذين تحفل ثقافتنا الشعبية بل وبعض البرامج التعليمية العربية بنصوص المسخ والشتيمة في حقهم وحق ديانتهم؟! هل غيرت كرنفالات التشكيك هذه في الواقع شيئا؟! حان الوقت ان ندرك ان الواقع لا تغيره الأوهام المندفعة أو المشاعر الغاضبة بقدر ما تغيره ارادة العقل والحجة والمناظرة الهادئة والتفكير العميق وفسحة السؤال النقدي.. وهنا بالذات لابد أن نعترف بغضّ النّظر عن كلام البابا وخلفيته العنصرية المتعالية أنّ فكرنا الإسلامي في حاجة حقيقية لفتح باب النقاش والحوار والتفكير في قضايا حارقة وملحّة مثل علاقة العقيدة بالعقل أو تأويلية الجهاد وإشكالية العنف كما تحدث عنها القرآن الكريم وكما اوّلها الفقهاء. لأننا لا نستطيع ان نخفي حقيقة أن جزءا من العنف الساري في عالم اليوم تتقاسمه حداثة العقل الغربي مع نزعات ارهاب دموي تسري وتفجر وتقتل باسم الإسلام والقرآن والرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في استناد متماسك لما تدّعي أنه الدين الحقّ والفريضة المؤكّدة. من يقرأ نصوص القاعدة وهي تبرر عملياتها على أرض دار الاسلام، ومن يقرأ فتاوي شيوخ تنظيمات السلاح الجهادي في الجزائر والمغرب واليمن والخليج يعثر على استشهاد دقيق بالآيات والأحاديث المبررة لممارسات هذه التنظيمات وعمليّاتها التي يذهب ضحيتها أبناء المسلمين في الجزائر او الدارالبيضاء او الرياض او القاهرة تماما بمثل ما نجد انسجاما كاملا في الاستشهاد بالآيات والأحاديث في خطاب الجهات الرافضة لعنف المجموعات الجهادية المتطرّفة حتّى لكأن المرء يحتار حقيقة في أيّ صف يقف اللّه ورسوله حين ندرك مدى تعقد لعبة التأويل والتفسير وغواية العزف على نشيد المقدّس الديني. إننا بحاجة ان نفتح النقاش بصدق وعمق ونزاهة من داخل منظومة عقلنا الاسلامي الغيورة على صورة ديننا وقدرة أهله على التأقلم مع عصرهم بحكمة واندماج ونجاعة حقيقية لا تصنعها القنابل الصوتية الفارغة بل نشاط العقل وحيوية التفكير والاجتهاد. عدا ذلك نؤبّد صورتنا المتجمّدة على أرصفة الشوارع الهادرة بالصياح والغبار، سعيدة بصحوة العزة فيما هي لا تفعل غير الالتفات الى زاوية مغايرة على سرير نوم تاريخي طويل، مديد. *