يشغل المسلمون العالم بمشكلاتهم في معظم الأحيان، وبإنجازاتهم في قليل من الأحيان، فلنبدأ بالقلة الإيجابية، ففي خلال الشهر الأخير، فاز اثنان من المسلمين بجائزتين من جوائز نوبل، الأول هو الدكتور محمد يونس، استاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة داكا، لدوره الريادي في محاربة الفقر، من خلال مبادرة رائعة، هي انشاء بنك الفقراء ، المعروف عالميا باسم جرامين والذي يقرض الفقراء، وخاصة النساء بلا ضمانات، سوي كلمة الشرف، التي يتعهدن فيها وأمام بعضهن البعض بسداد القرض، علي أقساط أسبوعية خلال سنة، أو سنة ونصف. ومع استكمال السداد، يمكن للشخص ان يحصل علي قرض ثانٍ، ضعف القرض الأول، وهكذا بدأ محمد يونس إقراض أول فقيرة، تتاجر ببيع البيض، منذ ثلاثين عاماً، بقرض من جيبه الخاص قيمته 25 دولاراً، اي حوالي 150 جنيها مصريا. ونمت المبادرة، ووصل عدد المقترضين الي عدة ملايين. وأصبح المقترضون أنفسهم مساهمين في بنك الفقراء، الذي وصل حجم رأسماله الي أكثر من مليار دولار أمريكي ووصل حجم نشاطه السنوي إلي حوالي ثلاثة مليارات. وأسس بنك جرامين مؤسسة تعليمية مانحة، لمن يرغب في محاكاة التجربة. وكان مركز ابن خلدون، بالقاهرة هو أول منظمة مصرية غير حكومية، تستفيد من هذه التجربة، حيث ارسل المركز ثلاثة من العاملين فيه للتدريب في مؤسسة جرامين بالعاصمة البنجالية، قبل خمسة عشر عاماً. ونفذ مركز ابن خلدون برنامجاً لإقراض التائبين الاسلاميين في إمبابة، استمر لعدة سنوات، الي ان سحبت الدولة المصرية 27 من العاملين في المركز، وبرنامج الإقراض في يونيو ،2000 ولكن المركز استأنف برنامج اقراض الفقراء، بنفس منهج جرامين، في عام 2003. بعد ان برأت محكمة النقض مركز ابن خلدون مما كانت اجهزة الدولة قد لفقته له من قضايا ونحن اذ نهنيء الرائد محمد يونس بجائزة نوبل للسلام، فإننا نعتز باكتشافنا المبكر لعبقرية هذا الرجل الشديد التواضع، والذي قالت عنه اللجنة المانحة انه بمناهضته للفقر في بلده بنجلاديش (120 مليوناً) وفي بلدان العالم الثالث التي سارت علي نهجه، قد اسهم ليس فقط في تقليص الحرمان، ولكنه أبدع ايضاً بأسلوب مستحدث للتنمية المستدامة وبذلك جنب مجتمعه صراعات اجتماعية، كان يمكن ان يذهب آلاف البشر ضحايا لها. أما المسلم الآخر الذي فاز بجائزة نوبل في الأدب فهو الكاتب الروائي التركي، أورهان باموك، الذي جسمت رواياته اشكاليات الهوية التركية والمحاولات المحمومة لإنجاز مشروع المجتمع العصري والدولة الحديثة في تركيا منذ سقوط الامبراطورية العثمانية، وإلغاء الخلافة في أوائل العشرينيات من القرن الماضي. وقد انطوت هذه المحاولة علي قمع الأقليات غير التركية، التي شاءت الجغرافيا السياسية تواجدها في هضبة الأناضول. وضمن هؤلاء كان الأرمن وهم مسيحيون، والأكراد وهم مسلمون، ولكن لا يتحدثون التركية. وكان تمسك كل من الأرمن والأكراد بهويتهم، واعتزازهم بأصولهم ولغتهم وشخصيتهم القومية التي كانت سبباً في حنق مؤسسي تركيا الحديثة، بزعامة مصطفي كمال أتاتورك فصب جام غضبه عليهم. وتعرض الأرمن بوجه خاص للتنكيل ولمذابح واسعة النطاق، أشبه بالإبادة الجماعية خلال عشرينيات القرن الماضي وفر مئات الآلاف من الأرمن الي البلدان المجاورة والقريبة، ومنها مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسودان. وقد آثر الجيلان التاليان لهذه المذابح من الأتراك، الصمت التام. فليس لهذه المذابح اي ذكر في كتب التاريخ التركية او الإعلام التركي. بل ان هناك انكاراً رسمياً تركياً لهذه المذابح، ورفضا تاما لتحمل اي مسؤولية تاريخية او اخلاقية عنها. الي ان جاء اورهان باموك، فتحدث عنها بصراحة لم يتعودها الأتراك المعاصرون. وكان حديثه عن هذه المسألة منذ سنتين، مثل حديثنا عن المسألة القبطية منذ اثنتي عشرة سنة. وكما تعرضنا وقتها للهجوم، ثم للمحاكمة (عام 2000) تعرض ايضاً أورهان باموك للهجوم ثم للمحاكمة، لمجرد اثارته لموضوع الأقليات المضطهدة في وطنه تركيا. ولكن الرجل صمد، وتضامن معه مثقفون أحرار من كل أنحاء العالم، بمن فيهم هذا الكاتب. في مقابل هذين المسلمين المشرفين هناك مسلمون آخرون لم يجلبوا لدينهم وبلدانهم وثقافتهم إلا الخزي والعار. ومنهم مسلمون لجأوا الي بلدان أوروبية، هرباً من الاضطهاد أو ضيق العيش في بلادهم الأصلية. ورغم ان البلدان الأوروبية أحسنت وفادتهم، وقدمت لهم الرعاية والحماية، فإن بعضهم بعد ان استقر له المقام سرعان ما بدأ يعض اليد التي أحسنت إليه، وأطعمته بعد جوع. وقد سبق ان تعرضت لسيرة بعض هؤلاء، في مقالين سابقين عن الإسلاميين في بلاد الفرنجة . وفي أحد المقالين تناولت حكاية أبوحمزة المصري الذي هرب من مصر بعد صدور حكم عليه بتهمة الارهاب، ولجأ الي بريطانيا. وبعد ان استقر به المقام هناك، بدأ يخطب في مساجد لندن، يهدد الانجليز الكفرة، الفجرة، بالويل والثبور، وعظائم الأمور.. وكان كل يوم جمعة ينذر الانجليز إما بدخول الإسلام، أو دفع الجزية، وإلا اعمل فيهم السيف !. وكانت احدي النتائج غير المباشرة لخطاب الكراهية هذا من ابوحمزة المصري وأمثاله، ان عددا من شباب المسلمين من الجيل الثاني، انقلبوا علي البلد الذي ولدوا فيه، وانجرفوا الي تدبير أعمال ارهابية، كان اخطرها هو محاولة تفجير قطارات مترو لندن في 7/7/2005. وقد حملت لنا الأخبار منذ اسبوعين قصة اخري لإحدي المسلمات البريطانيات التي يبدو من اسمها انها من أصل مصري، أو عربي، وتعمل معلمة في احدي مدارس منطقة بلاكبورن، في بريطانيا التي يمثلها جاك سترو في مجلس العموم. وقد أصرت هذه الاخت المسلمة علي ارتداء النقاب الذي يغطي الجسم كله، بغطاء أسود سميك بما في ذلك الرأس والفم والشفتان، وليس به الا فتحتان صغيرتان لكي تري هي بهما. وعلي نحو ما أشار الكاتب الصحفي الكبير سلامة أحمد سلامة (الأهرام 19/10/2006)، فإن الأطفال الذين شاء حظهم العاثر ان تكون هذه الأخت المنقبة معلمة لهم، اشتكوا لعدم قدرتهم علي متابعة هذه المعلمة. فمن المعروف ان الاستماع والفهم والاستيعاب لدي الأطفال يتوقف علي رؤية تعبيرات الوجه والفم ومخارج الألفاظ. ولفتت ادارة المدرسة انتباه الأخت المسلمة المنقبة الي شكوي التلاميذ، وطلبت منها ان تعدل عن ارتداء النقاب أثناء التدريس. ولكن الأخت المسلمة أصرت علي حقها في أن ترتدي ما تريد، متعللة بأن هناك في نفس المدرسة معلمين رجالاً، وهي لا تريد ان تكشف عن وجهها في وجودهم، لأن ذلك يخالف صميم دينها الاسلامي. فاضطرت المدرسة ان تنهي تعاقدها وتفصلها من مدرسة بلاكبورن. فلجأت الأخت المنقبة بالشكوي الي نائب دائرتها في مجلس العموم، جاك سترو، الذي هو ايضاً رئيس المجلس، وكان الي وقت قريب، وزيراً للخارجية، وبعد دراسة متأنية لشكوي الإدارة التعليمية، ولشكوي الأطفال، ولشكوي الأخت المنقبة، أصدر جاك سترو تصريحاً فحواه انه لا يستطيع مساعدة الأخت المنقبة التي تصر علي ارتداء النقاب، في تحد سافر للمسؤولين عن الإدارة التعليمية والتلاميذ وأولياء أمورهم. ولجأت الأخت المنقبة الي الجالية الإسلامية في بريطانيا، والي القضاء والي الرأي العام في بريطانيا، علي انها ضحية اضطهاد ديني ، وشغلت القضية بالفعل اهتمام كثيرين، بمن في ذلك وزير التربية، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، اللذان انضما الي جاك سترو، والي تلاميذ مدرسة بلاكبورن ضد النقاب وليس ضد الاسلام وكان مما قاله هؤلاء المسؤولون البريطانيون انهم سافروا وتجولوا في بلاد اسلامية جديدة، واستشاروا رجال دين مسلمين، وخلصوا الي ان النقاب غير الحجاب وأن اياً منهما ليس فرضاً من فرائض الدين الاسلامي. وان ارتداء أي منهما هو أمر اختياري محض. وكأي اختيار علي صاحبه أو صاحبته تحمل نتائج هذا الاختيار ، بما في ذلك قرار إدارة بلاكبورن التعليمية، فصل هذه الاخت المنقبة من مدرستها. وكان مما قاله السيد جاك سترو انه أحد أولئك الذين يعملون منذ سنوات طويلة علي ادماج المسلمين البريطانيين دمجاً كاملاً في المجتمع البريطاني، حتي يتمتعوا بحقوق المواطنة كاملة. ولكن حينما يصر بعضهم او بعضهن علي الانفصال وتشييد الحواجز، انه لا يستطيع مساعدتهم. وأظن ان الرجل علي حق فيما قاله. ويبدو ان الأخت المنقبة ودعونا نسميها أم حمزة ، شأنها شأن أبوحمزة المصري، قد غالت بل واشتطت... غالت في فهمها للإسلام، الذي هو دين يُسر لا عُسر .. واشتطت علي حقوق غيرها من اطفال مدرسة بلاكبورن، فلماذا لا تعود أم حمزة المنقبة إلي دار الإسلام حتي تحافظ علي اسلامها وترتدي نقابها، كما يحلو لها، ولنترك الفرنجة في دار الحرب والكفر وشأنهم لمصيرهم، وبئس المصير!. هل يستطيع أحد إعراب سلوك أم حمزة المنقبة ؟ لقد احتار دليلي!. الراية القطرية-الإثنين 30 أكتوبر *