المقال حمل عنوان فتاوى الترابي أطلق الدكتور الترابي من مقامه السوداني سلسلة من الفتاوى المبهرة تاركا وراءه سيلا من التعليق والنقد والآراء المتلاطمة بين ضفّتي الإشادة والتكفير. حسن الترابي كما هو معلوم يمثل احدى أبرز المرجعيات لحركات الإسلام السياسي وأساسا لتيار الإسلام السياسي السُنّي الذي يتقدم إلى الساحة بعناوين تجديدية معتدلة تهيئه في مناخ التحوّلات الراهنة ليكسب صفة ما يسمى ب«الإسلام الديموقراطي» المشكل لفصائل الحركات الأصولية السنية التي اختارت التموقع ضمن خط ليبرالي أمريكي لتنأى بنفسها عن التقاطع أو الاقتراب من دائرة الأصولية الجهادية في صيغتها القاعدية العنيفة. خرج الترابي شيخ السبعين منهكا من ثقل تجربة تحالف مأساوي جمعه بالعسكر السوداني الذي أطاح بحكومة الصادق المهدي ليحكم السودان باسم الانقاذ بسلطة يتدلى من أعلى هرمها رأسان تحابا ثم افترقا حين فرض قانون الواقع أن يكون الأمر ملكا لرأس واحد فذهب الترابي وبقي البشير. مهندس نظرية الاختراق والالتفاف العمودي على مؤسسات الدولة والمجتمع كأسلوب لنجاح مشروع التغيير الأصولي خان نظريته في التدرج وانضاج الثمرة وكبح التسرع حين تحالف مع مشروع الانقلاب ومارسه لكنه دفع ثمن مغامرته سجنا يشتهي الشيخ تسميته كفّارة له في خطأ اجتهاده!! يجلس الترابي اليوم في منزله متقمصا رداء المتأمل المنشغل بتجديد الفقه وأصوله، الغائص في قضايا الفكر الإسلامي واشكالاته دون أن ينجح في كبت شهية السياسة والغاء هوسها من عقله الذي لم ينل السجن والاعتقال من حيويته ومكره. أفتى الترابي بجواز زواج المسلمة من الكتابي يهوديا كان أم نصرانيا وحق النساء في الإمامة وجواز الاختلاط حتى في المساجد عند الصلاة وبطلان التفريق بين المرأة والرجل في الشهادة قائلا بالمساواة بينهما في هذا المجال ثم عرّج على قضية الحجاب ليقول فيها كلاما مبهما يشبه فتوى تدرجت من نقاش المصطلح اللغوي وتاريخية آيات الأمر في المجال والفروق بين ما كان منها من أحكام خاصة لنساء الرسول عن غيرهن من النساء وللرسول نفسه من دون بقية الرجال الى حدود القول بوجوبية الخمار سترا للصدور لا غير. وكما يبدو الأمر فإن هذه الفتاوي التجديدية تمثل فعلا صدمة للوعي الإسلامي السائد الذي تسيطر عليه نزعات المحافظة والجمود لولا أن الشك الذي يحيط بغايات وأهداف صاحبها تجعل الأمر أقرب إلى المناورة السياسية التي تندرج في سياق خطاب المغالطة والتقية التي يمثل الترابي وتياره وأصدقاءه ومريديه ضمن تيارات الإسلام السياسي مرجعا وعنوانا له. لكي يصفّي الترابي حساباته مع نظام البشير لا بد أن يتصيّد له الوقيعة بمختلف الوسائل سواء عبر الموقف السياسي المباشر أو الرسائل الفقهية المشفّرة لأعداء النظام من الغربيين المتربصين به. وهو يدرك بذكاءه الحاد أن ورطة خصمه في دارفور المتوسّعة خارج الحدود لتصبح مأزقا افريقيا ودوليا أحكم وضع السودان في الدائرة المركزة للاستهداف تمنح له الفرصة ليتقدم كبديل ذا مصداقية للمجتمع الدولي حاملا الدواء السحري لكل معضلات البلد ومآزقه ليكون هذا الدواء منسجما بالصدفة مع كل المطالب الغربية والأمريكية من قضية دارفور التي يردد الترابي أنه قادر على حلها في جلسة واحدة تمنح أهله حكما ذاتيا جزئيا إلى إيقاف تدخل السودان في شؤون دول الجوار وصولا إلى اللعب على حساسية الغرب تجاه قضايا المرأة والثقافة الاجتماعية والاصلاح الديني. كان يمكن للترابي أن يبدو فعلا رمزا لتيار تجديدي تقدّمي داخل الفكر الإسلامي لولا أن رصيد تجربته السياسية يحفل بكل أنواع المخاتلة والانقلاب والتلوّن منذ أن كان مهندسا للخيمة الأصولية العالمية الكبرى التي حوّلت الخرطوم إلى عش للأممية الملتحية محتضنة كل ألوان الطيف الأصولي أين بدت مزرعة بن لادن المحاطة بالأسوار والأسرار رمزا لحقبة غامضة من تاريخ «السطوة الترابية». يبدو الترابي هذه الأيام مكافحا من أجل غرق رفاق الانقاذ السابقين مستعدا لكل أنواع القول والفتاوي ما دامت صالحة لمعركة تصفية الحساب، لا يهم حدودها ولا يعنيه كثيرا سقفها ولا تحرجه ردود الفعل نحوها بالتنديد والتكفير لأنها بمنطق عقله الاستثماري تخدمه ولا تقلقه حين يقدم نفسه لسادة العالم أنه رمز لإسلام ليبرالي مضطهد من طرف استبداد مبهم لا هوية له غير التسلط والطغيان. كنا دوما ننظر الى أن أخطر أنواع ومدارس التحيل الأصولي ، تلك التي تتزين بالتجديد والاعتدال فتسطع دوما بالقول الإيجابي المعتدل حتى إذا تمكنت انقلبت على خطابها وانكشف فعلها المعتدل الذي يحمل مع ذكريات سيرة الترابي المتقلبة في التحالف والسقوط نموذجا مثاليا لمعنى الازدواجية والتسامح المبلل بدماء علي محمود طه المشنوق فوق منصة الاعدام التي وظبهنا تحالف الترابي والنميري لشخص اختلف مع فقه التحالف السائد. لعل أصداء تجارب هذه المدرسة لا تزال يتردد أمام العيون وفي الآذان غير بعيد عن السودان، في حلقات تلاميذ الترابي والمعجبين بخطه والمتطلعين لنسخ تجربته ووراثة نهجه، هناك في صفوف أتباع الشيخ اللندني الذين تأخر موقفهم من فتاوي مرجعهم السوداني وقد عودونا على تفاعل أكبر مع أقل من هذه المراجعات جرأة واندفاعا، لكن الأمر في هذا السياق مختلف حين يكون نهج الجماعة استنساخا أصوليا للمقولة الميكيافيلية في تبرير مختلف الوسائل المستعملة لبلوغ الغايات حتى أكثرها تناقضا مع القناعات والعقائد الخاصة، ألم يذهب الشيخ اللندني نفسه في حديث ظريف حول تحالف أكتوبر الى اعتبار حليفه الجديد القادم من أقصى اليسار الشيوعي الأحمر رمزا من رموز الصحوة المباركة!!! اللّهم أنعمت فزد....