إن الغوص في هذا البحر الذي لا ساحل له من العلم , أمر يكاد يكون مستحيلا , لكن الضرورة الملحة هذه الأيام بعد انتشار الفتن , وشيوع الآراء والأفكار والمذاهب والفتاوي الإقصائية التي تحمل بين سطورها تشكيكا في تراث الأمة , رأيت من الواجب الشرعي , التصدي لهذه الظاهرة الغريبة على مجتمعاتنا المغاربية التي عاشت منذ فجر الإسلام بسلام بعيدة عن هذه الطائفية المرعبة التي تأسست على الحقد والبغض , ومن وسائل التصدي في رأي لهذه الإ نحرافات , هي التذكير بأئمتنا العظام الذين صانوا لهذه الأمة دينها ونقوا ما فيه من شوائب ومدسوسات , ولسائل أن يسأل ما تقوله صحيح , لكن من يحمل على عاتقه هذا التوجه , لا بد أن يكون متخصصا , هذا حقك , لكن الدفاع عن دين الله لا يحتاج إلى تخصص , بل من حق طويلب علم مثلي أن يدلي بدلوه قدر المستطاع , ففي الأثر " بلغوا عني ولو آية " خاصة وكما يشهد القارئ لم أتطرق إلى قضايا لها علاقة باجتهاد أو فتوى , كل ما أقوله يغلب عليه السرد التاريخي المجمع عليه بين أكثر الأمة , ما شذ عن ذلك الا القليل الذي يحفظ ولا يقاس عليه , لذلك أعتذر للأخوة القراء على هذا التطفل المدفوع بحسن النية والله شهيد على ما أقول . أعود من جديد إلى إمامنا الكبير بعد أن تعرضت أمس إلى مولده ونسبه , أتناول اليوم طلبه للعلم وشيوخه وتلامذته . حظي الإمام مالك بعقل وذكاء لم يحظ بهما أحد في زمانه , فكان إذا قدم على شيخه ربيعة يقول : جاء العاقل , وقال ابن المهدي : ما رأت عيناي أحدا أهيب من هيبته , ولا اتم عقلا ولا أشد تقوى ولا أوفر دماغا من مالك , وقال هارون الرشيد رحمه الله في حقه : ما رأيت اعقل منه , واتفقوا على أنه اعقل أهل زمانه, و فهمه خارق , وحفظه فائق . حرص كل الحرص على اختيار شيوخه , واستفاد من توجيه والديه في ذلك , ومن شيوخه الذين تلقى العلم منهم , نافع مولى ابن عمر وهو أثبت من روى عنهم , ومحمد بن شهاب الزهري , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وهشام بن عروة بن الزبير , وزيد بن أسلم , وربيعة بن أبي عبد الرحمن , وحميد الطويل , وأبو حازم سلمة بن دينار وغيرهم ممن يصعب حصرهم . ومن المفارقات العجيبة التي تدلل على عبقرية هذا الرجل , أن بعض أساتذته كابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد ويزيد بن عبد الله , أتوه لما اشتد عوده واصبحت له حلقة للعلم , يأخذون عنه العلم وهذه نادرة غير مسبوقة , قال رضي الله عنه " كل من كتبت عنه العلم ما مات حتى جاءني يستفتيني " . أخذ عن مالك من الطلبة جم لا يحصى , وقد ألفت في ذلك الكتب , منها ما ألفه الخطيب في الرواة عنه .أورد أن طلاب مالك الف رجل الا سبعة , ومن مشاهيرهم , الامام الشافعي ومحمد بن ابراهيم بن دينار , وابن ابي حازم والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي وابن القاسم وأشهب ويحيى بن يحيى الليثي الاندلسي راوي الموطأ , وغيرهم كثير...قال الدارقطني " لا أعلم أحدا تقدم أو تأخر إجتمع له ما اجتمع لمالك ..." كان مالك يجل العلم والعلماء , وإذا أراد أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه توضأ وتطيب , ومما يروى عنه كان لا يركب الدابة في المدينة إحتراما لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . حظي إمام دار الهجرة بهيبة لم يحظ بها ملك ولا سلطان , قال الواقدي " كان مجلسه مجلس وقار وحلم وكان رجلا مهيبا نبيلا ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت , اذا سئل عن مسألة أجاب سائله بتواضع واحترام " . وأيضا مما يروى عن هيبته التي أكرمه الله بها أنه اجتمع مرة بالخليفة ابي جعفر المنصور , وهو على فراشه واذا صبي يخرج ثم يرجع فقال له : أتدري من هذا؟ فقال لا , قال ابني يفزع من هيبتك . ذكر بعض المؤرخين , أن مالك لم يثبت أنه غادر المدينة لغير الحج , ويرجع الرواة ذلك إلى سببين ... 1 أن المدينةالمنورة آنذاك كانت محل لقاء علماء ومفكري المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها لأن الكل يقصدها لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم , فهي قبلة طلاب العلم العلمية . 2 أن المدينة وقتها , كان لها لون وطعم مميز في الفقه الإسلامي , يعرف بمذهب أهل الحديث أي أن أهل طيبة الطيبة بقواعلى المعين الصافي الذي تركهم عليه المبعوث رحمة للعالمين , فلم يتأثروا بموجة الفرق المنحرفة الزاحفة من كل مكان , استطاع فقيه دار الهجرة أن يلعب دورا رياديا في الحفاظ على تراث محمد صلى الله عليه وسلم من أن تمتد له يد التخريب والتزوير والزندقة , وبهذا فاز بإمامة دار الإسلام في المدينة ولقب بفقيهها . شهد الإمام مالك كما بينت أمس , تحول الدولة الإسلامية من أموية إلى عباسية , وعاصر الصراعات السياسية التي رافقت ذلك التحول , فرفض أن يزج بنفسه في تلك المعارك الخاسرة , وان ادعى طرف ما أنه الغالب , يكفي أن تكون بين مسلمين , فهي علامة على خسارة الجميع , والذين يوقدون نار الحرب هذه الأيام , أنصحهم بقراءة صادقة ومتجردة للتاريخ , فالتاريخ لا يرحم العملاء وإن تغطوا بعمامة الدين , وأما حكمي الحاد حسب ما قاله لي بعض الأخوة أمس على الدولة الأموية , فأقول أنا فيما كتبته لم أغفل الوجه الحسن لهذه الخلافة , فالأمويين رغم ما قيل فيهم , فعهدهم شهد ثورة علمية هائلة , وفي أيامهم فتحت بلدانا كثيرة , استضاءت بنور الإسلام الخالد , وهو ما أضاف للدولة مهابة وقدرا بين الأمم , لكن تحفظاتي , جاءت من باب اللوم الشديد لهذه الدولة على معاملتها القاسية لآل بيت رسول الله , لايمكن أن يغفر المسلمين للآمويين , اعتداءهم واجرام بعضهم على هذه الشجرة الطاهرة , هنا لا أعمم وإنما أقصد الظالمين منهم فقط " ألا تزروا وازرة وزر أخرى " آية 28 سورة النجم , وهذا الرأي ليس مجاملة للشيعة كما يتخيل للبعض , معاذ الله , السنة هم المحبين الحقيقيين لآل البيت , بالعكس نحن لا نفرق بين أحد وآخر من آل رسول الله , كلهم طاهرين كما أخبر الله سبحانه وتعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فالذي على خطر عظيم أولئك المفرقون بين أبنائه وأبناء أعمامه وزوجاته الطاهرات , ثم من ناحية أخرى من نفذ أمر اليزيد بقتل الحسين عليه السلام , أوليس أهل الكوفة ؟ من الشيعة الذين خذلوا وتآمروا عليه فقتلوه رضي الله عنه , لعن الله وقبح من أمر ومن نفذ إلى يوم الدين . وللحديث بقية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .