*** قرأت ما كتبه الأخ رضا الخميري والأخ مهاجر على مقالة لي نشرتها قبل يومين بعنوان "الربيع والسياحة وزيت الزيتون في تونس". طلب الأخ مهاجر حفظه الله أن أقول خيرا أو أصمت، وهو مصيب في ذلك تماما. وقد أردت الخير كل الخير فيما كتبت. تشجيع السياحة العربية إلى تونس أمر نافع ومفيد من الناحيتين الإقتصادية والثقافية، وترويج زيت الزيتون التونسي أمر مفيد للفلاّح التونسي الذي يكد من أجل زيادة دخله ومن أجل تربية أبنائه وإسعاد عائلته. وتساءل الأخ رضا حفظه الله عن إهمالي الإشارة إلى زيارتي الخاطفة لتونس قبل سنوات قليلة، ولا شك أنه يقصد ما جرى قبل تسع سنوات بالتمام والكمال. ليس ثمة سر في الموضوع. فزيارتي التي قمت بها لتونس صيف 1998 وتشرفت فيها بمقابلة الرئيس زين العابدين بن علي كانت تهدف أساسا إلى المساهمة في معالجة المشكلة العويصة التي يشير إليها رد الأخ رضا ومقال الأخ مهاجر، مشكلة الصدام بين السلطة والحركة الإسلامية. وقد بذلت كل ما في وسعي آنذاك، وشرحت الأمر على شاشة الفضائيات وفي صفحات الجرائد، وأثمرت تلك الجهود بعض الثمار التي شهد بها عدد من المنصفين، لكنها لم تصل إلى مبتغاها الكامل لأسباب عرضتها في مناسبات سابقة وليس الوقت اليوم مناسبا للحديث فيها بتفصيل. من دون مبالغة، ومن دون تحد لأحد، وبصراحة كاملة، أقول ما يلي: لقد بذل كاتب هذه السطور كل ما في وسعه ولا يزال حتى الساعة، من أجل حلحلة الأزمة المستحكمة بين السلطة والتيار الإسلامي المعتدل. لا أحب أن أزايد على أحد، ويؤلمني أن يزايد علي الآخرون. لكنني صبرت وسأصبر، وأدعو كل التونسيين إلى إحسان الظن بمخالفيهم في الرأي والمنهج. أكثر ما يفسد كل مسعى للصلح وتقريب ذات البين هو مسارعة البعض لاستخدام خطاب متشنج لا يبقي للصلح بابا على الإطلاق. خطاب يصادر الوطنية والتدين من السلطة ومن كل من يسعى للحوار مع السلطة أو يكتفي بنشر مقالة عامة عن السياحة والفلاحة ولا يهاجم السلطة. وهذا ظلم كبير، ومنهج لا يحقق أية مصلحة، وفيه مخالفة لسنن الإصلاح الديني كما بينتها تجارب الأجيال السابقة من المسلمين منذ صدر الإسلام. ومن المؤسف أن منهج التشنج، ومنهج الخصومة والمغالبة بشكل عام، طغى على التجربة الحركية الإسلامية منذ نهايات العقد السابع من القرن الماضي، فأثمر جيلا لا يحسن غير فن اكتساب الخصوم في صفوف السلطة وتوسيع دائرتهم عاما من بعد عام. وها هو منهج القطيعة والخصومة ينتهي ببعض رموز التيار الحركي الإسلامي إلى استرضاء أقليات متطرفة معقدة من التراث العربي والإسلامي لتونس، بتسويات واجتهادات شرعية مشوشة، لسبب سياسي واضح هو استمالة تلك الأقليات والتحالف معها في المعركة ضد السلطة. أخي رضا وأخي مهاجر: تونس بن علي فيها خير كثير. ملايين التونسيين ينامون الليل مطمئنين، ويسعون من أجل الرزق آمنين، يرتادون المساجد، والملاعب، والحدائق، ويفرحون في الأعياد وفي كل مناسبة يتحقق فيها نصر معتبر لتونس في أي محفل من المحافل الإقليمية والعالمية. كثير منهم يملك بيته، وربما أكثر من بيت. وسيارته، وربما أكثر من سيارة. ويقود الفلاح من سيدي بوزيد شاحنته فجرا إلى باجة أو صفاقس أو العاصمة، ويعود منها ظهرا، آمنا مطمئنا، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. والحكومة التونسية الحالية التي يرأسها الرئيس بن علي مكنت تونس من التفوق اقتصاديا على بلدان تملك ثروات كبيرة من النفط والغاز. أقرأ هذا الكلام في تقارير المنظمات الدولية الموثوقة، وأسمعه من الأصدقاء الموثوقين الذين يزورون تونس، ومن الجزائريين والليبيين الذين يزورون بلادنا بمئات الآلاف ويمدحون ما فيها من نظام ونظافة وخدمات طبية راقية. أما درجة التطور الديمقراطي ومدى الحريات السياسية والإعلامية والسياسات الأوفق لتشغيل الشباب فأمر يمكن النقاش فيه، ويجب النقاش فيه، على أساس أنه شأن تونسي عام، للسلطة ولجماعات المعارضة رأي فيه. وهنا أيضا يجب على المهتمين بمعالجة آثار الصدام بين السلطة والتيار الحركي الإسلامي أن يقدروا الأوضاع تقديرا حسنا. إذ ما الفائدة من التنفيس عن غضبة مضرية في مقالة هنا أو هناك وإغلاق الباب أمام كل إمكانية للتواصل وتقريب ذات البين؟ إذا كان خيار البعض المراهنة على استمرار العداوة والقطيعة بين المتدينين والسلطة، واغتنام كل فرصة لتأجيج هذه العداوة وتعميق هذه القطيعة، فإن هذا ليس منهجي. أعلن بأوضح عبارة ممكنة أن منهج تأجيج العداوة والقطيعة بين المتدينين والسلطة ليس منهجي على الإطلاق، وأنني أسعى بكل ما وسعي للتخفيف من هذه العدواة وللتخفيف من هذه القطيعة بين السلطات التونسية والإسلاميين المعتدلين، وللبحث عن صلح فكري وسياسي تاريخي بين الطرفين، صلح يحث عليه القرآن الكريم وتحث عليه تجارب المسلمين على مر العصور وليس هناك شك في ثماره الطيبة الكثيرة إذا ما تحقق. صلح يخدم مبادئ الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان في بلادنا. من أجل الوصول إلى مثل هذا الصلح أدعو كل المهتمين بأمر التيار الحركي الإسلامي في تونس إلى التأمل في تجارب الماضي بشجاعة، وفي أولويات الحاضر بشجاعة أكبر. هل من الحكمة الإستمرار في نهج الصدام والمغالبة وتأليب الخصوم على السلطة، ذات النهج الذي جعل التيار الإسلامي يخرج من مواجهة إلى أخرى على امتداد ما يقرب من أربعين عاما، مع خسائر وتضحيات جسيمة تكبدها أنصاره، وتكبدتها عائلاتهم، وتضررت منها بلادنا كلها؟ أم أن الوقت قد حان، ليقول الإسلاميون، بشجاعة وثقة بالنفس، إن نهج المغالبة والصدام غير مفيد للوطن، وغير مفيد للإسلام. وأن التنازلات القاسية التي تقدم لبعض الغلاة المتطرفين من حلفاء المرحلة قد تكون أضخم وأعلى تكلفة من التنازلات التي يتطلبها إصلاح ذات البين مع رئيس الدولة والحزب الحاكم؟ آمل أن يفهم أخي رضا وأخي مهاجر دوافعي ويحترما حقي في الإختلاف، من دون أن ينزلق أي منا للتفتيش في قلب من يخالفه الرأي والتشكيك في نواياه. أكثرنا زاد الشعر الأبيض في رأسه وأتيحت له الفرصة ليعيد قراءة تجارب الماضي ويتعلم منها ما لم يكن يقدر على تعلمه يوم كان في العشرينات من عمره. وإذا كان لابد من الإختلاف حول هذه الأفكار، فإنني أدعو وبإلحاح إلى أن يكون الخلاف حضاريا ومحتكما لآداب الإسلام وأخلاق نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. وأقول لكثير من الإخوة الذين يقولون لي مباشرة أو بالهاتف إنهم يشاطرونني الرأي الذي عرضته في هذه المقالة: إن كنتم جادين فيما تقولون فاكتبوا آراءكم علنا وتحملوا مسؤلياتكم عما تكتبون. تأييدكم الهاتفي لا يفيد كثيرا، أما مواقفكم المعلنة فقد يكون لها أثر مباشر على نتيجة هذا الحوار وعلى فرص تحقيق الهدف المنشود منه. إن هدفي الذي أسعى إليه، وأطلب علنا وبإلحاح من الرئيس بن علي ومن كثير من التجمعيين والإسلاميين تبنيه ونيل شرف تحقيقه، هو إعادة التأسيس لعلاقة جديدة بين التيارات الإسلامية المعتدلة والسلطة في تونس، وبين هذه التيارات والتجمع الدستوري الديمقراطي. علاقة تقوم على الإحترام المتبادل، والتعايش السلمي، والتعاون على البر والتقوى كإخوة في الدين والوطن. قد يبدو هذا الهدف اليوم بعيدا بعد السماء عن الأرض. لكنه هدف صحيح دون شك، وممكن التحقيق. وهو هدف خيّر ونبيل، فيه مصلحة الوطن ومصلحة الإسلام. أخي رضا، أخي مهاجر: لو أردت أن أصف لكما أثر هذا الهدف، هذا الأمل، هذا الهاجس، على حياتي كلها، لما استطعت. ها أنذا أجوب الدنيا بطبيعة مهنتي، وألتقي قادة العالم وعلماء الأمة ومفكريها، وأزور أجمل الأماكن. لكنني مسكون بهذا الأمر في كل حين. حتى عندما أحاول أن أنسى، لا أستطيع أن أنسى. تعتريني دوافع اليأس أحيانا لكنني أواجه نفسي بتوجيه القرآن الكريم في معاداة اليأس ونبذه. وأقول لنفسي مرات في لحظة غضب: من لي بطبيب ينزع هذا الهاجس من قلبي؟ ثم أدرك أن الأمر مستحيل، وأنه قدري وقدر كل تونسي مر مثلي من ذاك الطريق. اختلفا معي ما طاب لكما الخلاف، فسأحترم رأي كل منكما، وقد نتفق مستقبلا أو لا نتفق، لكن لنتعاهد على إحسان الظن بعضنا ببعض، والتماس العذر بعضنا لبعض، ولنقبل على الأمر بروح الباحث عن الحقيقة، لا المتعصب لرأيه صائبا كان أم مخطئا. وإذا راودت أحدكما مرة فكرة التشكيك في ديني أو وطنيتي فتذكرا رعاكما الله أنني ممن تحملوا مسؤولية قناعاتهم، وممن عرف السجن والمنفى، وممن حاور وصادم، وممن لو أراد الربيع لنفسه وحده لكان له نهج آخر ومبادئ أخرى. كتبت هذه الفقرة مضطرا مستغفرا، لكن ألجأني إليها ما يكتبه بعض المتنطعين أحيانا من المتخصصين في تجاهل أقدار الرجال، ولستما من هذا الصنف إن شاء الله. ولكم أنتم يا سيادة الرئيس زين العابدين بن علي ويا إخوتي في التجمع الدستوري الديمقراطي أقول الآتي: لقد ذكرت في هذه المقالة بعض محاسنكم، وأزيد فأقول إن في رصيدكم أكثر منها مما يستحق الذكر والإشادة. ولي على مسيرتكم تحفظات ومؤاخذات لم أكتبها، لأنني أفضل أن أعرضها عليكم عندما تتاح الفرصة في حديث مباشر، ولأنني أخشى أن يؤدي عرضها إلى التشويش على الهدف الرئيس لهذه المقالة. لذلك أتحمل انتقادات المنتقدين وأكتفي بعرض الإنجازات دون المؤاخذات، آملا أن يساهم ذلك في فتح أبواب أوسع وفرص أوفر للتفاهم والتقارب. وأضيف فقرة واحدة في سياق مخاطبة سيادة الرئيس بن علي وكبار مساعديه من قادة التجمع الدستوري الديمقراطي: تذكروا حفظكم الله أن ألد مخالفيكم في الرأي هم أيضا تونسيون. وأنه ليس حتما أن يؤدي الإختلاف إلى التنافي والإقصاء. وأن الله تعالي حث على العفو والتسامح والتغافر بين المؤمنين، وقال: "وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟" وأكد مبدأ الأخوة بينهم فقال وهو العزيز الحكيم: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم" أيها الأصدقاء على ضفتي وادي القطيعة والجفاء: ما أجمل أن يضمنا الربيع التونسي الجميل جميعا بيده الحانية، فننعم بأنسامه وألوانه وأنغامه الرائعة الفاتنة، أسرة واحدة متماسكة اسمها تونس الجميلة. لندن: فجر التاسع من أبريل 2007