أكتب هذه المقالة تعليقا على فقرة وردت في حديث الشيخ راشد الغنوشي حفظه الله ورعاه، للأخ الهادي بريك حفظه الله ورعاه، نصها ما يلي: " عندما تتوفر حتى مجرد شروط الحد الادنى للمصالحة لن يعيقها آنئذ سبب تافه من مثل إفتراض تعطل وصول رسالة أو جهاز هاتف..ولن تكون محتاجة إلى وسايط ، وعلى افتراضها،ينبغي أن يكون ذا مصداقية غير مطعون فيه ولا متهما من أحد الطرفين أو كلاهما. وتلك جزئيات". (انتهى النقل عن الشيخ راشد حفظه الله) أقول للشيخ راشد، مع كل الإحترام والتقدير، إن في هذه الجملة مكابرة لا مبرر لها، وأرجو منه أن يؤوب إلى الحق في هذا الموضوع ويغير من أسلوب تناوله له. أرغب في أن أذكر السادة القراء بحيثيات هذا الموضوع، ناقلا مما تحدثت به للأخ الطاهر العبيدي، في حوار صحفي نشر قبل أسبوعين. الحديث هنا يدور حول جهودي لتسوية ملف الحركة الإسلامية عامي 1998 و1999: قلت آنذاك ما يلي: "كانت تلك المبادرة في رأيي فرصة ذهبية لإصلاح ذات البين بين السلطة والإسلاميين في تونس. الرئيس بن علي تجاوب معي لأبعد الحدود، وأبدى استعداه لحل جذري للمشكلة. جزاه الله عني خير الجزاء. كنت طلبت أن أتشرف بمقابلته بمناسبة الذكرى العاشرة لتغيير السابع من نوفمبر، فاستقبلني في 12 سبتمبر 1998. رويت في مناسبات سابقة أن رئيس حزب سياسي قانوني معروف حذرني بأنني لن أخرج سليما من قصر قرطاج إذا فاتحت الرئيس في شأن تسوية ملف الإسلاميين. لكنني فعلت، وحدثت الرئيس بكل صراحة عن أهمية معالجة هذا الملف وتسويته. تحدثت مع الرئيس بن علي أيضا في شأن السياسة الدينية، وفي شأن السيد خميس قسيلة والدكتور محمد مواعدة وكانا سجينين آنذاك، وفي شأن السيد محمد مزالي والدكتور أحمد القديدي. أثمرت المقابلة الأولى قبولا عمليا بإعادة النظر في ملف الإسلاميين. تم تسهيل عودة عدد منهم ورفع أحكام المراقبة الإدارية عن عدد آخر. وفي مساء 28 أكتوبر 1999، حصلت من الرئيس بن علي، في حديث مباشر معه، على وعد بتسوية ملف الإسلاميين قبل أدائه قسم الولاية الرئاسية الجديدة في 15 نوفمبر 1999، بصيغة حزب سياسي أو جمعية دينية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء قيود الرقابة الإدارية على المعتقلين السابقين. قلت للرئيس بن علي إنني سأسعى لأن تصله رسالة مباشرة من قيادة حركة النهضة قبل 15 نوفمبر. وطلبت منه التكرم باتخاذ بعض الخطوات التي تيسّر دفع هذه المساعي فوعدني خيرا. اتصلت هاتفيا في ذات المساء بالشيخ راشد الغنوشي فقيل لي إنه غير موجود. تحدثت مع اثنين ممن عملا معي في قيادة الإتجاه الإسلامي في الجامعة. دعوتهما إلى بيتي في ذلك المساء وطلبت منهما عرض الأمر على قيادة حركة النهضة بأسرع وقت. لكن لم يصلني أي جواب. تم إطلاق سراح قرابة سبعمائة سجين يوم 5 نوفمبر 1999، وأعلنت عن ذلك شخصيا من الدوحة في برنامج "حصاد اليوم" على شاشة قناة الجزيرة. وكان يحاورني آنذاك الأستاذ جمال ريان. كما أعدت تقديم العرض الذي وعد به الرئيس بن علي وطالبت الإسلاميين بالتجاوب واغتنام الفرصة. في اليوم الموالي ظهر الشيخ راشد في برنامج "حصاد اليوم" مع الأستاذ محمد كريشان، وهنا أحيي الرجلين وأدعو لهما بالتوفيق. الشيخ راشد أكد خبر الإفراج عن المعتقلين، لكنه قال إنهم خرجوا من السجن الأصغر إلى السجن الأكبر، وتحدث في الحوار كله على هذا النحو السلبي. كنت أرجو أن يقول الشيخ راشد ما خلاصته إنه يرى في هذا الإفراج خطوة طيبة في الإتجاه الصحيح، وأنه يرحب بها، وأنه مستعد للتباحث مع الحكومة التونسية مباشرة في كل ما من شأنه تسوية هذا الملف وتعزيز الوفاق الوطني. جملة واحدة تفتح الباب لمشاورات مباشرة، من دون وسيط، بين السلطة وحركة النهضة. لكن اللهجة كانت لهجة معارض غاضب يريد اغتنام الدقائق القليلة المتاحة في حصاد اليوم لتسجيل نقاط ضد السلطة. وتلك أيضا كانت اللهجة التي سادت في برنامج "الإتجاه المعاكس" بيني وبين الشيخ راشد يوم 26 أكتوبر 1999. كنت أدعو الله أن يلهمه قول ما يزيل الحواجز بينه وبين الرئيس بن علي، وما يزيل الحواجز بين حركته والسلطة. كنت آمل أن يقول: ما دام هناك حديث عن العفو والمصالحة، فأنا أرحب بهذا التوجه، وأدعمه، وأعرب عن استعدادي لبحث تفاصيله مع السلطات التونسية مباشرة. ربما كان الإعلامي المتألق الدكتور فيصل القاسم سيخسر حدة المواجهة التي تميز برنامجه الأسبوعي المشهور. لكن تونس كانت ستكسب كثيرا من مثل هذا التوجه الوفاقي. للأسف، حصل العكس، وضاعت الفرصة". (انتهى النقل) * * * أين أنتم يا أهل الإنصاف؟ * * * أريد من كل المنصفين والعقلاء أن يتدخلوا في هذا الأمر. بما أن كل التونسيين يعرفون أن الشيخ راشد حفظه الله ليس معصوما عن الخطأ. وبما أنهم يعرفون أن رئيس أي حزب سياسي يجب أن يتحمل مسؤولية خياراته وقراراته. فإن من حق التونسيين جميعا، ومن حق المساجين الإسلاميين آنذاك وعائلاتهم بشكل خاص، أن يعرفوا: لماذا أعرض الشيخ راشد عن التعاطي مع تلك الإشارات المشجعة من السلطة عام 1999؟ ولماذا عمل لإفشال مساعي الصلح آنذاك بكل وضوح، كما نقلت من شهادة الأخ صلاح الدين الجورشي في وقت سابق؟ أطلب من كل المهتمين بهذا الموضوع من التونسيين، ومن إخوتي مناضلي حركة النهضة بوجه خاص، أن يفهموا أبسط أساسيات الموضوع. كاتب هذه السطور لم يكن وسيطا بين السلطة والإسلاميين كما يفهم من حديث الشيخ راشد. وقد قلت مرات عديدة، وأكرر اليوم مرة أخرى: لا أريد أن أكون وسيطا بين السلطة وحركة النهضة. الأمر الثاني: الرئيس بن علي لم يكن يبحث آنذاك عن وسيط مع حركة النهضة. اللقاء الذي جرى بيني وبينه كان بطلب مني وليس بطلب منه. والحديث عن ملف الإسلاميين كان فكرتي، وكان مغامرة خطيرة مني. وكان بوسعي تجاهله، والحديث عن موضوعات أخرى عامة أو شخصية. موضوع العفو الرئاسي عن المعتقلين الإسلاميين، وتسهيل عودة عدد من المنفيين، وإصدار جوازات السفر لبعض الإسلاميين، كل تلك مطالب رفعتها وقدمتها للرئيس بن علي. وقد تعامل الرئيس في كل هذه الأمور بأريحية تستحق الثناء والتحية والتقدير. طلبت مقابلته، فوافق. جزاه الله خيرا. فتحت معه ملف الإسلاميين فاستمع لي وتجاوب معي بقدر معقول منذ البداية. ثم عندما تحادثت معه في 28 أكتوبر 1999 وطلبت منه بإلحاح طي الملف بمبادرة كريمة منه وافق على تسويته بمنح الإسلاميين حزبا سياسيا وجريدة، أو جمعية دينية وجريدة، مع حل مشكلة المعتقلين والخاضعين للرقابة الإدارية. يا ساسة تونس. يا كتاب تونس. يا أبناء حركة النهضة التونسية: الظروف المحلية والدولية آنذاك كانت مواتية تماما للصلح. كلينتون كان في البيت الأبيض. والديمقراطية تتقدم في العالم. والرئيس بن علي في ظروف مريحة، يشعر بالنصر وبالأمان الكاملين. والنصيحة التي قدمتها له كانت نصيحة صادقة مخلصة، فيها فوائد عظيمة له وللوطن. فقبلها وتحمس لها. أعود بكم إلى السؤال. أسأل أي تونسي يقرأ هذه المقالة. لو كنت رئيسا لحركة النهضة عام 1999، وأبلغك مساعدوك أن الرئيس بن علي تحدث مع فلان أو فلان عن استعداه لحل مشكلة الحركة وتسوية ملفها بحزب سياسي أو جمعية دينية. هل كنت ستتصرف مثل الشيخ راشد: أي أنك ستتجاهل الموضوع تماما كما فعل؟ ثم أسألكم بالله جميعا يا قراء هذه المقالة. هل تصرف الشيخ راشد التصرف الصحيح بعد إعلاني يوم 5 نوفمبر إطلاق سراح سبع مائة معتقل من الإسلاميين التونسيين؟ ألم يكن بوسعه أن يرحب بهذه التطورات ويطلب التفاوض المباشر مع الحكومة التونسية من دون وسيط؟ الشيخ راشد يستحق كل الإحترام ويستحق كل التقدير. وهذا لا يمنع تحميله المسؤولية الشخصية المباشرة عن ضياع فرصة الصلح والوفاق عام 1999. ربما يقول قائل: الحكومة التونسية كانت ستنقلب على تلك الوعود. ذلك غيب لا نعرفه، وخيار فوّت الشيخ راشد على التونسيين فرصة التأكد منه بتجاهل العرض وإفشاله عمدا. إنني أعرف السبب الأرجح لامتناع الشيخ راشد عن التعاطي مع ذلك العرض، وأتكهن بأنه الموقف السلبي جدا من كاتب هذه السطور. لكن السياسة لا تقوم على البغض والحقد. أسأل كل واحد فيكم يا إخوتي قراء هذه المقالة: لو كان أحدكم رئيسا لحركة النهضة آنذاك، وجاءه عرض مماثل بتسوية الملف، نقله ألد أعداء حركة النهضة في تونس، هل كنتم ستتعاملون معه بالتجاهل والرفض الكاملين كما فعل الشيخ راشد؟ أعتقد أن 99 بالمائة منكم سيقولون: لو سمعنا بمثل هذا العرض نقلا عن ألد أعداء النهضة لتحرينا عنه وتفاعلنا معه بكل اهتمام. ولو كنا محل الشيخ راشد الغنوشي على قناة الجزيرة يوم 6 نوفمبر لأثنينا على عملية إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين وطلبنا البناء عليها وتأسيس عملية تفاوض مباشرة مع السلطة لتسوية الملف. كنتم ستفعلون ذلك من أجل المستقبل، ومن أجل ألوف المعتقلين آنذاك، وعائلاتهم. لكن الشيخ راشد لم يفعل. والذين كانوا معه في قيادة النهضة في الخارج لم يفعلوا. ومن أجل تطوير التقاليد السياسية في بلادنا، اقترح عليهم ترك المكابرة وتقديم نقد ذاتي علني يبين أنهم لا يرون لأنفسهم عصمة سياسية، وأنهم لن يضيعوا مثل تلك الفرصة أن أتيحت لهم من جديد. * * * من أجل المستقبل * * * لماذا نحتاج جميعا لترك المكابرة؟ الجواب: مع أن عرض عام 1999 فرصة نادرة يحتمل كثيرا ألا تتكرر، فإن تقلبات السياسة عجيبة، وقد تتاح لبلادنا عامة وللإسلاميين خاصة، فرصة جديدة. كيف نضمن جميعا ألا تضيع مرة أخرى بسبب مشاعر الكره وسوء الظن أو الحسابات السياسية الخاطئة لموازين القوى؟ المستقبل يهمنا جميعا، ونحتاج لرؤى جديدة في التعامل معه من أجل معالجة هذه المعضلة الكبرى، معضلة استمرار علاقة الصدام والقطيعة بين السلطة والإسلاميين. أما الماضي فأقل أهمية بكثير. أهميته في الإعتبار به والتعلم منه. وتكمن أهميته أيضا في بيان الحق وتوضيحه عن تلك الفترة من تاريخ تونس. عندما ألقى رفاقي السابقين من حركة النهضة، اليوم وغدا، فإنني أقول لهم: حتى في أشد أوقات العداوة والخصومة، بذلت كل ما في وسعي دفاعا عن حرياتكم، لأنكم أهلي وإخوتي. وعلى مدى العقدين الماضيين، لم يبذل تونسي أو عربي ما بذلته من أجلكم ومن أجل طي صفحة الصدام بينكم وبين السلطة. وأتعهد اليوم من جديد، أمام قراء هذه المقالة، وقبل ذلك أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أنني لن أتخلى أبدا، أبدا، أبدا، عن السعي لتسوية هذا الملف، وتحرير بلادنا من آثار سياسة الصدام والمواجهة بين السلطة والتيارات الإسلامية المعتدلة، ومن أجل أن يحتضننا جميعا ربيع تونس الجميل الحاني، مواطنين متآخين متضامنين في بلد البحر والجمال وزيت الزيتون. على الله توكلت، وبه أستعين، إنه نعم المولى ونعم النصير. * * * حاشية: أهدي السلام والتحية للمهندس محمد بن جماعة والأخ عبد الرحمان الحامدي، وأهنئهما على رقي الطرح وسمو اللغة والأدب الرفيع الذي ينضح مما كتباه ويستحق أن يكون مثالا يحتذى بين المساهمين في هذا النقاش. إنهما يغرفان من إناء الخلق الرفيع، وقد مضى في الأمثال: كل إناء بما فيه ينضح. آمل أن أرد قريبا على تساؤلات الأخ عبد الرحمن، وأقول لأخي محمد بن جماعة: بارك الله فيك وجزاك عني كل خير.