تعيش الساحة الفلسطينية أزمة كبيرة، هذا ما أكدته مسيرة الأحداث منذ مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية في 15 كانون الثاني 2006، التي حملت «حماس» إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية. فقد تزايدت الاشتباكات بين الحركتين الرئيستين في الساحة الفلسطينية حماس وفتح، المتنافستين على السلطة، والعاجزتين عن تحديد المساحات المشتركة وميادين التعاون الممكنة. وبدلاً من الشروع في تطبيق الاتفاق على التهدئة ووقف إطلاق النار وسحب المسلحين من الشوارع برعاية الوفد الأمني المصري المقيم في غزة، انزلق الوضع في قطاع غزة بسرعة إلى مربع الاقتتال والتحريض المتبادل والاستقطاب الثنائي، واندلعت اشتباكات دامية بين حركتيْ حماس وفتح استمرت حتى الساعات الأولى من فجر يوم الأحد، مخلّفةً عشرات القتلى والجرحى، وأكثر منهم من المخطوفين، ما ينذر بإمكانية الانجراف نحو الحرب الأهلية، ولا سيما في ظل تقسيم المناطق إلى مربعات أمنية أُقيمت فيها الحواجز التي تفتش السيارات وتعتقل كل من ينتمي أو تعتقد أنه ينتمي إلى الجهة المضادة. وعلى رغم إبرام اتفاق مكة، وتأليف حكومة الوحدة الوطنية، والحصار المستمر على قطاع غزة، فإن الاقتتال الفلسطيني تجدد في قطاع غزة المحاصر، وأصبح سيفاً مسلطاً بيد الاحتلال الصهيوني والقوى الخارجية الداعمة له، بهدف إخضاع القيادات الفلسطينية للمخطط الأميركي الصهيوني الذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية.. وإذا كانت المحرضات الخارجية للاقتتال متوقعة ومفهومة من أطراف الاصطراع الفلسطيني، فإن استمرار تشبّث هذه الأطراف بعصبياتها وأجنداتها التنظيمية حد المخاطرة بالحرب الأهلية لا يزال هو العامل الذاتي الأخطر الذي يفتح الثغرة الأوسع للتدخل الخارجي في الشأن الداخلي لمنع الوفاق الوطني. إلى جانب الاقتتال الداخلي، يتعرض قطاع غزة لعدوان صهيوني جديد، حيث كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» في تقرير موسع نشرته في ملحقها الأسبوع الماضي أن إسرائيل قررت استخدام مصطلح جديد لتغليف جرائم الاغتيالات بمصطلحات ملطّفة، من خلال «غسالة كلمات» استبدلت فيها ب«الاغتيال» عبارة «العملية الوقائية المانعة». وتطرقت الصحيفة إلى قرار الحكومة الصهيونية الأحد المنصرم الذي صادقت فيه على استئناف عمليات الاغتيال، ولفتت إلى أن الشاباك بحسب القرار يقدم قوائم المرشحين للاستهداف التي تشمل من 10 إلى 20 اسماً في كل مرة. ويقوم رئيس الوزراء نفسه بموجب الصحيفة بإصدار القرار الأخير لإخراج عملية الإعدام إلى حيز التنفيذ في كل مرة بعد إعداد «لائحة اتهام» والتشاور مع طاقم محامين، موضحة أن الاحتلال ينفذ خمس ست عمليات قصف جوية يومياً، تستهدف معسكرات تدريب ومخارط ومخازن صواريخ وخلايا مطلقيها في قطاع غزة. وأوضحت الصحيفة أن الاحتلال لم يتمكن من ضرب المقاومة على رغم عمليات الاغتيال الكثيرة منذ اندلاع الانتفاضة، منوهة الى وفرة أعداد الناشطين والمقاومين. وأضافت «من أجل وقف طوفان الاستشهاديين قرر الجيش ضرب القيادات العسكرية بحثاً عن نقاط الضعف وقطع سلسلة القيادة بعدما توصل إلى استنتاج بأن المقاومة مبنية من تنظيمات هرمية». ويواصل الكيان الصهيوني عملية تهويد مدينة القدس، إذ رصد 1،5 مليار دولار لتوسيع الاستيطان وإنشاء حزام من المستعمرات يحيط بالمدينة، إلى جانب مخطط أنفاق متشابكة تحت جميع أحياء البلدة القديمة حيث وصلت الحفريات إلى جدران المسجد الأقصى وتحت أساساته، ولا سيما في الجهتين الجنوبية والغربية. ولا تزال أعمال الحفر جارية في باب المغاربة منذ الرابع من شهر شباط الماضي، وقد بدأت بإزالة تلة تحمل معالم حضارية وإسلامية في مسعى لتوسيع منطقة حائط البراق الذي يطلق عليه الصهاينة زوراً وبهتاناً «حائط المبكى». إضافة إلى كل ذلك، هناك مشروع استيطاني جديد في حي السلوان، فيما بلغت البؤر الاستيطانية في القدس القديمة نحو مئة، بين بيت وحي وحارة وأسطح لمنازل عربية، إلى جانب حارة الشرف (116 دونماً) التي صودرت بالكامل، وحي المغاربة. وبعد مرور أكثر من ثلاث عشرة سنة على اتفاقات أوسلو، تعمّقت الهوة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وأصبح ما يسمى السلام أبعد منالاً إلى هذه الدرجة. فعمليات القمع ضد الفلسطينيين بلغت أوجاً لم تبلغه من قبل، ويحمل إليهم كل يوم جديد نصيبهم من القتلى والجرحى والمنازل المدمرة والحقول المخربة. وتقوم طائرات صهيونية مقاتلة وسط الاقتتال الفلسطيني، بقصف مواقع حساسة لحركة حماس موقعة عشرات القتلى والجرحى، وتصرح في الوقت نفسه، بأنها تدعم السلطة الفلسطينية. وهي في الحقيقة لا تدعم أحداً، سوى سلطة الاحتلال، وتقوية فرص استمراره، بزيادة فرص اشتداد الاقتتال الفلسطيني، من طريق إثارة المزيد من الشكوك والريب. بعدما انقضى في الخامس عشر من أيار 2007، تسعة وخمسون عاماً على قيام الدولة الصهيونية في فلسطين، يجدر بالقوى العربية التي ما زالت تعتبر أن الصراع مع العدو الصهيوني صراع وجود، إما أن ينتفي فيه الوجود العربي أو ينتفي الوجود الصهيوني، وهذا الصراع من النوع الذي لا يعرف الرماديات أو التدرج بين الأسود والأبيض، بحكم أن الكيان الصهيوني رأس رمح متقدم للإمبريالية الأميركية لا يعرف سوى العدوان والإرهاب فلسفةً ومنهجاً... يجدر أن تقف في هذه المناسبة وقفة مراجعة جادة، تعينها على دراسة التجربة، وتحديد عوامل القوة في الموقف الصهيوني، والخلل في الموقف العربي. وهنا نرى من الضروري أن نبدي الملاحظات التالية: أولاً: إن العدو الصهيوني حقق حتى الآن الأهداف التالية: قيام الدولة في 15/5/1948، وانتزاع الاعتراف الدولي، وبناء القوة اللازمة لاحتلال كل فلسطين وسيناء والجولان (1967)، ويعمل العدو الآن على فرض «السلام الأميركي الصهيوني» على كل العرب، ويمكن القول إنه حقق نجاحات في الميادين التالية: توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع النظام المصري، وتوقيع اتفاقية أوسلو مع قيادة عرفات، وتوقيع اتفاقية وادي عربة مع النظام الأردني، وجرّ أكثرية الأنظمة العربية إلى التطبيع معه، وفرض سياسة التسوية الاستسلامية على العقل السياسي العربي. ولم يبق الآن إلا تنفيذ هذه السياسات عملياً، التي حقق فيها العدو الصهيوني نجاحات كبيرة، لجهة كسب الاعتراف العربي الرسمي به، بعد الاعتراف به دولياً. ثانياً: يساعد وضع الوطن العربي، الآن، العدو الصهيوني على مواصلة تنفيذ سياساته. ثالثاً: إن المقاومة الفلسطينية التي بدأت سنة 1965 على أساس انتهاج نهج التحرير، وإسقاط سياسات التسوية، تحولت في معظمها منذ 1970، باستثناء بعض قوى الرفض، إلى انتهاج السياسات الرسمية العربية عينها، وتبنّت نهج التسوية. وفضلاً عن ذلك، فإن اتفاق أوسلو هو إدارة الحكم الذاتي الذي لا يستقيم إلا في ظل هيمنة صهيونية شبه مطلقة، وهذا الاتفاق الذي يشكل استجابة كبيرة للإملاءات والشروط الصهيونية بضم القدس، والتغاضي عن المستوطنات، وإعطاء الأولوية للكيان الصهيوني لكي يحدد المناطق الأمنية. رابعاً: إن اتفاق أوسلو الذي قبلت به السلطة الفلسطينية على أساس الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني وشرعية اغتصابه فلسطين، يسلم بشرعية وجود الكيان الصهيوني على أكثر من 80% من فلسطين. ففي مسألة تحديد مساحة الوطن الفلسطيني الموجود بين أيدي سكانه الأصليين من الفلسطينيين، سنجد هذه المساحة تنحدر من 100%، قبل عام 1948، الى 44% في قرار التقسيم الصادر سنة 1947، ومن ثم الى 22% فقط في أكثر عروض التسوية السياسية سخاء، منذ مرحلة ما بعد اتفاقيات أوسلو، علماً بأن هذه المساحة كانت (قبل عام 1948) ملكاً خالصاً لشعب فلسطين، على رغم وجود الانتداب البريطاني الذي كان يفترض أن يرحل ذات يوم، وقد فعل ذلك فعلاً عام 1948 (ولكن بعد تسليم الدفة عملياً للقائمين على مشروع إنشاء دولة إسرائيل). بينما نجد مساحة 22% من فلسطين، المعروضة حالياً، هي مجرد وعد نظري لا وجود لأي ضمان سياسي أو قانوني يستند إليه (سوى قرارات دولية معطلة منذ عشرات السنين)، وتقع تحت نير احتلال يقوم عملياً بقضم ما أمكن من هذه المساحة الجغرافية، وتقطيع أوصالها، وتحويلها إلى جزر صغيرة منعزلة جغرافياً وسكانياً، بعضها عن بعض. خامساً: في الواقع ترفض إسرائيل الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، على رغم أنها هي المتسبب الرئيس والأساس في عملية اقتلاع شعب من أرضه، وتشريده في مختلف البلدان العربية المجاورة. بيد أن الشعب الفلسطيني، حتى لو أقر بقبول تسوية للقضية الفلسطينية، يرى وجوب أن تفضي هذه التسوية إلى تطبيق قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 الذي كان يجري تأكيده سنوياً منذ عام 1948، والذي ينص صراحة وبالتحديد على «السماح لمن يرغب من اللاجئين في العودة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن والعيش بسلام مع جيرانهم». ماذا يبقى لو تم التخلي عن حق العودة؟ في الواقع ستتحول القضية الفلسطينية التي يمثل حق العودة جوهرها، إلى مجرد قضية إنسانية تعنى بها المنظمات غير الحكومية لا كقضية وطنية لشعب شُرّد من أرضه. ولو افترضنا أن العرب وافقوا على التطبيع والتخلي عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، فهل يضمن لهم أن إسرائيل ستنسحب من الضفة الغربية والجولان وما بقي من الأراضي اللبنانية وتقبل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة؟ الأميركيون والصهاينة يعرّفون السلام بأنه تسوية تنهي المطالبة العربية بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في استرداد أرضه السليبة، ويطرحون على «الدول العربية المعتدلة» إقامة محور على مستوى منطقة الشرق الأوسط تكون إسرائيل مركزه، يقف في وجه إيران وسوريا وحزب الله وحركتيْ حماس والجهاد الإسلامي. وهكذا تنضاف المبادرة العربية إلى مبادرات السلام الأخرى الضائعة في الشرق الأوسط، فيما تتعرض القضية الفلسطينية للتصفية المتدرجة والصريحة، بآليات متنوعة، تتحرك من الداخل والخارج، وبقوة ضغط هائلة ومتعددة المصادر. * كاتب تونسي -أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني .