ماذا في لقاء وزير الخارجية بعدد من الكفاءات التونسية بالسينغال؟    لأجل غير مسمى.. إرجاء محاكمة ترامب بقضية "الوثائق السرية"    كوريا الشمالية: وفاة "مهندس تقديس الأسرة الحاكمة"    محرز الغنوشي: رجعت الشتوية..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    البنك المركزي: ارتفاع عائدات السياحة بنسبة 8 بالمائة موفى شهر افريل 2024    مدنين: الجهة قادرة على توفير حاجياتها من أضاحي العيد وتزويد جهات أخرى (رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة)    البرلمان يصادق على تنقيح القانون المتعلق بمراكز الاصطياف والترفيه لتشمل خدماتها فئات جديدة من الأطفال ذوي الهشاشة    جراد: الخونة والعملاء الذين تٱمروا على أمن الدولة يريدون استغلال ملف الهجرة لإسقاط قيس سعيد    سليانة: السيطرة على حريق نشب بأرض زراعية بأحواز برقو    الجزائري مصطفى غربال حكما لمباراة الترجي الرياضي والاهلي المصري    المرحلة التاهيلية لكاس الرابطة الافريقية لكرة السلة: الاتحاد المنستيري ينقاد الى خسارته الثالثة    دورتموند يفوزعلى باريس سان جيرمان ويصل لنهائي أبطال أوروبا    وزارة التربية تقرر تنظيم حركة استثنائية لتسديد شغورات إدارة المدارس الابتدائية بمقاييس تضمن الانصاف    أمطار أحيانا غزيرة بالمناطق الغربية وتصل الى 60 مم خاصة بالكاف وسليانة والقصرين بداية من بعد ظهر الثلاثاء    لإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه وبحوزته مخدرات    سيدي حسين: القبض على منفذ عملية براكاج لمحل بيع الفواكه الجافة    فرقة "مالوف تونس في باريس" تقدم سهرة موسيقية مساء يوم 11 ماي في "سان جرمان"    وفاة المذيع والكاتب برنارد بيفو عن عمر يناهز 89 عاما    وزير السياحة: اهتمام حكومي لدفع الاستثمار في قطاع الصناعات التقليدية وتذليل كل الصعوبات التي يواجهها العاملون به    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    الخارجية المصرية.. لا يمكن أن تستمر الانتهاكات الإسرائيلية دون محاسبة    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    باجة .. سفيرة كندا تبحث امكانيات الاستثمار والشراكة    اتحاد تطاوين.. سامي القفصي يعلن انسحابه من تدريب الفريق    الليلة في أبطال أوروبا ... هل يكسر بايرن مونيخ شفرة ملعب ريال مدريد؟    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    عاجل/ طلب عروض لإيواء مهاجرين بنزل: بطاقة ايداع ضد رئيس جمعية ونائبه    بنزرت: تنفيذ 12 قرار هدم وإزالة لمظاهر التحوّز بالملك العمومي البحري    ولاية رئاسية ''خامسة'' : بوتين يؤدي اليمين الدستورية    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    نحو صياغة كراس شروط لتنظيم العربات المتنقلة للأكلات الجاهزة    من الحمام: غادة عبد الرازق تثير الجدل بجلسة تصوير جديدة    المتلوي: حجز 51 قطعة زطلة بحوزة شخص محل 06 مناشير تفتيش    هام/ الليلة: انقطاع المياه بهذه المناطق في بنزرت    عاجل : صحيفة مصرية تكشف عن الحكم الذي سيدير مباراة الاهلي و الترجي    قريبا: وحدة لصناعة قوالب ''الفصّة'' في الحامة    ليبيا تتجاوز تونس في تدفقات الهجرة غير النظامية إلى إيطاليا في 2023    انقلاب "تاكسي" جماعي في المروج..وهذه حصيلة الجرحى..    عرض الكرة الذهبية لمارادونا في كأس العالم 1986 للبيع في مزاد    سليانة: تخصيص عقار بالحي الإداري بسليانة الجنوبيّة لإحداث مسرح للهواء الطلق    تونس تسيطر على التداين.. احتياطي النقد يغطي سداد القروض بأكثر من ثلاثة اضعاف    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك: "أرباح القصابين تتراوح بين 15 و20 دينار وهو أمر غير مقبول"    فتوى تهم التونسيين بمناسبة عيد الاضحى ...ماهي ؟    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    الكشف عن وفاق إجرامي قصد اجتياز الحدود البحرية خلسة    حوادث: 13 حالة وفاة خلال يوم واحد فقط..    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    أولا وأخيرا .. دود الأرض    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحق في الصحة: محاولة استقراء للمفاهيم في الواقع العربي
نشر في الوسط التونسية يوم 13 - 04 - 2006


تساؤلات؟؟
عندما طلب إلي إعداد مداخلة عن المفاهيم والممارسات لموضوع غاية في الأهمية إلا وهو الصحة كحق من حقوق الإنسان في المنطقة العربية، تراءت لي أكثر من صعوبة منهجية. فمن نافل القول أن الثقافة الشعبية لم تعتد بعد على هذه المسلَمة، كونها اكتشفت عيادات الأمومة والطفولة والمعالجة المجانية والضمان الصحي وغير ذلك قبل اكتشاف العلاقة بين حقوق الإنسان والصحة، حتى لا أقول قبل حقوق الإنسان. فهل يمكن والحالة كذلك طرح السؤال عن تشريع محلي يعتبر الصحة من حقوق الإنسان ودستور معظم الدول العربية لا يتضمن تعبير حقوق الإنسان؟ هل يمكن إعداد استراتيجيات عمل تنطلق من الالتزامات الدولية التي تتناول حق الصحة (كالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والسياسية والثقافية واتفاقية حقوق الطفل مثلا) وفي معظم الدول العربية لم تتم أقلمة الدستور والقوانين مع الالتزام الدولي بشكل عام؟ هل يمكن أن ننسى حالة الفصام الواقعة بين القرار والممارسة، بين القانون والواقع، بين الالتزام بنص حقوقي وتطبيقه في هذه المنطقة من العالم؟
ما يعقَد الأمر هو تداخل عوامل لا حصر لها في مفهوم حق الصحة: كالنظام العولمي، مستوى ونمط التنمية المجتمعي، معيشة الأفراد، وفرة العمل، شروط السكن، المفهوم المحلي للغذاء المناسب، توفر مياه الشرب الصالحة ووجود مرافق صحية الخ (1). مما تترتب عليه بالتالي مشاكل منهجية على الصعيد العالمي وليس فقط العربي.
لو رصدنا التوجهات الأساسية للعولمة التي ما زال اقتصاد السوق السمة الأقوى والأهم فيها، لتناول سؤالنا انعكاسات نسبية تأثير الدولة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على حق الصحة تحديدا ومكتسبات الناس في الضمان الصحي؟ عندما يطرح هذا السؤال بحدة في بلدان متقدمة اقتصاديا، هل يمكن إغماض العين عنه في الحلقة الاقتصادية الأضعف؟ أليس من المضحك أن يكون حق ملكية إنتاج الدواء أقوى من حق المريض في الدواء ؟ ألسنا بحاجة اليوم لرفع حق الملكية العلاجية في البلدان التي أصبح فيها حق الحياة على كف عفريت كما فعلت اليونسكو بالنسبة لحقوق الملكية المتعلقة بالمؤلفات العلمية للبلدان الفقيرة؟
* فيوليت داغر: رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان ودكتورة في علم نفس الذي تدرسه. لها كتابات في ميادين مختلفة.
صحيح أن مفهوم الصحة كمسؤولية وكحق للدولة والمجتمع يختلف من بلد لآخر، لكن كيف يمكن فهم أن تخصص الدول النفطية العربية للإنفاق على الصحة، على سبيل المثال لا الحصر، في أعلى نسبة لها 5،3% (حال المملكة العربية السعودية) في حين لا تقل نسبة الإنفاق هذه في أوربة الغربية (حيث يوجد عوامل لا حصر لها تسهم في حماية الصحة خارج الإنفاق الصحي) عن 8% وتبلغ في لبنان 11،8 % ؟ صحيح أن الإنفاق السنوي الأعلى للمواطن على الصحة في العالم العربي هو في دولة قطر (849 دولار)، لكنها بالمقارنة مع مستوى المعيشة فيها، تخصص وحسب 3،2% من دخلها القومي للصحة (2).
بعد هذه التساؤلات، لنا عودة لنقطة البدء علنا نستقرئ أسباب التأخر في الدولة والمجتمع في العالم العربي في تبلور حق الإنسان في الحماية الصحية.
عود على بدء
إذا كانت قوانين الصحة تعود إلى قدم القانون نفسه، لم تكن الصحة من الحقوق الأولى للإنسان في الأدبيات الكلاسيكية الغربية لهذه الحقوق. لقد ارتبط تعريف الحقوق الطبيعية بالملكية والحرية والمساواة والمقاومة. وسمى "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" في فرنسا حق الملك والأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد بالحقوق الطبيعية. لقد نشأ حق الصحة والضمان الصحي خارج المنظومة الفكرية الأولى لحقوق الإنسان، قادما من الأوساط النقابية والمهنية التي بدأت تطور برامج مطلبية تتناول ما نسميه اليوم بحق الصحة. وقد ضمّنت الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان فيما سمته "تكملة إعلان حقوق الإنسان والمواطن"(1936) حق الصحة في شرحها لمفهوم حق الحياة في المادتين الثانية والثالثة. ذلك باعتباره أول حق من حقوق الإنسان، يشمل حق الأم في الرعاية وحق الطفل في كل ما هو لازم لاستكمال تكوينه الجسدي والروحي(...) وحق الشيوخ والمرضى والعجزة في نظام الحياة الذي يتطلبه ضعفهم، وحق الجميع في الاستفادة من كافة وسائل الحماية التي يحققها العلم على قدم المساواة(3).
لعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو أول وثيقة عالمية الطابع نصت على حق الأشخاص في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والعناية الصحية وتأمين المعيشة في حال المرض (المادة 25).
لقد أثارت النقاشات الأولى لحق الصحة في العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية موضوع القدرة على احترام الدول لنص قابل للتحقيق. فجرى رفض المسودة التي طالبت بتأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية في حالة المرض واستبدلت بصيغة أكثر هلامية، حيث جاء في المادة 12 منه:
1-تقر الدول الأطراف في العهد الحالي بحق كل فرد في المجتمع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية،
2-تشمل الخطوات التي تتخذها الدول الأطراف في العهد الحالي للوصول إلى تحقيق كلي لهذا الحق ما هو ضروري من أجل:
(ا) العمل على خفض نسبة الوفيات للأطفال ومن اجل تنمية الطفل الصحية،
(ب) تحسين الجوانب البيئية والصناعية،
(ج) الوقاية من الأمراض المعدية والمتفشية ومعالجتها وحصرها،
(د) خلق ظروف من شأنها تأمين الخدمات والعناية الطبية في حالة المرض".
للأسف، توقفت العديد من المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان عند النص الذي أقر وكأنه مقدس، ناسية واجبها في النضال من أجل "تأمين الخدمات والعناية الطبية في حالة المرض" (دون ما سطرنا تحته من تحفظ للدول أصبح قاعدة). علما بأن العديد من دول العالم تجاوزت في مفهومها لحق الصحة نص العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يشكّل اعتراف القانون الدولي بحق الإنسان في بيئة سليمة تثبيتا للحق في الصحة، بما أن تلوّث البيئة هو اليوم من أهم عوامل تهديد الصحة. وقد ثبت الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان هذا الحق في المادة 24 وتوقف عند حق كل شخص في التمتع بأفضل حالة صحية بدنية وعقلية يمكن الوصول إليها (المادة 16). وقد تضمنت المادة نفسها تعهد الدول باتخاذ التدابير اللازمة لحماية صحة شعوبها وضمان حصولها على العناية الطبية في حال المرض.
لم يتطرق الميثاق العربي لحقوق الإنسان لحق الصحة إلا بإشارته لحق الشباب في أن تتاح له أكبر فرص التنمية البدنية والعقلية. في حين كان حق الصحة في إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام من أكثر الحقوق انسجاما مع النقاشات المعاصرة لهذا الحق في الوسطين بين الحكومي (الأمم المتحدة) وغير الحكومي. وتعتبر المادة 17 منه، من واجب الدولة والمجتمع حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق التي تحتاج إليها في حدود الإمكانات المتاحة. وتنص المادة نفسها على العلاج باعتباره من الحاجات الأساسية التي تكفلها الدولة.
من جانبه، نص ميثاق الطفل في الإسلام في المادة التاسعة منه على أن: "للطفل حق التمتع بأعلى مستوى صحي يمكن بلوغه، وله حق استخدام مؤسسات الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل".
من الضروري برأينا التوقف عند كل ما هو متقدم في النصوص والكتابات الإسلامية حول حق الصحة. من جهة، لأن هذا الحق لا يشكل موضوع اختلاف عند جمهور العلماء. وهو أيضا يعتبر مرجعية مقبولة وموثوقة عند أغلبية الذين يحتاجون للتجسيد الفعلي لحق الصحة في حياتهم. ويمكن القول أن السلطات السياسية قد قيدت ما يتعلق بالحقوق المدنية أو السياسية هنا أو هناك بنسبة أو بأخرى. لكنها لم تتوقف كثيرا عند حق الصحة بالمنع أو التقييد على صعيد وسائل التعبير المختلفة، حيث لا يستهدف شكل أو بنيان السلطة السياسية. وهنا يطرح السؤال: هل تم الاستفادة من هذه الميزة لخلق وعي عام بحق الصحة كحق إنساني؟ ألم يكن هناك أحيانا موقف غير مكترث بإمكانية ولوج مفهوم حقوقي أرقى وأشمل عبر إعطاء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام الأهمية التي تستحق؟
منذ إعلان طهران (1968) الذي نص في فقرته 13 على أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية غير قابلة للتجزئة، أصبح من المقبول به نظريا ما نصت المادة عليه. أي، "يستحيل التحقيق الكامل للحقوق المدنية والسياسية من غير التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية". لكن لم تستطع أهم المنظمات غير الحكومية اللامتخصصة من تحقيق الوحدة الجدلية بين الحقوق الخمسة (التي نضيف لها اليوم الحقوق البيئية). ويمكن القول أن العالم العربي قد حمل هذه المعضلة العالمية الطابع كغيره. فما زال الاهتمام بحق الصحة محدود بذوي الاختصاص المهني أو المجالي thematic، (مما انعكس على تجربتنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، حيث لم نوفق تماما في الربط بين الحقوق).
رغم تنامي الوعي العام بانتهاكات الحقوق السياسية والمدنية، لا زلنا في العالم العربي نعاني من مشكلة بلورة خطاب مقبول من الإعلام، مفهوم من المجتمع وقابل للترجمة من الحكومات فيما يتعلق بحق الصحة. فهذا الحق ليس أمنية أو رغبة أو برنامج في ذاته. ومن غير الممكن تجميده أو شمله بحالة الطوارئ أو نسيانه بمبدأ الأفضلية والأولوية. دخول الصحة في الوعي الجماعي كحق من حقوق الإنسان يعني بعث الثقة بضرورة تغيير الأوضاع الصحية اللا إنسانية في أماكن كثيرة من منطقتنا والعالم. وما من شك بأن المواطن الأوربي يشعر بنوع من الأمن الإنساني الحقيقي عندما يعلم بأن "الميثاق الاجتماعي الأوربي" ينص في المادة 11 على: "حق حماية الصحة" وفي المادة 13 على: "الحق في المساعدة الاجتماعية والصحية".
لعل من الضروري التذكير باستمرار بأن المواثيق الإسلامية لا تتعارض، كما نوهنا أعلاه، إن لم نقل تصب تماما في خطاب حقوقي متقدم في موضوع حق الصحة. الأمر الذي يجعل من هذا الانسجام بين الثقافة المحلية والثقافة الحقوقية عنصر تعزيز وتسريع لتعريف المجتمع بحقه في الصحة العامة. وكذلك في مسؤولية حكومته ليس فقط في جعل المجتمع يتمتع بالعناية الصحية وإنما أيضا في تأمين الغطاء المادي لهذه العناية. فشعار "الصحة للجميع" يطرح علينا السؤال الخاص بواجبات الدول التي تتجاوز تعزيز المسؤولية التقليدية للصحة العامة إلى مفهوم المسؤولية المبصرة لعلاقة مياه الشرب ومستوى التعليم والغذاء الكافي بالتمتع الفعلي بحق الصحة.
من هنا، كان علينا تحديد مفهوم الصحة نفسه حتى تتكون لنا فكرة واضحة. من جهة عن الشروط الدنيا التي تمكن من ممارسة هذا الحق، وللتعرّف من جهة أخرى على المستويات والآليات والمسؤولية في انتهاكه.
الأمر ليس ببسيط، فالجدل محتدم منذ قرون حول طبيعة الصحّة. وقد زاد التعريف الذي أشاعته منظمة الصحة العالمية الطين بلّة، حيث تجعل منها "حالة من الرفاهية التامة البدنية والنفسية والاجتماعية". وكما يقول الزميل منصف المرزوقي(4)، "نحن هنا أمام تعريف للسعادة وليس للصحة، ومن الصعب أن نترجم مثل هذا الرأي إلى أمور عملية قابلة للمتابعة والتقييم". إننا نوافقه على اعتبار الصحة "حالة الرضى النفسية الناجمة عن قدرة الشخص على الفعل المستقلّ والتفاعل المتوازن بفضل ما يتوفر عليه الجسم من برنامج جيني سليم وما يوفره له المحيط من موارد مادية وعلاقات بشرية إيجابية".
لفهم كيفية بلورة هذا الحق عمليا، لا بد من التفريق بين وضعيات ثلاث هي: تعهد الصحة أي توفير شروطها الدنيا لكلّ شخص حيّ، وحفظ الصحة من الأخطار التي تتهددها، ورد الصحة لمن افتقدها.
* التعهّد: لقد اصبح بديهيا للأطباء اليوم العلاقة المباشرة بين الإمراض (الباثولوجيا) والموت المبكر وبين التمكن من الشروط الدنيا للصحة وهي: الماء الصالح للشرب والغذاء المتوازن والسكن اللاّئق والتعليم.
تظهر كل الإحصائيات في العالم أن أهم عوامل طول العمر والتمتع أطول وقت بالصحة مرتبط بهذه العوامل الأربعة. فالتباين في التمتّع بها (وليس عدد الأطباء والمستشفيات) هو ما يفسر الفرق الشاسع مثلا بين نسبة وفيات الأطفال التي تبلغ في الصومال (219 للذكور /198 للإناث) وفي موريتانيا (174 للذكور/167 للإناث) على الألف، في حين أن النسبة في فرنسا مثلا (4 للذكور/5 للإناث) وفي اليابان تصل إلى خمسة في الألف.
"لقد انتبه الطب الاجتماعي للظاهرة هذه عندما لاحظ أنّ انهيار نسبة الوفيات بالسل في بريطانيا على امتداد القرن التاسع عشر والعشرين بدأ قبل اكتشاف جرثومة "كوخ ". وتواصل قبل اكتشاف المضادات الحيوية. ووصل إلى حدوده الدنيا قبل اكتشاف التلقيح في بداية الخمسينيات. وكان التفسير الوحيد لانهيار الوباء هو التحسن الملحوظ في المستوى المعيشي للسكان وخاصة الغذاء والسكن. وهذا ما يجعل تعهّد الصحة في الواقع مساويا للتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ككل"(5). كذلك يبرز معنا في الدراسات النفسية–الاجتماعية أن الاعتبار الاجتماعي والمهني، والدور، والمشاركة في الشأن العام، والإحساس بحماية المجتمع والدولة للأفراد، عوامل لها تأثيرها الهام على الوضع الصحي العام.
يتّضح مما سبق أن تمكين جموع الناس من شروط الصحة الأساسية مرتبط أوثق الارتباط بكيفية إنفاق الثروة الجماعية وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي.
لقد أظهرت الباحثة الهندية Swaminathan Mina في دراسة قارنت فيها وضعية العائلة في 135 بلدا أن ظروف تعهّد الصحة والحفاظ عليها في ميدان رعاية الأمومة والطفولة تتدرّج من الحسن إلى الأسوأ حسب نسبة التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والنظام السياسي. فأحسن ما يقدم من خدمات هو في البلدان المتقدمة ذات الفلسفة الاشتراكية مثل البلدان الاسكندنافية. تليها البلدان المتقدمة ذات أيديولوجيا السوق. تأتي في المرتبة الثالثة البلدان الفقيرة ذات الأيديولوجية الاشتراكية. أما أسوأ الوضعيات على الإطلاق فهي التي تعرفها البلدان الفقيرة التي اختارت أيديولوجيا السوق.
من البديهي إن مثل هذه البلدان تمنع فعليا من التمتع بحق الصحة في غياب شروط التعهّد وغياب سياسة الحفظ وعدم توفّر الأغلبية على الضمان الاجتماعي الذي يسمح بتغطية مصاريف العلاج.
المفارقة اليوم انه في الوقت الذي تتحسّن فيه في بلدان الشمال إمكانيات الطب العلاجي أي ردّ الصحّة، هناك تدهور كبير في الشروط الأولية للتمتع بحق الصحة في بلدان الجنوب. وكما أشرت أعلاه، فإن جملة المؤسسات الدولية الاقتصادية تعير القليل من الاهتمام لحق الصحة. سواء كان ذلك في برامج إعادة الهيكلة، أو في جدولة القروض، أو في مساعدات الدول الغنية للفقيرة، أو في رفض أية سياسة عالمية لمكافحة التلوث واحترام البيئة على صعيد كوكبنا. ويمكن القول أن التوجه المتسارع للتسلح في أغنى بلد في العالم (الولايات المتحدة) يترك لا محال أثارا سلبية على حق الصحة في بلدان الجنوب.
* حفظ الصحّة : يتعلق الأمر في غياب الشروط الأساسية للصحة بحماية كل المعرّضين للمرض، بحكم عامل الفقر والجهل، بجملة من التدابير أهمها: التلقيح والتربية الصحية وتحسين المحيط والتقصّي screening –depistage ، أي محاولة اكتشاف الأمراض قبل استفحالها.
هذه هي مسؤولية السلطات العمومية ممثلة في برامج متناسبة مع الأوضاع العيانية يلعب فيها الطب الاجتماعي دورا أساسيا. إلا أنه يجب أن لا نغفل مسؤولية المواطنين أنفسهم، إذ يقابل كلّ حقّ واجب. وواجب الصحّة في هذا الصدد هو واجب المواطن في المشاركة الواعية في كل ما من شانه الحفاظ على صحته.
* ردّ الصحّة : يطرح هذا الموضوع عندما يسقط الإنسان فريسة المرض، إما لحدث طارئ أو لعيب خلقي أو لانعدام الظروف الدنيا للصحة وفشل سياسة الحفظ.
يمكن أن ينتهك الحق في رد الصحة بوسائل عدّة منها: العجز عن دفع ثمن خدمات صحية أصبحت في عصر العولمة الرأسمالية تجارة تخضع لقانون العرض والطلب وتتباين فيها جودة الخدمات حسب نسبة المال الذي بحوزة المريض. ومن البديهي إنّ غياب الضمان الاجتماعي الفاعل وانتشار جيوب الفقر، من العوامل التي تحد من تمتع الناس بما يوفره الطب الحديث من إمكانيات.
يضاف لذلك كلّ الانتهاكات الممكنة والمتعلّقة بأخلاقيات الأطباء وتصرفاتهم تجاه وضعيات خاصّة تتميّز بما يمكن تسميته باستغلال السلطة وسوء استعمالها.
يتضح في النهاية أن إعمال حقّ الصحّة قضية بالغة التعقيد ومرتبطة عضويا بممارسة جملة الحقوق الإنسانية الأخرى.
ملاحظات
See: Katarina Tomasevski, Health Rights, in: Economic,Social and Cultural Rights, Martinus Nijhoff Publishers, 1995, p. 125.
جملة الأرقام مأخوذة من منظمة الصحة العالمية في رصدها لأوضاع الدول.
أنظر نص الإعلان والتكملة في: هيثم مناع، الإمعان في حقوق الإنسان، دمشق وبيروت، الأهالي وبيسان وأوراب، الجزء الأول، ص 541 وما بعدها.
منصف المرزوقي، حق الصحة، موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، ج1، مذكور
نفس المصدر.
د. فيوليت داغر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.