ربما لم يسبق ان عرفت احدى سهرات مهرجان قرطاج الدولي على الاقل في السنوات الاخيرة اقبالا جماهيريا في حجم ما شهدته سهرة الاربعاء 1 أوت الجاري مع الفنان جاد المالح في اطار الدورة 43 لمهرجان قرطاج الدولي. طوفان من البشر من مختلف الاعمار غمر المسرح الأثري بقرطاج واودية من السيارات ربضت في الشوارع المحيطة بالمسرح.. احتلت الشوارع والارصفة.. منذ الساعة السادسة مساء والشمس مازالت قوية وساطعة، غصّت المآوي القريبة من المسرح الأثري بقرطاج على اتساعها بالسيارات.. ولم تبق الا بعض الاماكن القليلة في المآوي الخاصة بالمسرح.. جحافل الناس محملين بقوارير الماء والمشروبات وما خفّ حمله من الاطعمة وتلك الصفوف الطويلة التي تكاد لا تنتهي ومختلف الاجراءات الاخرى التي لا بد من المرور بها قبل ان تجتاز آخر نقطة للمراقبة (مراقبة التذاكر والبطاقات) كلها عوامل تجعلك تشعر انك ربما تعيش لحظة تاريخية هامة.. ودون ان تشعر تصدر عنك آهة ارتياح مجرد دخولك الى المسرح لانه حقيقة في مثل هذه الظروف وفي ظل ذلك الاقبال الجماهيري العارم وانت تدخل المسرح تتساءل هل ستجد موطئ قدم الى جانب تلك السيول الجارفة من البشر؟ ثم كيف سيكون العرض في ظل هذه الاجواء الساخنة جدا وازاء جماهير رابضة بالمسرح منذ اكثر من اربع ساعات تنتظر لحظة الحسم بشوق كبير؟ جماهير كانت في حالة انتشاء قصوى تذكرنا باجواء الملاعب خلال المباريات الحاسمة او حتى العروض الرياضية القديمة على الطريقة الرومانية. انطلق العرض بعد العاشرة ليلا بدقائق اي بزيادة اكثر من نصف ساعة عن الموعد المعلن عنه من قبل.. في اجواء اقرب ما تكون الى الهيستيريا العامة وكانك بالجمهور لا ينوي التوقف عن الهتاف. المصافحة الاولى تمت عن طريق الرقص.. لحظات قليلة ثم استدار جاد المالح ليحيّي جمهورا يقابله لاول مرة فاذا بحرارة اللقاء فاقت كل التوقعات دفعت به الى التأكيد على انه لم ير مثل هذا في حياته من قبل.. مرت بضع دقائق واذا بنا جميعا نطمئن على سير العرض.. الجمهور وعلى الرغم من كثرته وعلى الرغم من استعداده لكل شيء سمح بتقديم سهرة ناجحة.. سهرة لطيفة وظريفة ومسلية. تضحك فيها دون انقطاع.. كنا ازاء فنان متكامل، رجل كوميديا كما نتمنى ان يكون عادة رجال الكوميديا، عازف ممتاز وراقص كأفضل ما يكون. اقبل جاد المالح على الركح بلباس المالوف، سراوله الجينز وقميصه الازرق الغامق وسترته التي ينزعها ثم يلبسها من جديد وفق المشهد. لم يكن هناك من ديكور سوى كرسي وآلات موسيقية في زاوية مخفية على الركح وجماعته الذين يمررون له هذه الآلة او الاخرى كلما طلب ذلك. لم نكن ازاء عرض موسيقي ولكن جاد المالح يعوض لوحده جيشا من هؤلاء الذين يؤثثون المسارح عادة من موسيقيين وممثلين. كل حركة يقوم بها وكل نكتة يطلقها الا وتكون سببا في اضحاك الجمهور الى حد القهقهة.. فقد مضى وقت طويل على هذا الجمهور كي يستمتع بعرض كوميدي من هذا الطراز العالي. الوقت مرّ في لمح البصر ومدة العرض التي تجاوزت الساعتين بدت وكأنها ثوان. ساعتان والرجل يظهر من الطاقة والحماس الى درجة تثير الاعجاب، كان يتحرك على الركح، يخترقه طولا وعرضا ويدور من حوله على طريقة الرياضي المتمرّس.. واحيانا يقفز وكأنه يطير.. للاستقبال الجماهيري وذلك الحماس الكبير الذي اظهره الحضور وتلك اللهفة والرغبة المؤكدة في متابعة عروضه دور في انجاح العرض.. ولكن جاد المالح ملك من الموهبة ومن خقة الروح ومن الذكاء ما يجعله قادرا على تحريك الصخور.. هزل من الواقع مستمد من حياة الناس البسيطة ومع ذلك لا نجد وراء نكته سواء تلك المدرجة في عروضه القديمة على غرار «الآخر هو أنا» او في عرضه الجديد «ابي بالأعلى» فلسفة واضحة.. نكته ومشاهده الكوميدية مستمدة من الواقع، من حياة الناس البسطية. نصوصه قريبة جدا من الناس. وبما انه مغربي المولد والمنشإ فان المجتمع المغربي نجده ممثلا في شخوصه وفي نكته بامتياز.. الامر الذي يجعل الجمهور التونسي يشعر وكأنه المعني بالحديث.. فالسكاتشات الخاصة بالانسان المغربي او الجزائري تنطبق ايضا على التونسي ولا نستطيع الا ان نحيي تلك المعرفة وتلك الدراية بخصوصيات هذه المجتمعات التي ينحدر منها جاد المالح وخاصة الجانب الطريف لديها لكن العرض ولئن استعار بعض السكاتشات خاصة من عرضه قبل الاخير التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب بكل ما فيها من اغان وحركات ومواقف، فان عرض قرطاج كان فرصة بالخصوص للارتجال ونحن نعرف كم ان الرجل مبدع في الارتجال.. هو دائما حاضر البديهة ويجد الرد المناسب على اي موقف في قالب هزلي كأفضل ما يكون دون المس بأي كان. كانت المدارج كما سبق وذكرنا تغصّ بالجماهير ولكن لحسن الحظ ان انتصبت شاشات ضخمة من جهة مدخلي المسرح على اليمين وعلى اليسار الامر الذي مكننا من مشاهدة مختلف تفاصيل العرض خاصة وان جاد يخطر له في كل لحظة خاطر فهو يختفي وراء سور المسرح او يصعد الى فوق السور او ينزل بعض درجات احد السلالم بالمسرح معلنا فرحه بالاداء في هذا المكان الفسيح والعتيق. اداء وانشراح لكن هذه الشاشات مكنتنا بالخصوص من مشاهدة مختلف تقاسيم وجهه (الوسيم طبعا ببشرته البيضاء وعينيه الزرقاوين ولون شعره القاتم) وهو يتنقل بين مشهد وآخر.. لقد كان على امتداد العرض في حالة انشراح ويضحك قبل غيره على تلك النكت التي يرويها او السكاتشات التي يقدمها حول بعض السلوكات او العلاقات الاجتماغية (العلاقة مع الاطفال، العلاقة بين الأزواج، العلاقة بين الاصدقاء، بعض المواقف الطريفة وبعض الحالات غير العادية التي يعيشها البعض الخ) كل ذلك يقوله او يجسّمه، وهو يضحك ومنشرح الصدر وهذا الشعور بالارتياح يقدم لنا احد الاسباب التي تجعل الرجل يتماسك على الركح ويحتفظ بنفس الحيوية. فهو يؤدي عمله وهو يستمع كواحد من الجماهير.. سبب هام ينضاف دون شك الى الموهبة والحرفية لكن لا ننسى ايضا الشهرة التي يتمتع بها جاد المالح وهي شهرة عالمية.. شهرة جعلته وهو لم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره (من مواليد 1971) يصل الى القمة ويقدم عروضه دائما مع نفاذ تام للتذاكر ليس فقط في فرنسا بل اينما يحل. ربما لم تكن ظروف الدخول الى المسرح متساوية خاصة لمن لم يسعفه الحظ في الوصول باكرا لكن وعلى ما لاحظنا فان الفرحة بدت عامة.. الجمهور بكامله من اعلى المدارج التي تبدو لنا وكأنها امواج تتلاطم والى الاسفل، لم يخب ظنه.. وامضى لحظات مممتعة.. لم يكن الامر يحتاج الى أكثر من لقطات بسيطة من الحياة (فرنسا والمغرب العربي والمغرب الاقصى بالخصوص) وشيء من خفة الدم وكثير من الجهد.